التقنية الاستراتيجية:

دور الذكاء الاصطناعي في دعم المكانة العالمية للصين
التقنية الاستراتيجية:
15 مارس، 2023

تسعى الصين إلى تضييق الفجوة بين البحث العلمي والتكنولوجيا من ناحية، وبين احتياجاتها الوطنية وتطبيقات التكنولوجيا من ناحية ثانية، بيد أن هذا الهدف تطلَّب استثمارات ضخمة، وإعفاءات ضريبية، ودعم الابتكار والصناعات الجديدة الناشئة، ووضع قواعد قانونية تنظم الذكاء الاصطناعي، وغير ذلك؛ فعلى تعدُّد استخدامات الذكاء الاصطناعي وتوظيفه في مختلف المجالات، وتعدُّد تأثيراته في الاقتصاد القومي، وضعت الصين جملة من الأهداف والاستراتيجيات تهدف إلى تحقيق الريادة في هذا المجال الذي أضحى ركناً مركزياً من أركان المنافسة والصراع الدولي.

الرؤية الصينية

يمكن الوقوف على الكيفية التي تنظر بها الصين إلى الذكاء الاصطناعي من خلال بعض التصريحات الرسمية للقيادات الصينية، بجانب بعض السياسات والاستراتيجيات الصينية ذات الصلة؛ وذلك على النحو التالي:

1– اعتماد هدف الريادة الصينية: تعكس “خطة تطوير الذكاء الاصطناعي للجيل الجديد” (AIDP) التي أصدرها مجلس الدولة الصيني في يوليو 2017، بجانب استراتيجية “صنع في الصين 2025” الصادرة في مايو 2015، كيف تؤمن الصين، بقيادة الرئيس “شي جين بينج”، بأهمية تحقيق الريادة في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؛ لدوره في تحديد مستقبل توازنات القوى العالمية.

فقد حظيت كلتا الوثيقتين باهتمام كبير من أعلى مستويات القيادة الصينية إيماناً منها بأن الذكاء الاصطناعي أضحى أحد أبعاد المنافسة الدولية، وأنه هو التقنية الاستراتيجية التي ستقود العالم في المستقبل؛ لذا تؤمن الصين بحتمية السعي إلى الريادة العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي؛ الأمر الذي يستلزم تقليل الاعتماد على واردات التكنولوجيا الدولية والمعدات المتطورة. وفي هذا الإطار، قال الرئيس الصيني: “إن بلادنا يجب أن تسير في الصفوف الأمامية، وتحتل مكانة متقدمة في التقنيات الأساسية والحيوية للذكاء الاصطناعي”.

2– تنامي مخاطر سباق التسلح المتصل بالذكاء الاصطناعي: في خطابه أمام أكبر مؤتمر للعلاقات الدولية في الصين في 15 يوليو 2018، قال “فو ينج” (نائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني)، إن التقنيين وصناع السياسات الصينيين، يتفقون على حتمية الاستخدام العسكري المتزايد للذكاء الاصطناعي، في الوقت الذي تُصدِّر فيه الصين بالفعل أنظمة تحكم ذاتية، وأنظمة رقابة مدعومة بالذكاء الاصطناعي، وطالب بضرورة التعاون لمنع تهديدات الأخير بأسلوب استباقي.

وهو ما يعني النظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه تهديداً مشتركاً للأمن الدولي، وبخاصة مع تزايد استعداد الدول لمهاجمة بعضها بعضاً بأنظمة الذكاء الاصطناعي العسكرية التي تحول دون وقوع خسائر بشرية، كما أعرب المسؤولون الصينيون عن قلقهم من أن الاستخدام المتزايد لأنظمة الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يجعل المفاهيم الخاطئة وتصعيد النزاع غير المتعمَّد أكثر احتماليةً؛ بسبب عدم وجود معايير محددة فيما يتعلق باستخدام تلك الأنظمة.

3– ضرورة تكثيف الجهود الصينية لتأطير الذكاء الاصطناعي: أظهر المسؤولون الصينيون معرفة كبيرة بمخاطر الأمن السيبراني المرتبطة بأنظمة الذكاء الاصطناعي، التي تطال تداعياتها الأمن الصيني والدولي. وعلى تعدُّد تلك المخاطر، تهتم الصين بلعب دور رائد على صعيد وضع معايير للتخفيف منها. ففي “منتدى السلام العالمي حول الذكاء الاصطناعي”، أكد “مركز أبحاث جيش التحرير الشعبي” دعمه وجود آليات تنظم استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي، لا سيما الروبوتات المقاتلة. والجدير بالذكر أن “الكتاب الأبيض حول أمن الذكاء الاصطناعي” الذي نشرته “الأكاديمية الصينية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات” (CAICT) يُشير إلى ضرورة تعميق التعاون الدولي لمجابهة تهديدات الذكاء الاصطناعي الدولية، ووضع قوانين تقنن عمل أنظمته.

4– تزايد أهمية مأسسة الذكاء الاصطناعي: أنشأت وزارة الدفاع الوطني الصينية منظمتين بحثيتين رئيسيتين جديدتين تركزان على الذكاء الاصطناعي والأنظمة غير المأهولة، في إطار الجامعة الوطنية لتكنولوجيا الدفاع (NUDT). وهذان المركزان هما: مركز أبحاث الأنظمة غير المأهولة (USRC)، ومركز أبحاث الذكاء الاصطناعي (AIRC)؛ ما يجعل الصين رائدة في مجال المنظمات المعنية بأبحاث الذكاء الاصطناعي الحكومية عالمياً، وهو ما تزداد أهميته عالمياً؛ لدورها البارز في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ذات الاستخدام المزدوج، بما في ذلك تطبيق التعلم الآلي، وشبكات الاتصالات اللاسلكية، والأمن السيبراني من ناحية، ونشاطها السري الذي يخدم المجتمع العسكري والاستخباراتي الصيني من ناحية ثانية.

تعددية التوظيف

أكد وزير العلوم والتكنولوجيا الصيني “وانج تشي جانج” أن الصين تسعى لتطبيق الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات التي تخدم التنمية بالمعنى الواسع لها، وهو الأمر الذي يتجلى في بعض المجالات والأمثلة البارزة؛ وذلك على النحو التالي:

1– دعم الأمن السيبراني الصيني: يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً كبيراً في دعم القدرات السيبرانية الصينية؛ إذ يمكن الاعتماد عليه لإدارة مخاطر التكنولوجيا التشغيلية، وقياس حركة المرور غير المنتظمة، والوقوف على الأنشطة السيبرانية الضارة، وهو ما يفسر، في أحد جوانبه، لماذا أصبحت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي الصناعة الأسرع في تبني الذكاء الاصطناعي واستخدام خوارزمياته والتعلم الآلي لأتمتة المهام ومعالجة البيانات واتخاذ القرارات ومكافحة التهديدات الأمنية والحماية من الهجمات السيبرانية، بل محاربة المعلومات المضللة واكتشاف الأخبار المزيفة.

وهو ما يعني – في المقابل – تزايد خطورة الهجمات السيبرانية الصينية، وبخاصة تلك التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وهو ما يثير مخاوف الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية التي تتهم الصين بسرقة أسرارها الحكومية والتجارية من خلال شن هجمات سيبرانية؛ ومن ثم برزت قضية حماية الملكية الفكرية في العلاقات الصينية–الأمريكية، وقد تتأجج مرة أخرى مع تنامي القدرات الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي.

2– تعزيز التحديث العسكري وتطوير الأسلحة: لقد أسفر توظيف الصين للذكاء الاصطناعي في المجال العسكري عن تعزيز الاستقلال الذاتي للأسلحة غير المأهولة، بما في ذلك تطوير أسراب الدرونز، ومعالجة كميات كبيرة من المعلومات من خلال التعلم الآلي، وتحليل موجات الراديو المستَقبلَة، وتحسين كفاءة عمليات التشويش، وتسريع عملية اتخاذ القرار العسكري. وفي هذا الإطار، يبرز أيضاً الارتباط بين الذكاء الاصطناعي و”الحرب الإدراكية” التي تتعدد فوائدها العسكرية؛ إذ تؤثر الحرب المعرفية على إدراك العقل البشري وإرادة الخصم من خلال خلق بيئة مواتية، ومن أبرز أدواتها التزييف ونشر الشائعات بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي، وهو ما أمكن توظيفه بالفعل في مجابهة تايوان.

3– فرض السيطرة وإحكام الرقابة في الداخل الصيني: وظفت الصين مختلف تطبيقات الذكاء الاصطناعي (مثل البيانات الضخمة، والتعلم الآلي، والتعرف على الوجه) لأغراض المراقبة و”الوصول إلى عقول المواطنين” وفقاً لبعض التحليلات؛ فقد نشرت الصين تقنية التعرف على الوجه في شينجيانج لمراقبة عرقية الأويجور، بينما تزايد توظيفها لبرنامج “شخص واحد–ملف واحد” لإحكام رقابتها على المواطنين في الداخل. وقد أطلقت الصين في مقاطعة “خنان” نظاماً مشابهاً لتتبع من تعتبرهم صحفيين “مشبوهين” وطلاباً ونساءً أجانب. وعليه، تعددت شكاوى الحقوقيين من عدم قدرتهم على نشر رسائل عبر الإنترنت نتيجة للرقابة الصارمة ونظام التتبع الرقمي الصيني الذي جمع – وفقاً لبعض التقديرات – بيانات بيومترية عن بعض المواطنين، لا سيما المحتجزين منهم.

4– رفع كفاءة الاستخبارات الوطنية: يدعم الذكاء الاصطناعي أجهزة الاستخبارات الصينية الوطنية، ويمدها بمختلف المعلومات اللازمة لها على اختلاف مصادرها؛ بما في ذلك الوسائط الاجتماعية، وصور الأقمار الصناعية، وإشارات الاتصالات، وغير ذلك، وهو الأمر الذي يساعد بدوره المسؤولين الحكوميين على تحديد توجهات المواطنين وفهم التهديدات وتحديد الأساليب الواجب اتباعها. وقد تشمل الأخيرة استخدام الأسلحة النووية بعتبارها أحد الخيارات المتاحة أمام صانع القرار؛ الأمر الذي تتخوف منه الدول الغربية التي طالبت الصين بعدم الاعتماد على الذكاء الاصطناعي كليةً لاتخاذ قرارات أمنية حاسمة دون تدخل العنصر البشري.

5– قراءة الأفكار وضمان ولاء أعضاء الحزب الحاكم: تدعي تقارير أن الصين طورت تقنية ذكاء اصطناعي لقراءة أفكار أعضاء الحزب الشيوعي واختبار درجة ولائهم للنظام الحاكم، وهي التقنية التي طورها معهد الذكاء الاصطناعي في مركز “هيفي الوطني للعلوم” لقراءة تعابير الوجه وموجات الدماغ لتمييز الآراء السياسية لأعضاء الحزب، ويمكن بعد ذلك تقويم هؤلاء الأعضاء وتصنيفهم إلى مستويات وفقاً لدرجة عرفانهم للحزب والانصياع لتعليماته ومتابعة أخباره، وهو ما يثير مزيداً من التساؤلات حول مستوى المراقبة في الصين، ويزيد المخاوف من جهود الحزب الشيوعي الذي يكثف جهوده للسيطرة على السكان الصينيين.

6– المساهمة في تطوير التكنولوجيا الحيوية: منذ تفشي جائحة كوفيد–19، قامت شركة “جي بي آي” (GBI) – وهي أكبر مزود للتسلسل الجيني في الصين – بإنشاء نحو 50 مختبراً جديداً، في مثال واضح على اهتمام الصين المتزايد بالتكنولوجيا الحيوية. وفي ظل تطور الحوسبة والذكاء الاصطناعي، يمكن أن تساعد الابتكارات في مجال التكنولوجيا الحيوية في حل بعض التحديات الملحة على شاكلة الأمراض والمجاعات وصولاً إلى إنتاج الطاقة ومكافحة تغير المناخ. وفي المقابل، لا تستبعد الدول الغربية قيام الصين بتطوير سلاح بيولوجي يستهدف مجموعات عرقية بعينها؛ ما يثير إشكاليات أخلاقية تتصل بحدود التلاعب بالجينوم البشري، وسط مخاوف حقيقية من أن تسيطر الصين على التكنولوجيا الحيوية عالمياً، وتكسر كل الضوابط والمعايير الأخلاقية في هذا المجال.

7– التكريس لحضور الشركات الصينية عالمياً: ترجع ريادة الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، في أحد أسبابها، إلى تعدد الشركات التكنولوجية الصينية الرائدة في هذا المجال. وفي هذا الإطار، أطلقت شركة “بايدو” (Baidu) سيارات ذاتية القيادة في بكين، كما أطلقت شركة “سينس تايم” (SenseTime) كاميرات مراقبة ذكية تتعقب حوادث المرور والسيارات المتوقفة بشكل غير قانوني، ونشرتها في أكثر من 100 مدينة في الصين وخارجها.

ونتيجة لذلك، بلغت قيمة أبرز 5 شركات صينية في مجال الذكاء الاصطناعي ما يقرب من 120 مليار دولار، وقد استفادت بعض الشركات من الدعم الحكومي الضخم الذي بلغ 75 مليار دولار في شكل إعفاءات ضريبية ومِنَح وقروض وتخفيضات على ملكية الأراضي. وقد بدأت الاستثمارات الصينية الضخمة في مجال الذكاء الاصطناعي تؤتي ثمارها بوضوح؛ حيث أصبح الباحثون الصينيون ينشرون أبحاثاً علمية في هذا المجال أكثر من نظرائهم الأمريكيين.

ختاماً، ترى الصين أن الذكاء الاصطناعي لا يعدو كونه “فرصة تاريخية” ستُحدِث قفزة في التكنولوجيا العسكرية، وأن البحث والتطوير في هذا المجال هو أسهل طريق لتهديد مصادر القوة العسكرية الأمريكية بالمقارنة بتطوير نظائر صينية للأنظمة الأمريكية، وأن الذكاء الاصطناعي أضحى سباقاً بين عملاقَين (أي بينها وبين الولايات المتحدة).

ولذا تتعدد مجالات توظيف الذكاء الاصطناعي في الداخل الصيني، بالتوازي مع فاعلية جهود المؤسسات البحثية والشركات الصينية؛ ليس فقط لتطوير أحدث ما توصلت إليه أبحاث الذكاء الاصطناعي، بل لتطوير منتجات وخدمات مبتكرة وتنافسية أيضاً، وهو ما يأتي على خلفية إدراج الذكاء الاصطناعي في الخطة الاستراتيجية الوطنية للصين منذ عام 2016 من ناحية، واعتماد الحكومة الصينية العديد من السياسات لدعم تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ ابتداءً من حماية رأس المال والملكية الفكرية، وصولاً إلى تنمية الموارد البشرية والتعاون الدولي من ناحية ثانية.


الكلمات المفتاحية:
https://www.interregional.com/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%82%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%ac%d9%8a%d8%a9/