عقب اندلاع الحرب الروسية–الأوكرانية من ناحية، والحصار التكنولوجي المُحكَم على روسيا من ناحية ثانية، يُثار التساؤل عن استكمال روسيا جهودها الرامية إلى الانفصال عن شبكة الإنترنت العالمية من عدمه، وهو الأمر الذي يجد جذوره في السنوات القليلة الماضية؛ فقد أقرت روسيا في مايو 2019 قانون الإنترنت السيادي الذي يسمح بعزل روسيا عن الشبكة العالمية، وهو القانون الذي ألزم جميع شركات الاتصالات بالاتصال بالإنترنت من خلال خوادم على الأراضي الروسية، كما أعلنت روسيا في فبراير 2021 استعدادها للانفصال الإلكتروني عن العالم، على خلفية جاهزيتها القانونية والتكنولوجية للاستقلال عن شبكة الإنترنت الدولية.
محفزات متعددة
تعدَّدت المؤشرات التي تدلل على استعداد روسيا للانفصال عن الشبكة العالمية للإنترنت، وهي المؤشرات التي يمكن إجمالها في النقاط الآتية:
1– تصاعد الضغوط الأمريكية: أكد “ليونارد لافيد” (رئيس اللجنة الروسية لتكنولوجيا المعلومات) أن الضغوط الغربية على روسيا تدفعها صوب التفكير في طرق إضافية لحماية السيادة الروسية في الفضاء السيبراني. وقد تجلَّت تلك الضغوط بوضوح في الحرب الروسية–الأوكرانية؛ حيث بدأت سرعة الإنترنت الروسية تتراجع مع تدفق القوات الروسية عبر الحدود الأوكرانية، وقد بدأ الأمر بتباطؤ “فيسبوك” و”تويتر” قبل أن تحظرهما الحكومة الروسية بالكامل، ثم فرض قيود على خدمات “تيك توك”، وصولاً إلى تقليص كل من “أبل” و”ديل” و”مايكروسوفت” و”أوراكل” عملياتها في روسيا. ولم يَعُد لدى مستخدمي الإنترنت الروس القدرة على استخدام منصة “أمازون” أو “نتفلكس”، وكذلك خدمات دعم الويب، مثل “إير بي إن بي” أو شبكات الدفع مثل “فيزا” و”ماستركارد”؛ ما يُعمِّق المخاوف من الانفصال الكامل عن شبكة الإنترنت العالمية.
2– اقتناع النخب الروسية بضرورة الانفصال: في أوائل شهر مارس الماضي، سرَّب عدد من القراصنة المجهولين عدداً من الوثائق الروسية التي تُظهر عزم روسيا على الانفصال عن الشبكة العالمية للإنترنت في موعد لا يتجاوز 11 مارس 2022. وقد أشارت الوثائق المسربة إلى أن روسيا بدأت استعداداتها النشطة للانفصال عن شبكة الإنترنت العالمية، مؤكدةً ضرورة حماية جميع الخوادم في الأراضي الروسية. وعلى الرغم من انقضاء ذلك التاريخ دون تحقيق الهدف المنشود، دفعت مختلف التحليلات بأن ذلك لا يعدو كونه دليلاً على استحواذ تلك الفكرة على عقل النخبة الروسية التي إن لم تحققها في شهر مارس الماضي، فإنها ستُحققها بالضرورة في الأشهر القليلة المقبلة.
3– التكريس لثنائية شبكة الإنترنت عالميّاً: أعادت الحرب الروسية–الأوكرانية، على اختلاف تبعاتها التكنولوجية، الحديث عن إمكانية انقسام شبكة الإنترنت إلى شبكتَين مختلفتَين في المستقبل القريب، وهي نظرية تبلورت في السنوات الماضية بفعل انفصال الصين عن بقية العالم رقميّاً، وحديث دول أخرى مثل إيران عن رغبتها في الانفصال عن الشبكة العالمية. وقد عزز ذلك مطالبةُ كييف بفصل موسكو عن شبكة الإنترنت العالمية كليّاً، حتى إنها طلبت بالفعل من منظمة “إيكان” الدولية غير الربحية (التي تشرف على النظام العالمي لنطاقات الإنترنت) فصل روسيا فعليّاً عن الإنترنت، لتتوقف عناوين البريد الإلكتروني عن العمل، ويعجز المستخدمون الروس عن تسجيل الدخول. وعلى الرغم من رفض المنظمة الطلب الأوكراني، فإن تلك الخطوة كادت تلبي رغبة النظام الروسي في عزل مواطنيه عن الخارج، التي انعكست في تأكيدات موسكو المتتالية قدرتها على الانفصال عن شبكة الإنترنت العالمية إن لزم الأمر.
4– التقارب الروسي–الصيني: أطلقت الصين في عام 2000 مشروع “جدار الصين الناري العظيم” لفرض الرقابة على ما تراه بكين “ضارّاً” من محركات البحث، كما فرضت شروطاً على شركات التكنولوجيا من أجل العمل في البلاد، بما في ذلك خدمة خرائط “جوجل” التي تقدِّم نسخة خاصة بالصين على سبيل المثال، كما تفرض الهيئات الرسمية في البلاد قيوداً على الألعاب الإلكترونية، ويستخدم المواطنون غالباً محرك بحث “بايدو” (Baidu) من أجل الوصول إلى المعلومات على الويب والبحث عنها، كما تبرز منصة “ويبو” (Weibo) كبديل لكل من “فيسبوك” و”تويتر”، بالإضافة إلى وجود خدمة (Youku Tudou) كبديل محلي لمنصة “يوتيوب”. وفي ظل التقارب الروسي–الصيني في المجال التقني بوجه خاص، والدعم الصيني لروسيا على خلفية الحرب الروسية–الأوكرانية بوجه عام، قد تُصدِّر الصين نموذجها هذا إلى روسيا التي قد تجد فيه الأخيرة بديلاً مقبولاً يخفف وطأة العقوبات الدولية.
5– استحداث كيانات مؤسسية جديدة: عقب العقوبات الاقتصادية والاضطرابات السياسية الداخلية التي أحدثتها الحرب الروسية–الأوكرانية، بات الاستقلال عن صناعة التكنولوجيا الغربية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى؛ فمع عزلها عن مُورِّدي التكنولوجيا الغربيين، تتجه روسيا إلى بناء اقتصاد قائم على الاكتفاء الذاتي على نحو متزايد. وفي الشهر الماضي، أنشأ الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لجنة جديدة للإنترنت والسيادة التكنولوجية في روسيا، وعيَّن “ديميتري ميدفيديف” (الرئيس السابق والنائب الحالي لمجلس الأمن الروسي) رئيساً لها. ووفقاً لصحيفة “موسكو تايمز”، فإن الهدف من هذه اللجنة هو إيجاد بدائل لإمدادات تكنولوجيا المعلومات المهمة التي يحتاجها الاقتصاد الروسي بشدة.
6– التعويل على السيادة التكنولوجية: لقد تكررت تحذيرات مركز التنسيق الوطني الروسي لحوادث الكمبيوتر من خطورة تزايد هجمات القراصنة على موارد المعلومات الروسية، بما فيها البنية التحتية للمعلومات الحيوية، وهي الهجمات التي قد تهدف إلى تعطيل عمل موارد وخدمات المعلومات الهامة لأغراض سياسية، وتنشر مواد مضللة في الفضاء المعلوماتي الروسي لتشكيل صورة سلبية عن روسيا في نظر المجتمع الدولي. وفي هذه الخلفية، أدت الحرب الروسية–الأوكرانية إلى الاحتجاج بالسيادة التكنولوجية أكثر من أي وقت مضي، ليقمع الكرملين بعنف الاحتجاجات المحلية على الحرب، ويحظر مواقع ومنصات إخبارية أجنبية، ويصنف كل من “فيسبوك” و”إنستجرام” كمنظمتين “متطرفتين”، ويحكم الرقابة الروسية على الإنترنت لا سيما مع وصف “يوتيوب” بأنه أداة للحرب المعلوماتية الغربية ضد روسيا.
مؤشرات مضادَّة:
أشارت بعض وسائل الإعلام الروسية إلى امتلاك موسكو القدرات اللازمة للانفصال عن شبكة الإنترنت العالمية؛ إذ أكدت صحيفة “كوميرسانت” الروسية أن التدابير الروسية الرامية إلى الانفصال عن الشبكة العالمية للإنترنت حتى الآن مقتصرة على المواقع الحكومية فقط، وأن روسيا أعدَّت بالفعل البنية التحتية للإنترنت لمواجهة أي انقطاع خارجي أو تهديدات سيبرانية، وأنها تستعد لسيناريوهات مختلفة لضمان إتاحة الموارد الروسية للمواطنين والحفاظ على استمرارية الخدمات والتحكم في أسماء النطاقات الإلكترونية. وهو ما يدلل في مجمله على تعدُّد الجهود الروسية للحيلولة دون انقطاع خدمات شبكة الإنترنت العالمية على الأقل في المدى المنظور. ولكن بالرغم من ذلك، فإن هناك مؤشرات مغايرة تشكك في قدرة روسيا على الانفصال عن شبكة الإنترنت العالمية، وهي المؤشرات التي يمكن الوقوف عليها على النحو الآتي:
1– تزايد المقاومة الداخلية: على الرغم من جهود الحكومة الروسية الرامية إلى الانفصال عن الشبكة العالمية للإنترنت، فإن الوضع الداخلي يدلل على عدم جاهزية روسيا للتحول إلى نظام (DNS) محلي. وما يدلل على ذلك مقاومة مزودي خدمة الإنترنت الروس لضغوط الحكومة لنقل خدماتهم، على الرغم من تهديدهم بفرض غرامات من جراء عدم امتثالهم. وعلى صعيد متصل، يرفض النشطاء الحقوقيون قطع روسيا عن الإنترنت العالمي؛ لأنه قد يزيد سيطرة الكرملين على المعلومات، بما يُكسِب الحكومة الروسية مصدراً جديداً للقوة، وقد يُمهِّد لاستكمال عملية عزل الشعب الروسي عن بقية دول العالم.
2– تفاوت التجربتَين الروسية والصينية: يتزايد اعتماد روسيا اقتصاديّاً وتكنولوجيّاً على العالم الخارجي، على عكس الصين التي أحكمت خناقها على الإنترنت؛ فلا شك في حداثة المحاولة الروسية لبناء الإنترنت السيادي، وخصوصاً أن موسكو أصبحت في السنوات الماضية واحدة من أكثر الدول اندماجاً في الإنترنت العالمي، حتى إن مزودي خدمة الإنترنت الدوليين الذين انسحبوا من روسيا لم يقطعوا خدمات الإنترنت عن البلاد كليةً، وكل ما فعلوه هو الحد من النطاق التردُّدي؛ ما يُقلِّل سرعة حركة الإنترنت مع ازدحام مزودي الخدمة الآخرين بدرجة متزايدة. وعلى عكس الصين التي نمت شركات الإنترنت المحلية فيها إلى شركات عملاقة على مدى أكثر من عقد، لا تمتلك روسيا شبكة إنترنت محلية أو صناعة تكنولوجية رائدة على نحو مماثل.
3– توقف شحنات المواد الخام: لم يعد بإمكان شركات الاتصالات الروسية الوصول إلى المعدات والمواد المستوردة من كل من “نوكيا” و”إريكسون” و”سيسكو”، وهو ما يُقوِّض جهود الحكومة الروسية على صعيد الانفصال عن شبكة الإنترنت العالمية، لا سيما بعدما أوقفت شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات (أكبر شركة لتصنيع أشباه الموصلات الأساسية) شحناتها إلى البلاد، وهو ما دفع شركة “ياندكس” (أكبر شركة إنترنت روسية) إلى التحذير من أنها قد تتخلف عن سداد ديونها بسبب الأزمة؛ ما يعني أن سوق تكنولوجيا المعلومات والأجهزة والبرمجيات التي تعتمد عليها روسيا، قد تعرضت لأضرار بالغة في الوقت الحالي، وقد تُمنَى بمزيد من الخسائر في حالة الانفصال عن شبكة الإنترنت العالمية، وخاصة مع تعدُّد العقوبات المفروضة على الاقتصاد الروسي، ونقص المكونات، وصعوبة تحقيق الاكتفاء التكنولوجي الذاتي على المدى القصير.
4– هجرة العقول البشرية: عانت روسيا من هجرة العقول والمواهب البشرية قبل حربها ضد أوكرانيا. وفي العام الجاري فحسب، غادر عشرات الآلاف من المتخصصين في المجال التكنولوجي البلاد، مدركين أن أي سوق خارجية بخلاف السوق الروسية ستُقدم أجوراً أفضل، وتُطلِق العنان للحريات دون تنازلات أخلاقية جمة. وقد حاولت موسكو تأجيل الخدمة العسكرية الإجبارية للعاملين في هذا المجال، ومددت خطوط الائتمان المواتية للشركات التي يمكنها الاحتفاظ بنسبة 85% أو أكثر من أعداد القوى العاملة في شهر مارس دون جدوى.
5– تباطؤ المساعدات الصينية: قد تنحصر المساعدات الصينية في صورة أشباه الموصلات التي حدَّت العقوبات الأمريكية من توريدها بدرجة كبيرة؛ إذ تشكك التحليلات في مدى تدخُّل الصين المحتمل لملء الفجوة التكنولوجية التي تواجهها روسيا لتزودها بأشباه الموصلات التي لا تمتلك صناعة التكنولوجيا المحلية القدرة على إنتاجها، لا سيما بعد أن حذر الرئيس الأمريكي “جو بايدن” الشركات الصينية من أنها ستتعرَّض للعقوبات إذا زوَّدت روسيا بها، وخاصةً تلك التي تعتمد على المكونات الأمريكية، ولكن لا يزال بإمكان الشركات الصينية توسعة السوق الروسية دون توفير أشباه الموصلات وغيرها من الأجهزة بالضرورة.
ختاماً، عقب الحرب الروسية–الأوكرانية، اتخذت روسيا خطوات إضافية لتقليل الوصول إلى الخدمات الغربية بهدف السيطرة على المعلومات المتداولة، كما أحكمت رقابتها على مؤسسات الإعلام المحلية، وفرضت تشريعات تُجرِّم المحتويات “الضارَّة”. ومع ذلك، يبدو أن فكرة الانفصال عن شبكة الإنترنت العالمية أقرب إلى أن تكون مبدأ تسعى روسيا للوصول إليه من كونها سياسات يمكن تحقيقها في المدى القصير على الأقل. ويمكن القول إن الحرب الروسية–الأوكرانية سلَّطت الضوء على ضرورة توطين المنصات الاجتماعية، ونقل خدمات استضافة الويب والأعمال الخاصة بها إلى الخوادم الروسية، لتشهد السنوات القليلة القادمة جهوداً مضنية تُلقِي بظلالها على مستقبل الإنترنت العالمي.