مثَّلت الحرب الأوكرانية اختباراً عالمياً للسلاح الروسي، ومع طول أمد الحرب التي خططت موسكو لأن تكون عملية عسكرية سريعة، فإن ثمة تساؤلات طُرحت حول تأثير الحرب على مكانة السلاح الروسي في سوق السلاح العالمية، وإذا ما كانت الصعوبات التي يواجهها السلاح الروسي في ساحة المعركة ستؤثر على سمعته في العالم، ومن ثم تؤثر على حجم الطلب العالمي على السلاح الروسي وصادرات موسكو العسكرية، وخصوصاً أن الحرب ظهرت كأنها صراع على الفاعلية التسليحية بين روسيا والدول الغربية التي قدمت لكييف إمدادات أسلحة واسعة النطاق.
المرتبة الثانية
تحتل روسيا مكانة متقدمة جداً في سوق السلاح العالمية؛ فبين عامي 2016 و2020، استحوذت صناعة الدفاع الروسية على 20% من سوق الصناعات الدفاعية العالمية؛ ما وضعها في المرتبة الثانية بين أبرز مصدري الصناعات الدفاعية في العالم بعد الولايات المتحدة. وتُعد الهند المستورد الرئيسي للسلاح الروسي؛ حيث كان 23% من الصادرات الدفاعية الروسية موجهة إلى الهند، تليها الصين بنسبة 18% والجزائر بنسبة 15%.
ويرجع هذا الحضور الروسي الملحوظ في سوق السلاح العالمية إلى عدد من العوامل الجوهرية من بينها أن الأسلحة الروسية تكون أقل تكلفة، وأسهل في الصيانة من البدائل الغربية، ومتاحة بشروط دفع أكثر مرونة، فضلاً عن استعداد موسكو لنقل التكنولوجيا وترخيص إنتاج الأسلحة لبعض الدول مثل الهند، التي صدرت إليها موسكو خلال الفترة بين عامي 2011 و2021 نحو 60% من إجمالي الواردات الدفاعية الهندية بقيمة 22.9 مليار دولار تقريباً. واستحوذت الهند على 34% من إجمالي المبيعات الدفاعية الروسية خلال الفترة ذاتها.
تعثُّر ميداني
تشير العديد من التقارير إلى تأثير الحرب الأوكرانية سلباً على سمعة السلاح الروسي، وتعتبر أن حرب روسيا ضد أوكرانيا أضرت بالمصداقية والموثوقية العسكرية الروسية، ومثَّلت إعلاناً سيئاً لأسلحتها، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- خسائر كبيرة في معدات الجيش الروسي: بالرغم من صعوبة تقييم الخسائر العسكرية الروسية على نحو دقيق، فإن بعض التقارير تكشف عن زوايا من هذه الخسائر، وإن كان يجب التعامل مع هذه الخسائر بدرجة من الحرص وخصوصاً أنها تعبر عن وجهة نظر أوكرانيا والدول الغربية؛ فقد كشفت وزارة الخارجية الأوكرانية في إحصائية نشرتها للخسائر الروسية حتى تاريخ 13 أكتوبر الماضي عن مقتل 63 ألفاً و800 جندي روسي، وإسقاط 268 طائرة حربية و240 مروحية و1182 طائرة مسيرة، وتدمير 2511 دبابة و16 سفينة حربية و5167 مركبة عسكرية، وتدمير 1556 مدفعاً و357 راجمة صواريخ و183 نظام دفاع جوي، وتدمير معدات أخرى وإسقاط 316 صاروخ كروز.
فيما تشير تقديرات مجلة “فوربس” الأمريكية، إلى أن روسيا فقدت منذ بداية الحرب نحو 121 ألفاً و42 قطعة من المعدات بقيمة 16.56 مليار دولار، بما لا يشمل الصواريخ الروسية، بينما أعلن كولن كال وكيل وزارة الدفاع الأمريكية لشئون السياسات، فقدان روسيا نصف دباباتها، واستخدامها غالبية أسلحتها الموجهة؛ وذلك فضلاً عن الهجمات النوعية الأوكرانية التي ألحقت خسائر نوعية بالمعدات الروسية مثل استخدام القوات المسلحة الأوكرانية، في 14 أبريل 2022، صواريخ كروز المضادة للسفن لإغراق طراد الصواريخ الموجهة الروسي “موسكفا” في البحر الأسود، وهي أكبر سفينة بحرية يتم تدميرها منذ الحرب العالمية الثانية، وتقدر قيمتها بنحو 750 مليون دولار. وكذلك تدمير طائرة من طراز (Il-76) قيمتها 86 مليون دولار، وسفينة هجومية برمائية “ساراتوف” بقيمة 75 مليون دولار، وطائرة من طراز (Su-30SM) بقيمة 50 مليون دولار، وطائرة من طراز (Su-34) بقيمة 40 مليون دولار.
2- إثارة الشكوك حول جودة المعدات العسكرية الروسية: أثارت صور المركبات الروسية المحطمة والمهجورة تساؤلات حول جودة وموثوقية المعدات العسكرية الروسية الصنع، خاصةً أن الكثير من المعدات التي نشرتها روسيا تعتمد على تصميمات من الحقبة السوفييتية، مثل دبابة T-90 التي تعتمد على طراز T-72 البالغ من العمر 50 عاماً؛ ما ربط الأداء العسكري الروسي بنقص الابتكار في تصنيع المعدات الجديدة. وتُعد تلك الصور دعاية سلبية بحق المعدات الروسية في سوق السلاح العالمية، وتثير مخاوف موسكو من أن تُحبط مستوردي السلاح الروسي، فضلاً عن أن المنظومة الدعائية الغربية تركز على التشكيك في جودة وفعالية المعدات العسكرية الروسية، وإثارة الشكوك حولها، وتعتبره هدفاً من أهدافها الهامة في سياق تغطية الحرب الأوكرانية.
3- تقويض الأسلحة الغربية فعالية المعدات الروسية: لا يقف تقييم الأسلحة الروسية في الحرب الأوكرانية على رصد ما لحق بها من خسائر، بل إن العديد من التقارير تحرص على عقد مقارنة بين الأسلحة الغربية والأسلحة الروسية؛ لإثبات حجة مفادها أن الأسلحة الغربية استطاعت تقويض الفعالية العسكرية الروسية؛ حيث يشار في هذا السياق إلى تدمير طائرات Bayraktar بدون طيار التركية، وأنظمة جافلين الأمريكية وراجمة الصواريخ الأمريكية هيمارس والأسلحة المضادة للدبابات السويدية البريطانية NLAW، وأنظمة الدفاع الجوي الأمريكية Stinger، وStarstreak البريطانية بشكل فعال المعدات الروسية، فضلاً عن الرمزية الكبيرة لتدمير السفينة الحربية الروسية “موسكفا” في البحر الأسود بصاروخين أوكرانيين من طراز “نبتون”، على الرغم من وجود دفاع جوي شامل متعدد الطبقات.
4- حديث غربي عن فشل الأسلحة الهجومية الروسية: تثير العديد من التقارير الغربية الشكوك حول فعالية الأسلحة الهجومية الروسية، وتتهمها بالفشل؛ فلا يتعلق الأمر بمقارنة الأسلحة الروسية بالغربية فقط، بل كذلك معدلات نجاح وفشل الأسلحة الروسية بشكل مستقل. فعلى سبيل المثال، تشير تقييمات مسؤولي الدفاع الأمريكيين إلى أن أداء الأسلحة الهجومية الروسية في الحرب الأوكرانية كان مخيباً للآمال، وأن روسيا تعاني من معدلات فشل تصل إلى 60% لبعض صواريخها الموجهة بدقة، وهو ما يُقصد به نسب الصواريخ الهجومية الروسية التي فشلت في الإطلاق أو تعطلت في منتصف الرحلة أو أخطأت هدفها بسبب عيوب التصميم أو قدم المعدات ورداءتها.
5- حاجة موسكو إلى الدعم التسليحي الخارجي: عكست الحرب الأوكرانية بعض الفجوات التسليحية لموسكو وخصوصاً فيما يتعلق بالأسلحة غير التقليدية، على غرار الطائرات المسيرة، وهو ما دفعها إلى البحث عن مصادر خارجية للحصول على مثل هذه الأسلحة لتلجأ إلى إيران التي زودتها بعدد من الطائرات المسيرة. صحيح أن روسيا نظرت إلى الطائرات المسيرة الإيرانية باعتبارها بديلاً منخفض التكلفة وعالي الفائدة بالنسبة لها، ويحول دون التوسع في استخدام الأسلحة المرتفعة التكلفة في الحرب الأوكرانية، بيد أن هذا التوجه ربما يترك انطباعاً سلبياً عن صناعة السلاح الروسية وقدرتها على توفير أنظمة تسليحية حديثة مشابهة لدول أخرى ليس لديها النفوذ نفسه في سوق السلاح العالمية.
تحديات الحرب
بخلاف تأثيرات الحرب الأوكرانية على سمعة السلاح الروسي ومكانته في العالم، فإنها خلقت أيضاً تحديات أخرى أمام قدرة موسكو على مواصلة تصدير معدات وأنظمة دفاعية بالكفاءة والوتيرة نفسيهما، منها:
1- الحاجة إلى تعويض خسائر الحرب: تتوقع العديد من التقديرات معاناة القدرة الإنتاجية لصناعة الدفاع الروسية من أجل تعويض الخسائر الضخمة في المركبات والمعدات التي تكبدها الجيش الروسي خلال الحرب الأوكرانية، وأن ينشغل المصنعون الروس خلال هذه الفترة في إصلاح المعدات التالفة، أو ترقية المعدات الموجودة، أو إنتاج بدائل وقطع غيار؛ حيث تُحتم الحرب على المدى القصير توجيه شحنات الذخيرة وقطع الغيار لدعم المجهود الحربي الروسي؛ الأمر الذي قد يدفع موسكو نحو تأخير أو إلغاء تسليم بعض طلبيات الأسلحة، أو عدم القدرة على تلبية طلبيات جديدة، خلال فترة الحرب.
2- قطع خطوط إمداد مكونات السلاح: أثارت العقوبات الغربية المفروضة على روسيا تساؤلات حول قدرتها على الحصول على المكونات الداخلية والتكنولوجية لأسلحتها وتوفير الصيانة للأسلحة التي تبيعها. ومن المرجح أن تتأثر صناعة الدفاع الروسية بالعقوبات الغربية المفروضة على موسكو؛ حيث لا تستهدف العقوبات المعاملات المالية لروسيا فحسب، بل تقطع أيضاً إمداد المكونات والأجزاء الأساسية وآلات الإنتاج بالإضافة إلى صيانتها واستدامتها، في الوقت الذي تعتمد فيهصناعة الأسلحة الروسية على دول أخرى في المعدات والمكونات؛ حيث يتم استيراد العديد من الأجزاء الإلكترونية والمكونات المتطورة والمواد ذات الصلة من دول مختلفة، تشمل أوروبا والصين ودولاً آسيوية أخرى.
وقد تؤدي العقوبات المفروضة على روسيا إلى مصاعب في هذه العملية، وربما تفضي إلى انخفاض كبير في القدرة الصناعية وارتفاع كبير في الأسعار، أو أن تفقد صناعة الدفاع الروسية جانباً من قوتها التنافسية فيما يتعلق بالأسلحة المتطورة، مثل أنظمة الدفاع الجوي والطائرات والصواريخ الموجهة وأجهزة الاستشعار؛ وذلك في ظل اعتماد روسيا بشكل كبير على التكنولوجيا الأجنبية؛ فعلى سبيل المثال، تتكون الكتل الرئيسية في طائرات Orlan-10 بدون طيار من مكونات غربية الصنع، وتم تجهيز دبابات T-72 الروسية بأجهزة تصوير حرارية فرنسية، كما تعتمد صواريخ كروز 9M727 إسكندر وكاليبر على رقائق غربية، وتم تجهيز نظام TOR-M2 المضاد للطائرات بمذبذب طورته المملكة المتحدة.
3- تخوُّف بعض المستوردين من فرض عقوبات عليهم: ساهمت العقوبات المفروضة على استيراد المعدات والأسلحة والمنظومات الدفاعية الروسية في تردد بعض الدول التي كانت تسعى للحصول على معدات روسية بسبب خطر تعرضها لعقوبات من قبل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي؛ حيث كان التهديد بفرض عقوبات CAATSA العامل الحاسم في قرار الفلبين بعدم متابعة عقد دفاع مع روسيا لتوفير غواصتين في عام 2020، وقرار إندونيسيا بإلغاء طلب 11 طائرة مقاتلة روسية الصنع من طراز SU-35 في ديسمبر 2021 لصالح الطائرات الأمريكية والفرنسية السريعة. ومع اشتداد الصراع الروسي الغربي على خلفية الحرب الأوكرانية، وتقسيم الدول من حيث موقفها من الحرب، فإن مخاوف دول أكثر من استيراد السلاح الروسي تزداد خشية تعرضها للعقوبات الغربية، أو توتر علاقاتها بالولايات المتحدة والدول الأوروبية؛ ولذلك تُحذر تقديرات من احتمالات أن تمتنع بعض الدول التي لا تريد إثارة غضب الولايات المتحدة عن التعامل مع الموردين الروس للأسلحة خلال الفترة الحالية.
استمرار الجاذبية
ختاماً، على الجانب الآخر من الانتقادات الموجهة للمعدات العسكرية الروسية، فإن الكثير من خسائر المعدات التي تكبدها الجيش الروسي لا ترجع فقط إلى المعدات نفسها، إنما إلى انتقادات تتعلق بوجود اتهامات بالفساد، وسوء التدريب، وسوء قيادة العملية العسكرية، وعدم التخطيط الجيد لها، وعدم كفاية الإمدادات العسكرية على مستوى الجنود أو المعدات.
ورغم كل ما تم توجيه للأسلحة الروسية من انتقادات لا تزال لها مكانتها ومميزاتها، فضلاً عن أن التجارب التاريخية السابقة تحد بعض الشيء من تأثير الحروب على عمليات شراء المستوردين الأساسيين التقليديين للسلاح الروسي؛ فبعد حرب الخليج لم يتراجع مستوردو الأسلحة الروسية التقليدية مثل الهند والجزائر عن الاعتماد على الأسلحة الروسية؛ حيث لا تزال للأسلحة الروسية جاذبيتها ومميزات نسبية لتلك الدول وغيرها، فضلاً عن وجود عوامل أخرى تحكم عمليات شراء السلاح.