جاء مشهد اجتياح طالبان الخاطف للمدن والولايات الأفغانية بلا أدنى مقاومة كاشفاً عن عمق التغيرات التي شهدتها أفغانستان على مدار ما يقارب على عقدين كاملين منذ سقوط حكم الحركة على أثر التدخل العسكري الأمريكي، حيث تصدرت تساؤلات محيرة تعليقات المتابعين داخل واشنطن وفي العواصم الغربية وفي مقدمتها كيف تصدعت الدولة الأفغانية رغم الانخراط العسكري الأمريكي والدعم العسكري واللوجستي المتواصل من حلف شمال الأطلسي؟ ثم تتابعت علامات الاستفهام حول تفكك الداخل الأفغاني وقوة الحواضن الاجتماعية لطالبان في مقابل هشاشة الجيش الأفغاني واعتياده الاعتماد على الدعم العسكري الأمريكي وأخيراً ملامح اليوم التالي في أفغانستان والارتدادات المتوقعة على الداخل الأمريكي.
أولاً: لماذا بقيت طالبان؟
يرتبط التساؤل الأبرز المتعلق بالحالة الأفغانية الحالية، بكيفية نجاح حركة طالبان في الحفاظ على استمراريتها لنحو عقدين، بالرغم من الضربات القوية التي تلقتها الحركة منذ عام 2001، إذ استطاعت البقاء وبناء قوتها من جديد، حتى إن بعض التقديرات تشير إلى أن مقاتلي الحركة في الوقت الحالي تتراوح أعدادهم بين 50 و60 ألف مقاتل، بينما أشارت تقديرات أخرى إلى أنهم قد يصلون إلى 100 ألف مقاتل. فقد تبنت الحركة قدراً كبيراً من البرجماتية السياسية، وإفساح مجال أكبر في هيكلها التنظيمي للعرقيات الأفغانية المختلفة، مثل الطاجيك والأوزبك والتركمان، وعدم الاقتصار على عرقية البشتون التي تشكل العمود الفقري للحركة، والتي تشكل نحو 42% من سكان أفغانستان، كذلك فقد تبنت الحركة خطاباً إعلامياً مؤثراً يركز بشكل أساسي على فساد الحكومة الأفغانية، وموالاتها للغرب، وهو ما ساعد الحركة على استمرار تجنيد المزيد من الأتباع لتعويض الخسائر الكبيرة التي تلقتها في السنوات الماضية.
من جهة أخرى، نجد أنه بالرغم من نفي إسلام أباد المتكرر تقديم الدعم للحركة، فقد سلطت العديد من التقارير الضوء على الدعم المالي واللوجستي الذي يُقدم من باكستان إلى طالبان، الذي تمثل في توفير ملاذات آمنة لقيادات الحركة، وانتقال المقاتلين بين الحدود، ودعوة بعض خطباء المساجد القريبة من الحدود مع أفغانستان إلى التبرع بالمال لصالح طالبان، فضلاً عن تنظيم بعض الإسلاميين مؤخراً مسيرات احتفالية في بعض الأماكن الباكستانية احتفالاً بانتصارات الحركة الأخيرة.
ثانياً: أين الشمال الأفغاني؟
كان لافتاً السقوط السريع للشمال الأفغاني في الأيام الماضية؛ حيث استطاع مقاتلو طالبان يوم 14 أغسطس الجاري، السيطرة على مدينة مزار شريف الاستراتيجية، التي تعتبر آخر معقل للقوات الحكومية في شمال البلاد. وقد جاء سقوط المدينة بعد يومين فقط من سفر الرئيس الأفغاني أشرف غني إلى المدينة بهدف حشد القوات لصد هجمات طالبان؛ ما أثار الكثير من التساؤلات حول تغيُّر قواعد المعادلة في الشمال الأفغاني. فتاريخياً، مثَّل الشمال الأفغاني مشكلة كبيرة لطالبان؛ حيث ضم عرقيات الطاجيك والهزارة والتركمان والأوزبك، وهي العرقيات التي كانت متوجسة باستمرار من قوة حركة طالبان وهيمنة عرقية “البشتون” كبرى العرقيات في أفغانستان، التي قامت عليها الحركة في الأساس، بالإضافة إلى خشية أقلية “الهزارة” الشيعية من عودة الهجمات ضدهم من قبل طالبان والجماعات المتطرفة.
بيد أن الواقع في الشمال الأفغاني يبدو أنه تغير كثيراً؛ حيث سعت الحركة إلى كسب ولاء الأقليات العرقية وزعماء القبائل الذين شعروا بالتهميش من قبل الحكومة في كابول، بالإضافة إلى حرص الحركة في الفترة الأخيرة على تقديم نفسها كقوة متعددة الأعراق، وإعطاء مساحات أكبر للأقليات العرقية المختلفة، مثل الطاجيك والتركمان والأوزبك، كما يبدو أن تقارب الحركة مع طهران قدم تطمينات لا بأس بها للهزارة، على الأقل في هذه المرحلة.
ثالثاً: كيف انهار الجيش؟
بالرغم من إنفاق الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها الأوروبيين مليارات الدولارات (أنفقت الولايات المتحدة وحدها نحو 83 مليار دولار أمريكي)، على إعداد وتجهيز الجيش الأفغاني بأفضل المعدات والأجهزة، فإن الجيش الأفغاني تعرض لانهيارات سريعة في الأسابيع الأخيرة. ويعود ذلك إلى العديد من العوامل؛ لعل أهمها تفشي الفساد في الجيش. وتكفي الإشارة إلى أن الأوراق الرسمية لحكومة الرئيس “أشرف غني”، كانت تقدر عدد القوات الأفغانية بنحو 300 ألف جندي، إلا أن الوجود الفعلي للقوات على الأرض، لا يتجاوز سدس هذا العدد؛ وذلك وفقاً لتقديرات عدد من المسؤولين الأمريكيين؛ حيث اتضح لهؤلاء المسؤولين أن الحكومة الأفغانية تبالغ في الأرقام لتحصل على المزيد من الدعم المادي الموجه لدفع مرتبات هؤلاء المقاتلين الوهميين.
بالإضافة إلى غياب المهنية في المؤسستين العسكرية والشرطية، وضعف المؤن والإمدادات الغذائية والمياه المقدمة للجيش، وتخاذل الحكومة والنخب السياسية في البلاد عن تقديم الدعم الكافي للجيش، فضلاً عن تراجُع شرعية الرئيس “غني” وحكومته، بالإضافة إلى فشل استراتيجية التدريب والإعداد الأمريكية. جدير بالذكر أن حركة طالبان قد نجحت حتى 15 أغسطس الجاري، في السيطرة على عواصم 30 ولاية أفغانية من أصل 34، ويشمل ذلك مدن قندهار وهرات ومزار شريف كبرى المدن في البلاد بعد العاصمة كابول.
رابعاً: لماذا انسحبت واشنطن؟
تزامن السقوط المدوي للمدن والولايات الأفغانية مع تسارع وتيرة سحب القوات الأمريكية من أفغانستان في الأشهر الأخيرة، حسب الخطة التي أعلن عنها الرئيس بايدن في 30 أبريل الماضي، التي تقضي بالانسحاب الكامل من الأراضي الأفغانية بحلول نهاية أغسطس الجاري. وبالرغم من المعارضة الكبيرة داخل الولايات المتحدة لهذا القرار، فإن الرئيس بايدن والفريق المؤيد له يبدو مقتنعاً منذ فترة طويلة بضرورة إنهاء أطول حرب للولايات المتحدة، على اعتبار أن هذه الحرب لا يُمكن أن تستمر إلى الأبد، وأن حركة طالبان يُمكن التعايش معها في الوقت الحالي، كما أن على الولايات المتحدة أن تتفرغ لمهام أكبر، على رأسها التحدي الروسي والصعود الصيني؛ حيث يرى هذا الاتجاه أن الوجود الأمريكي في أفغانستان يستنزف الولايات المتحدة.
خامساً: هل يتأثر بايدن؟
بالرغم من إظهار استطلاعات الرأي تأييد غالبية الأمريكيين قرارَ الرئيس بايدن سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، لكن التطورات الأخيرة وسيطرة حركة طالبان على مجمل الأراضي الأفغانية قد تحمل الكثير من التداعيات السلبية على إدارة الرئيس بايدن؛ حيث بدأ بعض الجمهوريين في تشبيه الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بهزيمة فيتنام. وهناك بالفعل تقارير تفيد بأن أمريكا تحاول إقناع طالبان بعدم اقتحام السفارة الأمريكية في كابول؛ من أجل تجنب تكرار مشاهد سقوط “سايجون” عام 1975.
ومن المتوقع أن يساهم الانسحاب الأمريكي من أفغانستان “بدون شروط” وسقوط حكومة “غني” في الترويج لسردية تراجع الولايات المتحدة في العالم، وأنه لا يُمكن للحلفاء الوثوق بالضمانات الأمنية الأمريكية. وقد تزداد التداعيات السلبية لقرار الانسحاب إذا انزلقت أفغانستان إلى أتون حرب أهلية، أو مثلت ملاذاً عالمياً جديداً للإرهاب والجماعات المتطرفة، وهو ما يُمكن أن يؤثر بالسلب على الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي القادمة، لا سيما مع شروع الجمهوريين –وعلى رأسهم “ميتش ماكونيل” و”ليندسي جراهام”– في توظيف هذا الملف لتسجيل مكاسب سياسية لصالح الحزب الجمهوري. كذلك قد تولّد التطورات الأخيرة في أفغانستان صراعاً مكتوماً بين الرئاسة الأمريكية وبين المؤسسة العسكرية، خاصة في ظل مطالبة بعض الشخصيات داخل البتناجون بضرورة وجود استراتيجية واضحة للانسحاب من أفغانستان جنباً إلى جنب مع رفض تيار واسع لفكرة الانسحاب الأمريكي، وهو تطورات قد يكون لها ارتدادات سلبية في المجمل على دوائر صنع القرار الأمريكي.
سادساً: ما ملامح اليوم التالي؟
من المتوقع أن تؤدي سيطرة طالبان السريعة على الدولة الأفغانية إلى زيادة ثقة الحركة بقدراتها، وسوف ينعكس هذا – بالتأكيد – على رفع سقف مطالبها خاصة مع إعلانها رفض تشكيل حكومة انتقالية والحديث عن استلام الحكم بالكامل، ومن جانب آخر يُمكن أن يؤدي استيلاء طالبان على الدولة الأفغانية إلى موجات نزوح من أفغانستان إلى الدول المجاورة، لا سيما مع ميل طالبان إلى فرض أحكام متشددة على النساء والأطفال، وكذلك من المرجح أن تؤدي التطورات في أفغانستان إلى إعطاء زخم جديد لجماعات التطرف العنيف والتنظيمات الإرهابية في العالم، لا سيما في جنوب ووسط آسيا. بيد أنه من غير المرجح أن تسعى طالبان إلى مهاجمة المصالح الأمريكية والغربية أو استفزاز الدول المجاورة. ويظهر ذلك في اتجاهات التهدئة والتسكين لقادة طالبان، وسعيها إلى بناء شبكة علاقات خارجية من أجل زيادة قبول المجتمع الدولي لها.