أصدر “إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية” كتاباً جديداً بعنوان “القارة الغامضة: كيف يمكن فهم أمريكا اللاتينية؟” من إعداد د. صدفة محمد محمود الخبيرة في شؤون أمريكا اللاتينية والكاريبي، والباحثة الأولى غير المقيمة بإنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية. ويأتي الكتاب ضمن سلسلة كتب إنترريجونال التي تتناول أهم القضايا الاستراتيجية الكبرى ذات التأثيرات المركبة والممتدة عبر أقاليم العالم في المجالات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية.
ويتعرض الكتاب لمنطقة أمريكا اللاتينية، من خلال ثمانية فصول، تُلقي الضوء على الاتجاهات والظواهر المؤثرة في تفاعلات المنطقة، والقوى والأطراف الفاعلة، والهيكل الاقتصادي، إضافة إلى التكتلات والتجمعات الإقليمية، وكذلك خريطة العلاقات الخارجية لدول أمريكا اللاتينية مع القوى الكبرى، بجانب العوامل المحددة لمستقبل القارة اللاتينية خلال الألفية الثالثة.
ويفترض الكتاب أن ثمة تعقُّداً في المشهد الداخلي في بلدان أمريكا اللاتينية، في ظل ما تعانيه من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية حادة، وهذا التعقد تزامن مع تنامي الضغوط الدولية التي تتعرض لها بلدان المنطقة، في ظل تفاقم حالة التنافس بين القوى الكبرى في العالم.
قضايا رئيسية
اعتمد الكتاب في تحليله لتفاعلات أمريكا اللاتينية على مجموعة من الاتجاهات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- الاستمرارية والتغير في النظم الحاكمة بأمريكا اللاتينية: تشهد منطقة أمريكا اللاتينية منذ تحولها إلى الديمقراطية، حالة من الديناميكية الشديدة، والتي تصل في بعض الأحيان إلى حالة من السيولة، بحكم التطورات المتسارعة في المنطقة والأزمات المستمرة التي تُعاني منها، والتي كانت لها انعكاسات واضحة على شاغلي المناصب السياسية، من حيث صعود وتراجع بعض التيارات والأحزاب السياسية. يكشف تأرجح البندول السياسي ما بين تياري اليمين واليسار اللاتيني، عن أن قوى التغيير لها علاقة بالاقتصاد الاجتماعي أكثر من ارتباطها بالأيديولوجيا، حيث تزامنت مع الأزمات الاقتصادية والسياسية الدراماتيكية التي تشهدها بلدان المنطقة، كما كانت لها انعكاسات واضحة على السياسات الاقتصادية المطبقة. على سبيل المثال، كان وصول القوى اليسارية/ التقدمية إلى السلطة نتاج استياء المواطنين من الحكومات اليمينية السابقة، حيث طالب الأمريكيون اللاتينيون بالتغيير وتجديد التركيز على السياسة الاجتماعية -مثل تدابير مكافحة الفقر والمزيد من القدرة على الوصول إلى الخدمات العامة- بعد سنوات من الإهمال من قبل الأحزاب السياسية التقليدية.
في المقابل، كان صعود قادة اليمين مرده الأساسي الاستياء الشعبي من انتشار الفساد السياسي وارتفاع معدلات العنف والجريمة، كما كان نتاجاً لحالة التغير المجتمعي – الثقافي في بعض بلدان أمريكا اللاتينية، والتي ارتبطت بتصاعد التوجهات الاجتماعية المحافظة، التي تركز على القيم الأسرية والدينية. بصفة عامة، كان التغير المستمر في شاغلي المناصب السياسية، نتيجة مباشرة لسيادة الغضب والاستياء الشعبي من فشل الحكومات، بغض النظر عن توجهها السياسي، في الوفاء بتعهداتها الانتخابية في مكافحة الأزمات المستعصية مثل الفقر والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي.
2- تنوع القوى والتيارات السياسية الفاعلة: هناك اتجاه غالب في دراسة القوى السياسية الفاعلة في أمريكا اللاتينية، ينظر إليها ضمن ثنائية جامدة (اليمين/ اليسار)، بينما هناك في الواقع توليفات متنوعة للتوجهات السياسية لهذه التيارات والقوى المختلفة. في هذا الصدد، فإن المصطلحات الدارجة في وصف هذه التيارات والقوى، كوضع اليمين مقابل اليسار، أو الليبرالية مقابل المحافظة أو الراديكالية، أو الديمقراطيين مقابل التسلطيين، تفقد كثيراً من دلالاتها عند تطبيقها على الواقع اللاتيني، سواء بحكم التغير المستمر في المواقف، أو بحكم التماس فيما بينها. وهذا التداخل والتماس في المواقف والاتجاهات يضع الباحث في مأزق يصعب معه التمييز بين المصطلحات.
على سبيل المثال، لا يُمثّل اليسار اللاتيني كتلة واحدة متماسكة؛ إذ يضم اليسار المعتدل، الراديكالي، التسلطي، واليسار البيئي أو الأخضر، والذي يُدافع قادته عن قضايا حماية البيئة ومكافحة التغير المناخي ودعم الطاقة النظيفة، في حين أن قادة اليسار التقليدي الذي برز في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ركزوا على النمو الاقتصادي القائم على استغلال الثروات الطبيعية والمعدنية.
3- استمرار دور المؤسسة العسكرية في المجال السياسي: شهدت منطقة أمريكا اللاتينية، مثل بعض المناطق والأقاليم، كأفريقيا، تكرار حدوث الانقلابات العسكرية منذ الاستقلال. ورغم تحولها إلى الديمقراطية، لا يزال الجيش يمثل قوة مركزية في الحياة السياسية، ولم يتم فرض سيطرة مدنية كاملة في أي من دول أمريكا اللاتينية. في الوقت الراهن، عادت القوات المسلحة إلى مركز المجال السياسي كحلفاء لبعض الحكومات اللاتينية، ولعب بعض العسكريين دوراً شرعياً في صنع القرار السياسي، كما تنامى اعتماد القادة على القوات المسلحة في البرازيل والمكسيك وبعض دول أمريكا الوسطى للقيام بالعديد من المهام والأدوار بما في ذلك الحفاظ على النظام العام، رداً على ارتفاع معدلات الجريمة والاحتجاجات الجماهيرية وغير ذلك من التحديات. في حالات أخرى مثل كوبا ونيكاراجوا وفنزويلا، تشارك القوات المسلحة مشاركة كاملة في معظم جوانب الحكم والاقتصاد. نتيجة لذلك، سارع العديد من الباحثين إلى إعلان عودة النزعة العسكرية كتهديد للديمقراطية في أمريكا اللاتينية، وأشار البعض إلى أن الجيوش كانت تتصرف بطريقة مشابهة للأنظمة العسكرية الاستبدادية خلال حقبة الحرب الباردة.
مع ذلك، هناك مؤشرات دالة على أن جيوش أمريكا اللاتينية مترددة بشكل عام في الانغماس في القضايا السياسية الداخلية المتنازع عليها على وجه التحديد بسبب تجاربها الكارثية في الماضي غير البعيد، فضلاً عن قوة المؤسسات الديمقراطية مقارنة ببعض المناطق كما هو في أفريقيا. وفي حال استمر الحكم الديمقراطي والقادة المدنيون المنتخبون ديمقراطياً في الفشل في تلبية توقعات مواطنيهم، فقد يترك ذلك الباب مفتوحاً أمام القادة العسكريين للعودة مرة أخرى إلى السلطة، خاصة مع ارتفاع متوسط الدعم الشعبي للانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية.
4- لغز النمو الاقتصادي والتفاوت الاجتماعي: تقع أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي في فخ “النمو الاقتصادي المنخفض وعدم المساواة المرتفع”. في الوقت الراهن، تشهد المنطقة نمواً اقتصادياً شديد التقلب، ومنخفضاً في المتوسط، يرتبط بانخفاض الإنتاجية وضعف ديناميات الإنتاجية. إضافة إلى أن الانتعاش الاقتصادي في أمريكا اللاتينية لا يضمن النمو المستدام. تحدث البنك الدولي عن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين باعتباره عقد “الحد من عدم المساواة”، بسبب السياسات الاجتماعية وإعادة التوزيع. وعلى الرغم من عقود من التقدم، لا تزال أمريكا اللاتينية هي أكثر المناطق تفاوتاً في العالم، وتظهر بلدان أمريكا اللاتينية والكاريبي تفاوتاً في الدخل أعلى من مثيلاتها في المناطق الأخرى ذات مستويات التنمية المماثلة. يسود اعتقاد راسخ لدى البعض بأن هذا الوضع متجذر في بنية تاريخية قوية موروثة من الحقبة الاستعمارية، والهيكل الطبقي للمجتمعات اللاتينية، حيث تحتكر نسبة محدودة من السكان النسبة الأكبر من الثروة والدخل ومصادر السلطة في المنطقة. إلى جانب عدم استدامة السياسات الاجتماعية الهادفة إلى الحد من التفاوت الاجتماعي.
في خضم تعافي أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي من جائحة كوفيد-19 وتداعيات الحرب في أوكرانيا، تظل الحاجة إلى استمرار النمو الديناميكي والشامل والمستدام ذات أهمية قصوى وملحة بشكل متزايد. ولتعزيز التعافي وتعزيز النمو والحد من الفقر وعدم المساواة، يجب على البلدان مواصلة الاستثمار في السياسات الرامية إلى تحسين توزيع الأصول (خاصة التعليم) مع العناصر الهادفة إلى تحسين قدرة الدولة على إعادة توزيع الدخل من خلال الضرائب والتحويلات.
5- جدلية الأمن التقليدي/ غير التقليدي: غالباً ما يتم تقديم أمريكا اللاتينية من وجهة نظر تاريخية كاستثناء مقارنةً بأوروبا وكمثال لبقية العالم عندما يتعامل المرء مع قضايا الأمن التقليدية، في ظل محدودية المواجهات العسكرية بين دول المنطقة، وانخفاض حدة النزاعات الحدودية. مع ذلك، فقد تغير السيناريو المحلي والإقليمي خلال السنوات الأخيرة، بشكل ملحوظ، وأصبح يتسم بتطورات مثل فك الارتباط بالولايات المتحدة، وظهور “قوى إقليمية صاعدة”، وإنشاء مؤسسات أمنية متعددة الأطراف أكثر من أي وقت مضى، وتفسيرات جديدة لمفاهيم الإقليمية والتكامل الإقليمي. ومع تراجع حدة التحديات الأمنية التقليدية في أمريكا اللاتينية، برزت أشكال أخرى من التهديدات الأمنية غير التقليدية، مثل: العنف السياسي الداخلي، والاتجار بالمخدرات، والهجرة غير الشرعية.
وبالرغم من تحوّل أمريكا اللاتينية إلى الديمقراطية وانتهاء سلسلة من الحروب الأهلية طويلة الأمد مع تسويات تفاوضية مستدامة، فإن المنطقة لا تزال الأكثر عنفاً في العالم، على الرغم من بعض الاختلافات بين البلدان هناك. يمكن تفسير هذا الوضع باهتمام الحكومات المتعاقبة في غالبية دول أمريكا اللاتينية بالتغييرات الرسمية، على مستوى التشريعات والقوانين والمؤسسات، أكثر من التركيز على معالجة الجذور الهيكلية التي تُعيد إنتاج مظاهر مختلفة من العنف، مثل عدم المساواة والفقر المرتفع.
6- تحول التحالفات الجيوسياسية: ساهمت الأحداث العالمية مثل جائحة كوفيد-19 والصراع بين أوكرانيا وروسيا، وبشكل عام، التغيرات في الظروف البيئية والتطورات التكنولوجية والعولمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية؛ في إعادة تشكيل المصالح القومية، وتعديل نظام التحالفات الدولية. في الوقت الحالي، أصبح تركيز السياسة الخارجية الأمريكية على المنافسة الاستراتيجية يحظى بدعم واسع النطاق من الحزبين في ظل إدارة الرئيس “جو بايدن”، مع دخول الولايات المتحدة مرحلة جديدة من التنافس الجيوسياسي الذي لا يجري في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا والشرق الأوسط فحسب، بل في الجوار الجغرافي المباشر للولايات المتحدة: داخل نصف الكرة الغربي.
من المُرجح أن تزداد الأهمية الاستراتيجية لأمريكا اللاتينية في سياق منافسة القوى الكبرى مستقبًلا، بالنظر إلى عدة عوامل، لعل أبرزها وجود ما يقرب من 55% من رواسب الليثيوم في العالم في أمريكا اللاتينية، وبالتحديد داخل مثلث الليثيوم، وهو عبارة عن رقعة من الأراضي تشمل المناطق الشمالية في تشيلي والأرجنتين وجنوب غرب بوليفيا. يمثل هذ المعدن أهمية خاصة في إطار جهود العالم للتحول إلى الطاقة النظيفة، لما له من دور محوري في تصنيع السيارات الكهربائية. تقدر وكالة الطاقة الدولية أنه بحلول عام 2040 سيزداد الطلب على الليثيوم 42 مرة.
وختاماً، يوضح الكتاب أنه بالرغم من معاناة منطقة أمريكا اللاتينية من ضعف التكامل الإقليمي، والعديد من الأزمات الهيكلية؛ فإن هناك بعض المقومات التي تمتلكها هذه الدول، إضافةً إلى عدد من التجارب والأدوار التي تقوم بها، والتي تستدعي إعادة التفكير في أهمية ومكانة أمريكا اللاتينية في النظام العالمي، وخصوصاً مع الإمكانات والفرص السياسية والاقتصادية التي تتضمَّنها دول القارة، حتى إن الكثير من الأدبيات تصفها بأنها قوة صاعدة؛ سياسياً واقتصادياً.