البجعة السوداء:

لماذا طرح نائب وزير الدفاع الأوكراني سيناريو التطورات غير المتوقعة؟
البجعة السوداء:
24 نوفمبر، 2022

أعرب نائب وزير الدفاع الأوكراني الجنرال فولوديمير هافريلوف، في مقابلة مع محطة “سكاي نيوز” التلفزيونية البريطانية، في 19 نوفمبر الجاري، عن تفاؤله بوصول قوات بلاده إلى شبه جزيرة القرم بحلول نهاية ديسمبر المقبل، وإمكان إنهاء الحرب داخل أوكرانيا بحلول النصف الأول من العام المقبل، لكنه اعترف أيضاً بأن الحرب من الممكن أن تطول لبعض الوقت من وجهة نظر عسكرية، في ظل حاجة الجيش الأوكراني إلى وقت أطول لرفع كفاءته من جهة، والإمدادات العسكرية الروسية وإرسال قوات جديدة إلى جبهات القتال من جهة أخرى، لكن تعكس التصريحات بشكل عام تفاؤل القائد الأوكراني بأن استعادة قواته المزيد من المناطق “مسألة وقت”، مع طرح سيناريو “البجعة السوداء” في روسيا، الذي تنعكس آثاره على العملية العسكرية بالشكل الذي قد يُمكِّن كييف من تسريع وتيرة عملية استعادة الأراضي، وهو ما طرح تساؤلات حول المقصود بسيناريو “البجعة السوداء” الذي طرحه نائب وزير الدفاع الأوكراني، وإمكانات حدوثه، وتأثيراته على مسار الحرب.

مؤشرات أساسية

تعود نظرية “البجعة السوداء” إلى افتراض غربي كان يقوم على أن البجع كله أبيض، قبل أن يجري اكتشاف البجع الأسود في أستراليا. وتم نقل هذا الافتراض إلى التحليلات السياسية والاستراتيجية للإشارة إلى الأحداث أو التغيرات غير المتوقعة التي تؤثر بشكل كبير على مسار الأحداث. ورغم أن نائب وزير الدفاع الأوكراني لم يحدد تفصيلاً ما قصده بسيناريو “البجعة السوداء” داخل روسيا، والمؤشرات التي دفعته إلى التفكير في احتمالية حدوث ذلك، فإنه يمكن تناول هذا السيناريو على النحو التالي:

1– تكهن أوكراني باحتمالية حدوث تطورات سياسية غير متوقعة: ينطوي تصريح نائب وزير الدفاع الأوكراني، الذي أشار فيه إلى سيناريو “البجعة السوداء”، على تكهن أوكراني باحتمالية حدوث تطورات سياسية غير متوقعة قد تؤثر على الكرملين، كأن يغيب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن المشهد السياسي بأية شكل، أو أن يفقد السيطرة على القوات الموجودة في أوكرانيا. ويرتبط هذا السيناريو، في ذهن القائد الأوكراني، على الأرجح، بأن ينتهي حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظراً إلى الشعور بخيبة الأمل في روسيا حيال مسار الحرب؛ ما يعطي الفرصة لأوكرانيا لمواصلة انتصاراتها وتحقيق المزيد من التقدم.

2– رفض أوكرانيا تسهيل الانسحاب التفاوضي على بوتين: يرفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، طرح خيار الانسحاب والتفاوض في الوقت الراهن؛ حيث تضع كييف خمسة شروط تجعل موافقة بوتين على التفاوض مستبعدة، أو قبولها يؤثر على مكانة بوتين في روسيا ويرفع احتمالات فقدان السيطرة على الأمور أو تطيح به كما ترغب كييف باعتبارها شروطاً صعبة أو “مذلة” كما تصفها بعض التقارير، وهي: استعادة وحدة الأراضي، واحترام ميثاق الأمم المتحدة، والتعويض عن جميع الأضرار التي سبَّبتها الحرب، ومعاقبة كل مجرم حرب، وضمان عدم تكرار الحرب.

كما استبعد الرئيس الأوكراني فكرة إقرار “هدنة قصيرة” باعتبار أن ذلك يُريح قواتها، ويمنحها الوقت لاستعادة القوة الهجومية بكفاءة. ويشير هذا الموقف الأوكراني إلى محاولة كييف تكثيف الضغوط على القيادة الروسية، وأن ما تحققه القوات الأوكرانية من تقدُّم يدفع كييف إلى استثمار ذلك وتصدير المزيد من الضغوط على النظام الروسي. ووفق منظور كييف فإن رفض تسهيل الانسحاب التفاوضي يُعطِيها فرصة مواصلة الانتصارات بالشكل الذي قد يؤثر على استقرار النظام الروسي، أو لجوء القيادة الروسية إلى قبول تنازلات تؤثر أيضاً على مكانتها.

3– توالي الانسحابات العسكرية الروسية: يشهد مسار الحرب الروسية في أوكرانيا عدة إخفاقات متتالية، عبر انسحاب القوات الروسية من محيط العاصمة الأوكرانية كييف، وفشل السيطرة عليها، ثم الانسحاب من خاركيف، وأخيراً من خيرسون. وتُمثِّل تلك الانتكاسات العسكرية الثلاثة خلال أقل من 9 شهور من بدء الحرب، إشارةً سيئةً إلى فشل الجيش الروسي وتراجعه ميدانياً. وتُشير تقارير إلى أن روسيا قد فقدت 100 ألف ضحية، ونحو 50% من الأراضي التي سبق أن سيطرت عليها؛ ما يثير الشكوك في فاعلية القيادة العسكرية وفي جدوى الحرب، وكذلك في جدوى الانتصارات التي سبق أن حققتها روسيا، ثم تراجعت عنها. ودفعت تلك الانسحابات نخباً روسيةً إلى اعتبار أن موسكو لا تستطيع تقديم تنازلات أكثر من ذلك؛ ما يجعل كييف تضغط في اتجاه إجبار موسكو على المزيد من الانسحابات العسكرية، كمحاولة لتعظيم السخط والغضب على إدارة الكرملين للحرب.

4– تهديد الحرب مكانة “بوتين” بين الروس: يُعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على نطاق واسع، زعيماً للبلاد، و”رمزاً” لقوة الصعود الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وحرص “بوتين” على ربط صورته في مخيلة العامَّة بل الساسة، بصورة الرجل الاستخباراتي والعسكري القوي القادر على إعادة بلاده إلى مصاف الندية والقطبية مع الغرب، واستعادة روسيا مكانتَها الدولية، إلا أن ما تعانيه موسكو في حربها على أوكرانيا من تراجع ميداني، وتأخُّر في تحقيق الأهداف العسكرية، وطول أمد الحرب عما كان مُخطَّطاً له كعملية عسكرية؛ يُهدد باهتزاز صورة بوتين لدى الروس، وأن تصيب الحرب الروس بخيبة أمل تجاه قوة وقدرة قائدهم على إدارة الأمور؛ الأمر الذي يهدد استقرار النظام الروسي، ويضر بسنوات من عملية بناء الرمزية والصورة السياسية لبوتين في روسيا، بالشكل الذي قد يهدد مكانته بين الروس العاديين، فلا يعودون يرون فيه القائد الذي يُعيد أمجاد موسكو.

5– الإطاحة بعدد من كبار قادة الجيش الروسي: أطاحت الحرب الأوكرانية بعدد من كبار قادة الجيش الروسي؛ حيث جرى فصل 8 قادة على الأقل أو إعادة تعيينهم أو تهميشهم، كما قُتل 10 جنرالات روس آخرون على الأقل في المعارك. وبعد أن عُيِّن الجنرال ألكسندر دفورنيكوف، في أبريل الماضي، قائداً عاماً للعمليات العسكرية في أوكرانيا، أُقيل من منصبه بعد قرابة سبعة أسابيع رداً على الخسائر الفادحة والفشل الاستراتيجي.

كما تم تجريد الكولونيل الجنرال أندريه سيرديوكوف، من منصبه قائداً عاماً لقوات النخبة المحمولة جواً، بعد أن تكبَّدت فرق القوات المحمولة جواً خسائر فادحةK فيما أُقيل الكولونيل جنرال ألكسندر جورافليف رئيس المنطقة العسكرية الغربية المسؤولة عن خاركيف، بعد التراجع الروسي في المنطقة. وتطرح تلك الإقالات آمالاً لدى الأوكرانيين بأن تتسبب في إثارة غضب كبار القادة العسكريين الروس تجاه القيادة السياسية الروسية، مع شعور القادة الحاليين بعدم الثقة بالقيادة السياسية.

6– المراهنة الأوكرانية على تزايد حالة الاستياء الشعبي في روسيا: تُراهِن أوكرانيا والدول الغربية على تنامي حالة الاستياء الشعبي داخل روسيا نتيجةً لطول أمد الحرب. وفي هذا الصدد، روَّجت العديد من التقارير الغربية إلى تزايد حالة الاستياء الشعبي من مسار الحرب الأوكرانية، وأنها لا تحظى بتأييد قطاعات واسعة من الروس؛ ما يؤثر على قدرة القيادة الروسية على دفع مزيد من القوات التي يتم تجنيدها إلى ساحة القتال، وهو ما ظهر أيضاً من رد الفعل السلبي من قبل البعض تُجاه قرار التعبئة العسكرية الجزئية الذي أعلن عنه الرئيس الروسي في سبتمبر الماضي.

7– التعويل على زيادة الانقسام في صفوف النخبة الروسية: منذ بدء العملية العسكرية الروسية، بدا أن النخبة الروسية لا تتخذ موقفاً موحداً تجاه الحرب؛ فعلى سبيل المثال، أعرب اثنان من أغنى رجال الأعمال والأثرياء في روسيا، في فبراير الماضي، عن معارضتهما الحرب التي شنتها موسكو على أوكرانيا؛ هما: ميخائيل فريدمان وأوليج ديريباسكا، بالإضافة إلى مجموعة صغيرة من المشاهير الروس البارزين، بما في ذلك الممثلون والموسيقيون ومقدمو البرامج التلفزيونية، فضلاً عن بعض النخبة السياسية، مثل أركادي دفوركوفيتش نائب رئيس الوزراء الروسي السابق، الذي انتقد في مارس الماضي قرار الحرب ضد أوكرانيا، وقال في مقابلة إن “أفكاره مع المدنيين الأوكرانيين”، وأناتولي تشوبايس الذي استقال في الشهر ذاته من منصبه مبعوثاً دولياً للرئيس الروسي.

وهكذا، تأمل كييف أن تزيد الهزائم والتراجع العسكري الروسي الأخير من الانقسام في صفوف النخبة الروسية، واتهام بوتين بتوريط البلاد في تلك الحرب، خاصةً أن إحداث انقسام وغضب في صفوف النخبة الروسية يعد أحد أهداف فرض عقوبات اقتصادية على أفراد تلك النخبة.

8– احتمالية تفاقُم ضغوط القوميين الروس على الرئيس بوتين: رغم أن الرئيس الروسي عمل على توظيف الحرب الأوكرانية لرفع أسهمه بين القوميين الروس، الذين وظَّف خطابهم السياسي في تلك الحرب؛ فإن الانسحابات الروسية، وتزايد الخسائر العسكرية، وعدم تحقيق أهداف العملية العسكرية التي بدأت في فبراير الماضي، تثير غضب هذا المعسكر الذي يطالب بمزيد من الإجراءات الحازمة. ومن ثم فإن الدعاية الروسية التي روج لها الرئيس الروسي لتبرير حربه على كييف، تمثل إحدى الأدوات الضاغطة عليه لاستكمال الحرب وتحقيق مكاسب، وقد يدفعهم مسار الحرب الحالي إلى فقدان الثقة بوزارة الدفاع، والحكومة بشكل عام، مع المطالبة بمعاقبة القادة الذين تسببوا في هزيمة وتراجع القوات الروسية؛ ما دعا تقديرات استخباراتية غربية إلى التحذير من أن خيار الانقلاب على الرئيس الروسي إذا حدث، فمن الممكن أن يكون لصالح شخصية أكثر تطرفاً من المنظور الغربي.

آمال أوكرانية

ختاماً، رغم أن سيناريو “البجعة السوداء”، بطبيعة تعريفه، هو سيناريو غير متوقع، وتحيطه العديد من العوامل التي تجعله سيناريو غير مألوف أو غير محتمل؛ فإنه حال حدوثه تُعوِّل كييف على أن يُسرِّع من تقدمها العسكري، بطريقة تختلف باختلاف آلية وشكل حدوثه، سواء جرى تنفيذ هذا السيناريو على هيئة تراجع روسي نتيجة الضغوط الاقتصادية والعسكرية والدولية والمحلية، أو على هيئة صراع سياسي داخل الطبقة الحاكمة الروسية، أو على هيئة سيناريو الإطاحة ببوتين الذي تناولته وسائل إعلام غربية، أو غير ذلك.

وعليه، تراهن كييف على أن يسهل أيٌّ من الأحداث المفاجئة وغير المتوقعة، من تقدمها الميداني واستعادة جميع أراضيها، بما فيها شبه جزيرة القرم. ويشير رد المسؤول الأوكراني على السؤال في المقابلة حول السبب الذي يجعله يؤكد المدى الزمني الذي أعلنه لانسحاب وهزيمة القوات الروسية بأنه مجرد “حدس”، إلى أن طرح سيناريو “البجعة السوداء” من قِبل نائب وزير الدفاع الأوكراني فولوديمير هافريلوف، لا يعدو أن يكون تعبيراً عن مجرد آمال أوكرانية في حدوث تطورات وأحداث مفاجئة غير متوقعة.

ورغم أن سيناريو التراجع الروسي تقابله سيناريوهات مضادَّة أخرى تدفع باتجاه تقدُّم موسكو مرة أخرى، أو على الأقل عدم هزيمتها في تلك الحرب، وحفاظها على بعض المكاسب، وليس خسارة مكاسبها التي حققتها قبل نحو 8 سنوات بضمها شبه جزيرة القرم كما يتوقع نائب وزير الدفاع الأوكراني، فإن تطورات الحرب خلال فصل الشتاء الحالي – على كلٍّ – من المُحتمَل أن تساهم بدرجة كبيرة في رسم ملامح وسيناريوهات مستقبل الحرب الأوكرانية، خاصةً في ظل تعويل موسكو على الضغط على الأوروبيين بورقة الغاز، وأن يحبطهم طول أمد الحرب عن مواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا.


الكلمات المفتاحية:
https://www.interregional.com/%d8%a7%d9%84%d8%a8%d8%ac%d8%b9%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%af%d8%a7%d8%a1/