التصعيد المُنضبط:

ثلاثة سيناريوهات محتملة للعلاقات الأمريكية–الروسية
التصعيد المُنضبط:
22 أبريل، 2021

أعلنت موسكو، في 16 أبريل الجاري، عن سلسلة من القرارات شملت طرد وحظر دخول مسؤولين أمريكيين كبار إلى أراضيها، كما كشف وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن أن بلاده نصحت السفير الأمريكي لديها بالمغادرة لإجراء “مشاورات جدية”. وتأتي الخطوة الروسية الأخيرة ردًّا على سلسلة عقوبات أعلنت عنها الولايات المتحدة يوم الخميس 15 أبريل، شملت طرد عشرة دبلوماسيين روس، وغيرها من العقوبات.  

دوافع التصعيد

هناك العديد من الدوافع المحفزة على التصعيد بين الولايات المتحدة وروسيا خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يمكن تناولها على النحو التالي:

1– مساعي بايدن إلى الوفاء بالتعهدات الانتخابية: أعلن الرئيس بايدن مرارًا أنه خلافًا للرئيس السابق ترامب، سوف يتبنى سياسات حازمة تجاه روسيا، مشيرًا إلى أن سياسة التراخي مع موسكو قد انتهت، لا سيما فيما يتعلق بالهجمات السيبرانية الروسية، التي تؤكد الإدارة الأمريكية تورط روسيا فيها. بالإضافة إلى الادعاءات بتدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ حيث أشارت المخابرات الأمريكية إلى أن الرئيس بوتين سمح بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020 للتأثير على الانتخابات، وتقليل فرص جو بايدن في الفوز؛ وذلك عن طريق ترويج مزاعم مضللة لتشويه سمعة بايدن.

ومن ثم، يُمكن أن يُفهم التوتر الحالي كمحاولة من الرئيس بايدن لإظهار الحزم تجاه روسيا وفاءً بوعوده الانتخابية التي أكد فيها مرارًا أنه سوف يرفع التكلفة التي يمكن أن تدفعها روسيا من جراء سياساتها، وأن الولايات المتحدة سوف تتصرف بحزم للدفاع عن مصالحها الوطنية.

2– الاشتباك حول قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان: تعتبر القضايا المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وطبيعة النظر إليها؛ من أبرز القضايا الساخنة بين الطرفين. وفي هذا الصدد تبرُز قضية تسمم المعارض الروسي أليكسي نافالني، والتظاهرات الأخيرة في روسيا؛ حيث انتقد بايدن بشدة في أول خطاب له يوم 4 فبراير 2021 عن أن من أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، اعتقال السلطات الروسية المعارض نافالني، معتبرًا أن نافالني فضح الفساد في روسيا، ويجب إطلاق سراحه، كما يجب احترام حقوق الإنسان وعدم قمع التجمعات السياسية في روسيا، معتبرًا أن هذه الأمور تعتبر مبعث قلق للأسرة الدولية، كما أعلنت واشنطن في 2 مارس 2021، فرض عقوبات على سبعة مسؤولين روس و14 كيانًا على صلة بإنتاج مواد كيميائية؛ وذلك على خلفية وجود مزاعم بتورطهم في قضية تسميم أليكسي نافالني.

3– انتقادات بايدن الحادة لسياسات بوتين: لم يكد يمر شهران على تنصيب بايدن رئيسًا للولايات المتحدة، حتى بدأت أول أزمة دبلوماسية مع روسيا، بعد تصريح بايدن بأنه يعتقد أن نظيره الروسي فلاديمير بوتين قاتل، وأنه سيدفع ما وصفه بـ”ثمن أعماله”. وقد تسببت تلك التصريحات في استدعاء موسكو سفيرها في الولايات المتحدة للتشاور. وفي رده على تصريحات بايدن اعتبر بوتين أن “القاتل هو من يصف الآخر بذلك”.

مظاهر التوتر

تتعدد مظاهر التوتر بين واشنطن وموسكو خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1– فرض عقوبات أمريكية واسعة على موسكو: أعلن البيت الأبيض يوم الخميس 15 أبريل الجاري أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على روسيا؛ وذلك ردًّا على مزاعم بتورط موسكو في هجمات إلكترونية وأعمال عدائية أخرى ضد واشنطن، بما فيها التدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وحسب البيان، فإن الإجراءات تهدف إلى ردع ما يوصف بـ”أنشطة روسيا الخارجية الضارة”. وتستهدف العقوبات، عشرات الكيانات الروسية، وعددًا كبيرًا من المسؤولين والدبلوماسيين الروس.

كما تستهدف العقوبات 16 شخصية روسية، و16 كيانًا يُتهمون بمحاولة التدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020، وغيرها من الأعمال العدائية، كما شملت العقوبات طرد 10 دبلوماسيين روس، منهم أشخاص يُعتقد أنهم جواسيس في الولايات المتحدة، كما تمنع العقوبات المؤسسات المالية الأمريكية من شراء السندات المقومة بالعملة الروسية (الروبل) اعتبارًا من 14يونيو 2021.

وحسب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، فإن سلسلة العقوبات الجديدة، سوف تعمل على تقليص الموارد الروسية المتاحة للقيام بأنشطة خبيثة مماثلة، وأضاف قائلًا: “تهدف هذه الإجراءات إلى محاسبة روسيا على أفعالها المتهورة.. سنتصرف بحزم ردًّا على الإجراءات الروسية التي تُلحق الضرر بنا أو بحلفائنا وشركائنا، وستسعى الولايات المتحدة أيضًا إلى فرص تعاون مع روسيا حيثما كان ذلك ممكنًا؛ وذلك بهدف بناء علاقة أكثر استقرارًا ويمكن التنبؤ بها وتتوافق مع المصالح الأمريكية”.

2– طرد روسيا بعض الدبلوماسيين الأمريكيين: حذرت موسكو، على لسان الناطقة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا، من فرض عقوبات أمريكية على بلادها، معتبرةً أن مسؤولية ما يحدث في العلاقات مع روسيا تقع بالكامل على عاتق الولايات المتحدة. يأتي هذا فيما أعلن وزير الخارجية الروسي أن بلاده ستطرد 10 دبلوماسيين أمريكيين ردًّا بالمثل على التصرفات الأمريكية، كما ستضع موسكو 8 مسؤولين أمريكيين على قائمة العقوبات الروسية.

فيما كشف وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن بلاده نصحت السفير الأمريكي لديها بمغادرة البلاد، مضيفًا أن بلاده قد تطلب من واشنطن تخفيض عدد موظفي بعثاتها الدبلوماسية في روسيا إلى 300 شخص. وأضاف لافروف أن موسكو ستوقف عمل المؤسسات غير الربحية والصناديق الأمريكية في روسيا، التي تتدخل في الشأن الداخلي الروسي على حد قوله، مشيرًا إلى أن بلاده لديها إمكانية لاتخاذ إجراءات مؤلمة بحق الأعمال الأمريكية في روسيا، ولكن ستبقيها محل نظر.

3– تصاعد التوترات حول الملف الأوكراني: يأتي فرض العقوبات المتبادل بين الولايات المتحدة وروسيا بالتزامن مع تصاعد كبير للأوضاع في أوكرانيا، في ظل حشد موسكو عشرات الآلاف من الجنود على الحدود مع كييف، فيما دعا الرئيس الأوكراني، يوم الجمعة 16 أبريل، إلى ضم بلاده إلى حلف الناتو، وهي الخطوة التي تعارضها موسكو بشدة. هذا وقد تصاعدت التوترات بشدة بين روسيا وأوكرانيا منذ عدة أسابيع؛ إذ تتهم الأخيرة موسكو بأنها تبحث عن ذريعة لاقتحام أراضيها. وفي المقابل، تتهم موسكو كييف بالتحضير لهجوم ضد الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا.

يذكر أن توتر العلاقات بين موسكو وكييف قد ألقى بظلاله على العلاقات بين روسيا وحلف الناتو؛ فقد أكد الكرملين في وقت سابق من شهر أبريل الجاري، أن ظهور قوات أمريكية في أوكرانيا سوف يزيد التوتر، وسوف يدفع روسيا إلى اتخاذ إجراءات إضافية لضمان أمنها، فيما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل روسيا إلى سحب قواتها من مناطق الحدود مع أوكرانيا.

4– الانتشار العسكري الروسي في البحر الأسود: استمرارًا للتصعيد، أرسلت روسيا 15 سفينة حربية إلى البحر الأسود لإجراء مناورات، يوم السبت 17 أبريل. يأتي هذا فيما أكدت السلطات الروسية أنها ستُعلق عبور السفن العسكرية وسفن رسمية أخرى في المياه الإقليمية التابعة للاتحاد الروسي؛ وذلك في الفترة من 24 أبريل منذ الساعة التاسعة ليلًا حتى 31 أكتوبر الساعة التاسعة ليلًا. وتشمل بعض المناطق التي أعلنت السلطات الروسية تعليق عبور السفن فيها “مضيق كيرتش”، الذي يربط البحر الأسود ببحر آزوف، ويحظى بأهمية كبيرة بالنسبة إلى الصادرات الأوكرانية من الفولاذ والحبوب.

يأتي هذا فيما اتهم وزير الخارجية الأوكراني موسكو بالتهديد علنًا بتدمير كييف، فيما أطلقت أوكرانيا مناورات على الحدود مع شبه جزيرة القرم في البحر الأسود، كما وصل وزراء خارجية كل من أستونيا ولاتفيا وليتوانيا إلى العاصمة الأوكرانية كييف لإظهار التضامن مع أوكرانيا. وفي خطوة تصعيدية، أعلنت وكالة الأمن الفيدرالي الروسية، يوم السبت 17 أبريل، أنها اعتقلت القنصل الأوكراني في سان بطرسبرج متلبسًا، أثناء تلقيه معلومات سرية من مواطن روسي.

السيناريوهات المحتملة

يمكن تناول ثلاثة سيناريوهات متوقعة لهذا التوتر الكبير في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا؛ وذلك على النحو التالي:

1– تدهور العلاقات الثنائية: يفترض هذا السيناريو أن العلاقات قد تزداد سوءًا في الفترة المقبلة؛ وذلك بالنظر إلى تعقُّد الخلافات بين البلدين وتراكمها، التي تتوزع بين قضايا داخلية تتعلق بالتجسس والتدخل في الانتخابات وحقوق الإنسان وغيرها من الملفات، بالإضافة إلى تضارب كبير في المصالح على الساحة الدولية، سواء فيما يتعلق بمشروع خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” الذي من المقرر أن يضاعف كمية الغاز الروسي المنقولة إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، في حين تفرض الولايات المتحدة عقوبات على المشروع؛ حيث ترى أنه سوف يزيد اعتماد أوروبا على روسيا، أو في ملفات معقدة مثل الملف السوري، وقضية ضم شبه جزيرة القرم، والأوضاع في بيلاروسيا. وفي هذا السياق، أعلن جهاز الاستخبارات البيلاروسي، يوم السبت 17 أبريل الجاري، عن التعاون مع جهاز الأمن الروسي في إحباط محاولة (مدعومة من واشنطن) لاغتيال الرئيس ألكسندر لوكاشينكو وقلب نظام الحكم في البلاد.

بيد أن التصعيد الكبير على الحدود مع أوكرانيا وفي البحر الأسود، يعتبر الأخطر في الوقت الحالي؛ حيثتحشد موسكو عشرات الآلاف من الجنود على الحدود مع أوكرانيا؛ وذلك بالتزامن مع انهيار اتفاق وقف إطلاق النار بين القوات الحكومية الأوكرانية والجماعات الانفصالية المدعومة من روسيا، الذين يقاتلون ضد حكومة كييف منذ سنوات.وفي ضوء التصعيد والمناورات العسكرية الضخمة في المنطقة، فإن أي تفاقم للأوضاع في أوكرانيا قد يؤدي إلى المزيد من تصاعد التوتر في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا.

2– سياسات خفض التصعيد: ينطلق هذا السيناريو من فرضية مفادها أن التصعيد الكبير للتوتر لا يحقق مصالح الطرفين، لا سيما مع كثرة مجالات التعاون بينهما، مثل التعاون في مجالات الحد من التسلح، والبرنامج النووي الإيراني وأفغانستان، ومنظمة الصحة العالمية، وقضايا تغير المناخ وغيرها من المجالات، بالإضافة إلى تركيز الولايات المتحدة على التنافس مع الصين. وفي هذا الصدد، دعا الرئيس الأمريكي جو بايدن، يوم 13 أبريل الجاري، نظيره الروسي إلى قمة في دولة ثالثة خلال الأشهر القادمة؛ وذلك للعمل على بناء علاقات مستقرة بين الجانبين، كما أعلن بايدن، في محادثة هاتفية مع بوتين، عن قلقه الشديد من الحشود العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم، داعيًا موسكو إلى خفض التوترات.

يأتي هذا فيما أعلنت الخارجية الروسية أنها تنظر بإيجابية إلى مقترح البيت الأبيض عقدَ قمة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي جو بايدن رغم التوتر بين البلدين، فيما عرضت فنلندا استضافة القمة المرتقبة بين بايدن وبوتين، وفق ما أعلنت الرئاسة في هلسنكي يوم الجمعة 16 أبريل الجاري، كما أعلنت النمسا أيضًا استعدادها لاحتضان اللقاء. ويمكن أن يشكل عقد قمة بين الجانبين فرصة لنزع فتيل التوتر الحالي بين الطرفين.

3– التوازي بين التصعيد والتهدئة: يرى هذا السيناريو أن العلاقات بين الجانبين سوف تراوح مكانها؛ حيث التوازي بين التصعيد ومحاولات التهدئة؛ وذلك بالنظر إلى تعقُّد الخلافات بين الطرفين، وتعدُّد مجالات التعاون بينهما في قضايا مثل الملف النووي الإيراني، وقضايا المناخ، والأزمة السورية. ومن ثم، فإن إدارة بايدن –على ما يبدو– سوف تنتهج سياسة مفادها إمكانية العمل المشترك مع روسيا في الملفات التي تُحقق مصالح مشتركة للبلدين. وفي هذا الصدد، شدد بايدن على أن الدبلوماسية يجب أن تكون الوسيلة الأساسية، سواء في التعامل مع الحلفاء أو مع الخصوم من أجل ضمان تحقيق مصالح الولايات المتحدة في العالم، كما رجَّح مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان بأن تكون العلاقات بين البلدين صعبةً، لكنه أشار في الوقت نفسه إلى وجود مجالات للعمل المشترك.

وفي هذا الإطار، نجد أنه بالرغم من أن العقوبات الأمريكية الجديدة على موسكو هي الأكبر منذ عام 2018، فإن واشنطن أحجمت عن منع الكيانات الأمريكية من تداول السندات الروسية في الأسواق الثانوية؛ حيث تسمح هذه الخطوة للجانبين بالعمل في المجالات ذات الاهتمام المشترك، كما أعلنت موسكو في مطلع شهر أبريل الجاري أنها وافقت على تمديد اتفاقية للتعاون في الفضاء مع الولايات المتحدة إلى ديسمبر 2030، كما صادقت واشنطن، في مطلع فبراير الماضي، على تمديد العمل بمعاهدة “نيو ستارت” للأسلحة النووية لمدة خمس سنوات؛ وذلك بعد مصادقة موسكو عليها في وقت سابق.

وفي السياق نفسه، قامت البحرية الأمريكية في 15 أبريل الجاري بإلغاء نشر سفينتين حربيتين في البحر الأسود. وقد جاءت الخطوة الأمريكية بعد يوم واحد من إعلان موسكو عن إجراء أسطول البحر الأسود الروسي مناورات بالذخيرة الحية في المنطقة، وبعد يومين من إجراء الرئيسين بايدن وبوتين مكالمة هاتفية تحدَّثا فيها عن خفض التصعيد، وإمكانية عقد قمة بينهما.

وفي المجمل، بالرغم من التوتر الكبير في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة في الوقت الحالي، الذي شمل عقوبات متبادلة، وطرد دبلوماسيين كبار، فإنه من غير المتوقع أن تذهب الأمور إلى أبعد من ذلك، وكذلك من غير المرجح أن نشهد تخفيضًا ملحوظًا في التوتر في الفترة القادمة؛ وذلك بالنظر إلى تداخل مصالح الطرفين، والمخاطر الكبرى التي ينطوي عليه تصاعد التوتر، في ظل معاناة الاقتصاد العالمي من كثير من المشاكل، ورغبة الولايات المتحدة في التركيز على مواجهة التمدد الصيني.


الكلمات المفتاحية:
https://www.interregional.com/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b5%d8%b9%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8f%d9%86%d8%b6%d8%a8%d8%b7/