أعلن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في 9 مارس 2023 عن اقتراحه لموازنة العام المالي المقبل الذي يبدأ في أول أكتوبر 2023 وينتهي في 30 سبتمبر 2024. وقد توقع الاقتراح المكون من 182 صفحة أن يصل إنفاق الحكومة الفيدرالية إلى 6.9 تريليون دولار أمريكي على مدار العام المالي 2024 ،وإن تمثل الهدف منه في تقليص العجز بنحو 3 تريليونات دولار خلال السنوات العشر المقبلة من خلال زيادة الضرائب على الأثرياء من بين أمور أخرى. وعلى الرغم من أهمية تحقيق هذا الهدف، فقد تسبب مشروع الموازنة المقترح في ردود أفعال واسعة، لا سيما بين الديمقراطيين والجمهوريين؛ إذ إنه من المتوقع أن تواجه الموازنة المقترحة رفضاً في مجلس النواب الذي يسيطر عليه الحزب الجمهوري بعد فوزه في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر الماضي.
أهداف “بايدن”
يهدف مشروع الموازنة المقترح إلى تقليل العجز ورفع الضرائب على الأثرياء والشركات الكبرى وغير ذلك من ملامح وأهداف يمكن الوقوف عليها في النقاط التالية:
1– زيادة الضرائب على الشركات وذوي الدخل المرتفع: يدور مشروع الموازنة المقترح حول فرض ضرائب أكبر على الدخل للشركات الأمريكية والأفراد ذوي الدخل المرتفع، بجانب ضرائب الرعاية الطبية الموسعة على أصحاب الدخول الأعلى، لتصل الزيادات الضريبية المتوقعة إلى 4.5 تريليون دولار؛ إذ يستهدف مشروع الموازنة المقترح فرض ضريبة الحد الأدنى على أصحاب المليارات (0.01% من الأمريكيين الأكثر ثراءً).
وبموجب تلك الضريبة، يدفع الأمريكيون الأكثر ثراءً ما لا يقل عن 25% من دخولهم، بما في ذلك الأصول المُقدرة، كما سيضاعف مشروع الموازنة المقترح ضريبة الأرباح الرأسمالية إلى 39.6% بدلاً من 20%، بالإضافة إلى إلغاء بعض الإعفاءات المقدمة للشركات والمستثمرين، وزيادة الضرائب على الشركات إلى 28% مقابل 21% حاليّاً، بجانب زيادة الفئة الضريبية الأعلى على الأمريكيين الذين يكسبون 400 ألف دولار سنوياً إلى 39.6 % بدلاً من 37%. بيد أن تلك الزيادات الضريبية سيوجه جزء منها لصالح زيادة أجور موظفي الدولة الفيدرالية بأكثر من 5%.
2– تعزيز إنفاق وزارة الدفاع: من المقترح زيادة إنفاق البنتاجون ليصل إلى 842 مليار دولار خلال العام المالي الجاري بزيادة تُقدر بنحو 26 مليار دولار بالمقارنة بموازنة عام 2023، ونحو 100 مليار دولار بالمقارنة بموازنة عام 2022. ومن شأن تلك الزيادة أن تُمكِّن وزارة الدفاع من مواصلة بناء قوة مشتركة تمتاز بسرعتها وبقائها ومرونتها الفائقة بما يلبي الأولويات المحددة في استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2022، بما في ذلك بناء المزيج الصحيح من القدرات الدفاعية ضد التهديدات الحالية والمستقبلية، والتصدي للنفوذ الصيني المتزايد، وتعزيز الابتكارات العسكرية، وضمان المرونة التشغيلية في مجابهة التهديدات الدولية المتنامية، وزيادة الرواتب العسكرية.
3– زيادة الأموال المخصصة للخدمات العامة: يهدف المشروع المقترح إلىجعل أحد الصناديق الإنمائية للرعاية الصحية لمدة 25 عاماً على الأقل، وخفض أسعار الأدوية وتكاليف الرعاية الصحية، وتوسيع نطاق الوصول إلى رعاية الأطفال، وزيادة الاستثمارات المخصصة للتصنيع، والحد من الاحتيال والهدر على نحو يوفر مئات المليارات من الدولارات.
أما على صعيد وزارة الأمن الداخلي، فتجدر الإشارة إلى زيادة ميزانيتها إلى 60.4 مليار دولار في العام المقبل، بما في ذلك 865 مليون دولار لخدمات المواطنة والهجرة بالداخل الأمريكي، كما ترغب الإدارة الأمريكية في زيادة موازنة إدارة شؤون المحاربين القدامى كي تصل إلى 137.9 مليار دولار بزيادة لا تتجاوز 3 مليارات دولار بالمقارنة بعام 2023.
كما يهدف مشروع الموازنة المقترح إلى تخصيص أكثر من 800 مليار دولار لمكافحة تغير المناخ والاستثمار في الطاقة النظيفة، بجانب تخصيص 200 مليار دولار لتوفير أماكن مجانية لمرحلة ما قبل المدرسة لجميع الأطفال في سن الثالثة والرابعة، وكذا 22 مليار دولار لبرنامج توفير إجازة طبية للأسرة مدفوعة الأجر، ونحو 160 مليار دولار للنقل العام والسكك الحديدية.
4– استهداف التضخم ودعم النمو: من شأن السياسات السالفة الذكر – إن تم إقرارها – أن تسفر عن انخفاض مستويات التضخم بنسبة 4.3% في العام الجاري، و2.4% في العام المقبل، كما تتوقع إدارة “بايدن” أن يبلغ معدل النمو الاقتصادي 0.6% في عام 2023 و1.5% في عام 2024. بيد أن تحقيق تلك الأهداف من شأنه أن يزيد نسبة الدين العام إلى 117% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2031، ليتجاوز بذلك بعض مستوياته القياسية؛ فعلى الرغم من زيادة الضرائب، لا يمكن التقليل من شأن تزايد النفقات التشغيلية السنوية للبنتاجون والإدارات الحكومية الأخرى، وتزايد حجم الاستثمار في مشروعات البنية (2.3 تريليون دولار)، وكذا حجم الأموال اللازمة لدعم العائلات (1.8 تريليون دولار).
ردود الأفعال
أثار مشروع الموازنة المقترح حالة من الجدل الواسع بين صفوف الديمقراطيين والجمهوريين كل على حدة، وكذلك أثار الجدل داخل كل حزب منهما بين أعضائه، وهو ما يمكن الوقوف على أبرز ملامحه من خلال النقاط التالية:
1– تصاعد الاستقطاب الحزبي بين الديمقراطيين والجمهوريين: انتقد “كيفين مكارثي” (رئيس مجلس النواب الأمريكي) مقترح الموازنة الذي طرحه “بايدن”، ووصفه بأنه “غير جاد على الإطلاق”؛ لأنه يقترح تريليونات الدولارات من الضرائب الجديدة التي سيتكبدها الأمريكيون؛ إما بأسلوب مباشر وإما بأسلوب غير مباشر من خلال ارتفاع تكلفة المعيشة، وقد انتقد تلك السياسة لأنها لا تعالج مشكلة الإنفاق التي تعاني منها واشنطن، ولأن تلك السياسة لا تهدف إلا إلى زيادة الإيرادات. وقد دعا الجمهوريون الذين يسيطرون على مجلس النواب إلى تخفيضات غير محددة في الإنفاق باعتبار ذلك شرطاً لرفع حد الدين الفيدرالي، بيد أن “بايدن” رفض التفاوض على رفع سقف الديون، وقد يتفاوض مع الجمهوريين حول طرق لتقليل العجز، على الرغم من اعتراض الجمهوريين على زيادة الضرائب.
كما انتقد الجمهوريون الإنفاق القياسي لإدارة “بايدن”، ومن بينهم – على سبيل المثال – زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ “ميتش ماكونيل” الذي وصف مشروع الموازنة بأنها “أحلام اليقظة الاشتراكية”، كما دفع السيناتور “جيري موران” بأن ذلك المشروع سيُثقل كاهل الأجيال القادمة بمستويات غير مسبوقة من الديون.
2– احتمالية تزايد الخلافات بين “بايدن” والديمقراطيين: على الرغم من دعم الديمقراطيين الواسع لمبادرات الإدارة الأمريكية الرامية إلى خفض الإنفاق، فقد تسبب الإنفاق العسكري المتزايد للإدارة الأمريكية فيتوترات بين بعضالأعضاء التقدميين في الحزب الديمقراطي.
وعلى صعيد متصل، فإن خطة الرئيس قد تواجه معركة شاقة في مجلس الشيوخ؛ حيث يمكن للعديد من الديمقراطيين من معسكر الوسط أن يقفوا بجانب الجمهوريين في دعم تعديل “هايد”، وهو البند الفيدرالي الذي ينص على أن أموال دافعي الضرائب لا يمكن أن تمول عمليات الإجهاض في الولايات الأمريكية إلا في حالات الاغتصاب وسفاح القربى؛ إذ يُعد “بايدن” هو أول رئيس منذ عقود يستبعد حظر تغطية الإجهاض، وهي الخطوة التي أشاد بها التقدميون بالفعل.
3– اعتراض بعض خبراء الاقتصاد على خطة الإدارة: حذر بعض الاقتصاديين بمن فيهم “لاري سمرز” (الذي كان مستشاراً للرئيسين السابقين “باراك أوباما” و”بيل كلينتون”) من أن مثل هذا الإنفاق الحكومي الهائل قد يؤدي إلى زيادة التضخم؛ ما يجبر مجلس الاحتياطي الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة؛ الأمر الذي ينذر بركود محتمل. وتتوقع موازنة “بايدن” إضافة 14.5 تريليون دولار إضافية إلى ديون الولايات المتحدة الأمريكية على مدى العقد المقبل، وإن توقع البيت الأبيض تسديد الخطة بالكامل في غضون 15 عاماً من خلال الزيادات الضريبية.
4– إمكانية اتساع نطاق الرفض الشعبي: يتزايد السخط الشعبي من الإنفاق الضخم على الأنشطة العسكرية، وقد سبق أن شارك مئات الأمريكيين في مسيرة بواشنطن الشهر الماضي للاحتجاج على الأموال الهائلة التي يتم ضخها في أوكرانيا، فضلاً عن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في الحرب الروسية–الأوكرانية؛ فقد تكون الزيادة المخصصة للإنفاق العسكري مبررة بالنظر إلى الدور الأمريكي المتزايد في تلك الحرب، بيد أنها غير مبررة بالضرورة للمواطنين الأمريكيين مع ارتفاع مستويات التضخم.
ختاماً، سيحدد مشروع الموازنة المقترح أولويات الإدارة الأمريكية في النصف الثاني من ولايتها، ويُنظر إليه على نطاق واسع على أنه اختبار لقوة بعض الموضوعات التي سيركز عليها الرئيس في تلك الفترة، وقد يعيد أيضاً إحياء العديد من الأفكار التي فشلت في كسب الزخم اللازم في الكونجرس، حتى عندما كان الديمقراطيون يسيطرون على كلا المجلسين، بما في ذلك الإجازة العائلية المدفوعة الأجر، والحد الأدنى من الضرائب على الأمريكيين الأثرياء. ولهذه الأسباب، تصف بعض التحليلات ذلك المشروع بأنه أشبه ببرنامج حملة للانتخابات الرئاسية المقررة في 2024، بما يتضمنه من وعود اجتماعية واقتراح بزيادة الضرائب على الأثرياء.