تعديل المسار:

هل تتمكن الصين من إعادة ضبط سياستها الخارجية؟
تعديل المسار:
26 يناير، 2023

عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

في مؤشر اعتبره الكثيرون بداية تحول في السياسة الخارجية الصينية، أشار نائب رئيس مجلس الدولة الصيني “ليو هي” في مؤتمر دافوس في منتصف يناير 2023، إلى أن الصين عادت منفتحة على الأعمال، وأن مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي للحزب، أصدر إرشادات ملائمة تهدف إلى تحفيز نمو اقتصادي أكبر، كما ظهر المسؤول الصيني مع وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، ودعاها لزيارة بكين؛ ما يشير إلى اهتمام صيني بالتنسيق الاقتصادي مع الولايات المتحدة لأول مرة منذ سنوات. وفي ضوء هذا نشر موقع “فورين بوليسي” مقالاً للكاتب ستيفن والت، بعنوان “هل تستطيع الصين التراجع عن هجومها الساحر؟”. ويمكن تناول أبرز ما جاء فيه على النحو التالي:

استدارة بكين

شهدت الفترة الأخيرة جملة من المؤشرات على مسعى صيني لإعادة ضبط السياسة الخارجية. وتتمثل أبرز تلك المؤشرات فيما يلي:

1- تخلي الرئيس الصيني فجأة عن سياسة “صفر كوفيد”: لا يزال نطاق وسرعة التغييرات التي أجراها الرئيس الصيني شي جين بينج مؤخراً، مثيراً للإعجاب؛ فبعد أن عزز قبضته على السلطة، في المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني، في أكتوبر 2022، قام الرئيس الصيني بالتخلي فجأة عن سياسة صفر كوفيد التي لطالما دافع عنها، على الرغم من أن حدوث احتجاجات عامة في البلاد كان أمراً غير متوقع. وربما تأتي خطوة الرئيس الصيني بهدف طمأنة وتنشيط القطاع الخاص في الصين في مواجهة النمو الاقتصادي الضعيف، وجهوده السابقة لعرقلة عمل الشركات الصينية الخاصة.

2- تحركات صينية لإصلاح العلاقات مع القوى الغربية: من ضمن المؤشرات على سعي بكين لإعادة ضبط سياستها الخارجية، عقد الرئيس “شي” والرئيس الأمريكي بايدن اجتماعاً ودياً في قمة مجموعة العشرين في بالي، كما استقبل “شي” المستشار الألماني أولاف شولتز في بكين، والتقى رؤساء دول في جنوب شرق آسيا، وسافر إلى السعودية لحضور سلسلة من اجتماعات القمة. يأتي هذا فيما أوضح نائب رئيس مجلس الدولة الصيني ليو هي، في مؤتمر دافوس في 16 يناير، أن الصين عادت منفتحة على الأعمال، وأن مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي للحزب، أصدر إرشادات ملائمة تهدف إلى تحفيز نمو اقتصادي أكبر. وظهر “ليو” أيضاً مع وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، ودعاها لزيارة بكين؛ ما يشير إلى اهتمام بالتنسيق الاقتصادي الصيني الأمريكي لأول مرة منذ سنوات.

3- تراجُع بكين عن دبلوماسية “الذئب المحارب”: تشير التحركات السابقة إلى أن ثمة تراجُعاً صينياً عما عُرف بدبلوماسية “الذئب المحارب – Wolf warrior” التي وصفت بالعدوانية؛ حيث يتخذ المسؤولون الصينيون موقفاً أكثر حزماً ضد الانتقادات التي توجه لبكين من الدول الغربية، في محاولة لاحتوائها. وربما رأت بكين أن الهجوم والتقليل من شأن الدبلوماسيين الأجانب والمسؤولين الحكوميين، من شأنه أن يُكسبهم أصدقاء جدداً ويعزز التأثير الصيني.

انعكاسات سلبية

أدت السياسة الخارجية لبكين خلال الفترة الماضية إلى جملة من التداعيات السلبية على الصين. ويتمثل أبرز تلك التداعيات فيما يلي:

1- تحفيز القوى الكبرى على مواجهة طموحات الصين: تبنت بكين مجموعة من السياسات المثيرة للجدل خلال الفترة الماضية، ومن أمثلة ذلك إعلان هدف أن تصبح بكين القوة العالمية الرائدة بحلول منتصف القرن الحالي. صحيح أنه قد يكون هذا هدف جديراً بالاهتمام، لكن مثل هذا التباهي الجريء كان من المؤكد أنه سيثير قلق الولايات المتحدة، ويضع عدداً من الدول الأخرى على أهبة الاستعداد أيضاً. كما أثيرت الكثير من التساؤلات حول جدوى الجمع بين الحشد العسكري الكبير، وبناء الجزر العسكرية في بحر الصين الجنوبي؛ حيث أدت سياسات بكين في بحر الصين الجنوبي إلى نتائج عكسية، وعززت شعور اليابان وتايوان بالتهديد، بالإضافة إلى دعم بكين موسكو في حربها ضد أوكرانيا.

2- إجماع حزبي في الولايات المتحدة على “مواجهة بكين”: كانت نتائج السياسة الخارجية للصين خلال الفترة الماضية واضحة للغاية، وقد تجلى ذلك في الإجماع الحزبي داخل الولايات المتحدة لصالح مواجهة التهديد الصيني، وما تبع ذلك من البدء في حرب تجارية سعت إلى عرقلة قطاع التكنولوجيا في الصين وفرض ضوابط شديدة على تصدير المنتجات العالية التقنية إليها.

3- توتير وعسكرة الجوار الجغرافي المباشر للصين: ساهمت سياسة بكين كذلك في تعزيز التحالف الأمني الرباعي بين الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا “كواد”، بالإضافة إلى قرار اليابان مضاعفة الإنفاق الدفاعي بحلول عام 2027 والتعاون بشكل أوثق مع الولايات المتحدة، فضلاً عن تلميح كوريا الجنوبية إلى أنها قد تحصل على أسلحة نووية، كرد فعل على تصرفات كوريا الشمالية وكذلك المخاوف بشأن السياسات الصينية، ناهيك عن التدهور الكبير في صورة الصين العامة في الاتحاد الأوروبي وأستراليا وعدة أماكن أخرى.

فرص النجاح

يتوقف نجاح محاولات الصين لإعادة ضبط سياستها الخارجية على عدة عوامل، لا سيما مدى قدرة قادة الصين على كبح التطلعات القومية لبلادهم، وعدم تحفيز القوى الدولية الأخرى على التوحد لمواجهة الصين، كما يحدث حالياً مع روسيا في أوكرانيا؛ وذلك على النحو التالي:

1- إمكانية عودة الصين لتبني سياسة “الصبر الاستراتيجي”: يتوقف نجاح الانعطافة الجديدة في السياسة الخارجية الصينية على مدى اعتماد بكين على سياسة “الصبر الاستراتيجي”، ومدى تركيزها على التنمية الاقتصادية المحلية، لا سيما في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، التي ستعزز رغبة الدول الأخرى في الحفاظ على علاقات وثيقة معها. ومن شأن تبني الصين سياسة كهذه أن تعمل على تثبيط أي محاولات أمريكية لإبطاء النمو الصيني. كما يُمكن أن تواصل بكين جهودها لبناء النفوذ داخل المؤسسات العالمية القائمة، وهو مسعى من المرجح أن ينجح إذا لم تكن الدول الأخرى قلقة بشأن كيفية استخدام بكين تأثيرها المعزز في المستقبل.

2- استمرار السياسات الصينية غير التدخلية: من المتوقع أن يتأثر النهج الصيني الجديد بمدى التزام بكين القوي بالسيادة الوطنية؛ فالنموذج السياسي الصيني، ليس جذاباً عالمياً، لكنه نادراً ما يخبر الدول الأخرى بكيفية تنظيم سياساتها الداخلية، ويتبنى صراحة فكرة أن كل دولة يجب أن تحدد بنفسها كيفية إدارة شؤونها الداخلية. على النقيض من ذلك، تحبذ الولايات المتحدة إلقاء محاضرات على الآخرين حول الكيفية التي يجب أن يحكموا بها أنفسهم، محاولة باستمرار إقناع البلدان الأخرى بتبني قيمها الليبرالية. ومن المرجح أن يكون نهج بكين الأقل تدخلاً في العلاقات الثنائية، جذاباً بشكل خاص، للأنظمة غير الديمقراطية الأخرى. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عدد الدول غير الديمقراطية، يفوق عدد الديمقراطيات الحقيقية، بهامش كبير في عالم اليوم.

3- التخلي عن سياسة ضم تايوان بالقوة: إذا لم تستطع الصين العودة إلى ما يشبه استراتيجيتها السابقة المتمثلة في “الصعود السلمي – peaceful rise”، فإن إعادة ضبط سياستها الخارجية التي تحاول صياغتها الآن ستفشل. قد تفشل بكين أيضاً لأن الرئيس الصيني لا يزال ملتزماً تماماً بتحقيق أهداف معينة، مثل ضم تايوان، بالرغم من أن الهجوم العسكري على الجزيرة سيكون اقتراحاً محفوفاً بالمخاطر، وسوف يدفع المخاوف من الصين إلى آفاق جديدة.

4- قدرة قادة الصين على كبح الطموحات القومية: كذلك قد تفشل محاولة الصين لإعادة ضبط سياساتها الخارجية؛ لأن قادة الصين يعتقدون أن قوتها قد تكون في ذروتها حالياً، وأنه يجب تحقيق تغييرات كبرى في النظام الدولي، في وقت قد لا تكون فيه الأمور مواتية لبكين؛ فلايزال السكان في تايوان، يعارضون بشدة أن تحكمهم بكين، ولا يمكن إجبارهم على إعادة التوحيد، إلا من خلال العمل العسكري. ومن ثم، سيعتمد نجاح السياسة الصينية الجديدة في المقام الأول، على “شي” ورفاقه إذا ما كانوا يدركون هذه المشكلة، ويبقون طموحاتهم القومية تحت السيطرة، ويركزون جهودهم على الاستمرار في بناء القوة الاقتصادية في الداخل.

إقصاء مستبعد

خلاصة القول، ربما ارتأت بكين أن سياستها الخارجية خلال الفترة الماضية لم تؤت ثمارها ولم تكن ناجحة بالشكل الكافي، وساهمت في تحفيز الغرب والعديد من دول العالم ضدها، ومن ثم تأتي محاولة بكين لإعادة ضبط سياستها الخارجية مخافة التعرض لعزلة دولية أكبر خلال الفترة القادمة. وبشكل عام، وعلى المدى القصير، فإن التخلي عن دبلوماسية “الذئب المحارب” وتكرار رغبة الصين في إقامة علاقات اقتصادية وثيقة مع الدول الأخرى، سيجد الكثير من القبول حول العالم. فعلى النقيض من قوتها العسكرية المتنامية، التي تؤدي إلى توتر العلاقات مع الدول الأخرى، نجد أن مكانة الصين وتأثيرها في العالم اليوم، يعود بشكل كبير إلى حجم اقتصادها وتطورها التكنولوجي المتزايد. حتى حلفاء الولايات المتحدة المقربون، لا يؤيدون قطع علاقاتهم الاقتصادية مع الصين؛ حيث أكد ذلك، رئيس الوزراء الهولندي مارك روته، في دافوس، موضحاً أن الصين تمثل اقتصاداً ضخماً يتمتع بإمكانيات هائلة وقاعدة ابتكار عملاقة، حتى لو كانت هناك مخاوف أمنية مشروعة.

كما أيد وزير المالية الفرنسي برونو لو مير، هذا الرأي قائلاً: “تريد الولايات المتحدة معارضة الصين، ونريد إشراك الصين. أعتقد اعتقاداً راسخاً أنه في لعبة العالم، يجب أن تشارك الصين، ولا يمكن أن تخرج”، بل إن العديد من الشركات الأمريكية، وعلى الرغم من اعتراضها على ممارسات الصين في مجال حقوق الإنسان وجهودها لتحدي الوضع الدولي الراهن، لا تؤيد قطع العلاقات الاقتصادية مع الصين.

المصدر:

Stephen M. Walt, Can China Pull Off Its Charm Offensive?, Foreign Policy, January 23, 2023, Accessible at: https://foreignpolicy.com/2023/01/23/can-china-pull-off-its-charm-offensive/


الكلمات المفتاحية:
https://www.interregional.com/%d8%aa%d8%ad%d9%88%d9%91%d9%8f%d9%84-%d8%ad%d8%b0%d8%b1/