رشح الرئيس الأمريكي جو بايدن، الأمريكيَّ من أصول هندية أجاي بانجا (63 عاماً) لرئاسة البنك الدولي، ليحل محل ديفيد مالباس الذي وصل إلى هذا المنصب في ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، والذي أعلن عن استقالته في أواخر شهر فبراير، بعد ضغوط كبيرة عليه من جانب الولايات المتحدة لإجراء إصلاحات هيكلية، ولتبني سياسات أكثر جرأةً. ومع ترشيح واشنطن لبانجا، أشارت ألمانيا – التي تعد واحدة من أكبر المساهمين في البنك – إلى ضرورة أن تتولى سيدة رئاسة البنك هذه المرة، بينما أعلن البنك الدولي أن من الممكن للدول إرسال أسماء المرشحين حتى 29 مارس الجاري، كما أوضح مجلس المديرين التنفيذيين للبنك، مراعاته الشفافية والنزاهة في اختيار الرئيس القادم للبنك الدولي. وبين هذا وذاك، يمكن توضيح المؤهلات التي يتمتع بها بانجا، والتي دفعت بايدن إلى ترشيحه، فضلاً عن التحديات والأهداف التي ستكون أمامه في حالة فوزه بالمنصب.
خبرات مؤهلة
يمتلك بانجا المولود في ولاية ماهاراشترا بغرب الهند في 10 نوفمبر 1959، العديد من الخبرات الأكاديمية والمهنية التي كانت عاملاً محفزاً لبايدن لاختياره مرشحاً أمريكياً لمنصب رئاسة البنك الدولي، ويمكن إيجاز ذلك فيما يلي:
1– خبير متخصص في الاقتصاد: تخرج بانجا في كلية ستيفان بنيودلهي؛ حيث حاز درجة البكالوريوس في الاقتصاد، وفيما بعد حصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من المعهد الهندي للإدارة أحمد أباد، وهو الأمر الذي يجعله خبيراً متخصصاً في علم الاقتصاد، ومؤهلاً لترؤس البنك الدولي الذي تملك فيه الولايات المتحدة الأمريكية قوة تصويت بنسبة 16.35%؛ ما يجعلها مساهماً رئيسياً في توجيه سياسات البنك بالتعاون مع وزارة الخزانة الأمريكية.
2– امتلاك خبرة عملية كبيرة: شغل بانجا منصب الرئيس التنفيذي السابق لشركة ماستركارد Mastercard، كما ترأس مناصب كبرى بالشركة التي تقاعد منها في ديسمبر 2021، ويمتلك علاقات متشعبة مع شركات القطاع الخاص والأسواق الناشئة التي تعمل في قضايا تغير المناخ والهجرة، فضلاً عن علاقاته المتشعبة بعدد كبير من القادة العالميين، بجانب عمله في البداية في شركتي الصناعات الغذائية نستله ثم بيبسيكو، ثم ترؤسه مناصب هامة في الشركة القابضة “هولدينج إكسور” وصندوق الأسهم الخاصة الأمريكي “جنرال أتلانتيك“، فضلاً عن عمله في استراتيجية تطوير القروض الصغيرة في بنك سيتي جروب الأمريكي بين عامي 2005 و2009، بجانب كونه على دراية كبيرة بتحديات ومطالب الدول النامية، وفقاً لما صرح به الرئيس الأمريكي في بيان. وفي ضوء ذلك، من المتوقع ترشيح بانجا بالإجماع، لا سيما أنه أمضى نحو 30 عاماً وهو يؤسس شركات عالمية، ويديرها بنجاح.
3– تبني أسلوب إدارة ناجح: يُمدَح أسلوب الإدارة الخاص ببانجا الذي نجح في دفع نحو 500 مليون شخص لاقتحام الاقتصاد الرقمي، بالرغم من أنهم لم يكن لديهم حسابات مصرفية، وساعد على حفظ نحو 19 ألف موظف في إبان جائحة كوفيد–19، كما دأب على تعزيز الاستثمارات الداعمة للمساواة بين الجنسين، ومكافحة التغيرات المناخية. وقد صرحت بذلك وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين عند تعقيبها على قرار بايدن ترشيح بانجا.
4– إشادة أمريكية بقدرات بانجا: رغم اتهام الولايات المتحدة بالدفع بهذا المرشح بصورة سريعة؛ لأنها لا ترغب في الدخول في منافسة مفتوحة مع بقية الدول، وترغب في السيطرة على مقعد رئاسة البنك الدولي، فإن الرئيس بايدن أشار خلال بيان ترشيح بانجا، إلى أن ذلك يأتي في إطار رغبة الولايات المتحدة في إحداث إصلاحات كبيرة في تلك المؤسسة العريقة، مؤكداً أنه بالنظر إلى الخلفية المهنية والأكاديمية التي يتمتع بها بانجا، كان من الطبيعي الإعلان عن ترشيحه بهذه السرعة. وقد أثنت وزيرة الخزانة جانيت يلين على قرار بايدن ترشيح بانجا، قائلةً إن “جهود بانجا سمحت بوصول 500 مليون شخص لا يملكون حسابات مصرفية إلى الاقتصاد الرقمي، وقيادة استثمارات خاصة لتطبيق حلول لمواجهة التغير المناخي وزيادة الفرص الاقتصادية من خلال الشراكة في أمريكا الوسطى”، موضحةً أن قرار ترشيحه حاز تعليقات إيجابية من مسؤولين عديدين بالقطاع المالي في مجموعة العشرين.
أهداف منشودة
من المؤكد أن اختيار الرئيس بايدن لبانجا يأتي رغبةً في تحقيق مجموعة من الأهداف، ومواجهة التحديات المختلفة التي يواجهها البنك الدولي بوجه خاص، والعالم بوجه عام خلال الحقبة الراهنة، ويمكن توضيح ذلك فيما يلي:
1– وجود أزمات عالمية تتطلب قيادة محنكة ورشيدة: يمر البنك الدولي في الوقت الراهن بمجموعة من الأزمات العالمية تسبب له مزيداً من الضغوط، وتتطلب قيادة رشيدة، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية التي كانت سبباً في حدوث اضطرابات اقتصادية عالمية، وارتفاعات غير مسبوقة في أسعار الغذاء، فضلاً عن جائحة فيروس كورونا وآثارها الاقتصادية التي لا يزال العالم يعاني منها حتى الآن، ومن بينها حدوث تراجع في معدلات النمو الاقتصادية، وخاصةً في الدول النامية، وضعف في معدلات التبرعات بما يؤثر على الدول التي تحتاج إلى مساعدات عاجلة. وقد أشار رئيس البنك الدولي المستقيل مالباس، في كلمة له في بداية العام، إلى أن من المتوقع أن يحقق الاقتصاد العالمي نمواً قدره 1.7% خلال عام 2023، متراجعاً عن توقعات منتصف عام 2022 التي تنبأت بتحقيق معدل نمو قدره 3%، وأضاف أن “متوسط النمو العالمي سيكون أقل من 2% بين عامي 2020 و2024، وهو أبطأ متوسط نمو لمدة 5 سنوات منذ عام 1960”.
2– استحواذ الاقتصاديات المتقدمة على رأس المال العالمي: في ظل توجه الاقتصاديات الكبرى لرفع أسعار الفائدة لمواجهة موجات التضخم المتنامية، وسد الديون الحكومية، تستحوذ الاقتصاديات المتقدمة على رأس المالي العالمي، وهو الأمر الذي يؤثر على مقدار الاستثمارات في الأسواق الناشئة والدول النامية، ويؤدي إلى انخفاض قيمة العملات الوطنية، مع تراجع القدرة على الإنفاق على مواجهة التغيرات المناخية، والحقوق المتعلقة بالتعليم والصحة والبنية التحتية، فضلاً عن استمرار تراجع قدرة بعض الدول على تأمين احتياجاتها من الغذاء والكهرباء والأسمدة الزراعية لفترات ليست بالقصيرة، كما أنه قد يزيد من معدلات الفقر داخل العديد من الدول، على غرار دول أفريقيا جنوب الصحراء، التي صرح مالباس بأنها “تضم 60% من فقراء العالم، ومن المتوقع أن يبلغ متوسط نمو الدخل الفردي 1.2% فقط خلال العامين المقبلين، وهو معدل من شأنه أن يتسبب في ارتفاع معدلات الفقر لا في انخفاضها”.
3– حاجة الدول النامية إلى دعم مالي أكبر من البنك الدولي: ترى الإدارة الأمريكية أنه من الضروري في ظل تلك الأزمات أن يقدم البنك المزيد من الدعم المالي إلى الدول المنخفضة الدخل، والدول المتوسطة الدخل، والدول التي تمر بأزمات وكوراث وصراعات، كما سيتعين على بانجا حال فوزه بالمنصب أن يثبت قدرته على الموازنة بين تلك المتطلبات دون تعريض الوضع المالي للمؤسسة للخطر، وسيكون عليه العمل على تشجيع الاستثمارات في الدول النامية لخلق المزيد من الوظائف، ودفع عجلة الإنتاج، وحماية ملايين الأفراد من الوقوع في براثن الفقر، مع محاربة الإجراءات الحمائية التي تبنتها بعض الدول مع اندلاع الحرب الروسية التي تم بموجبها حظر تصدير الأسمدة والسلع الغذائية، بما أسهم في التأثير على الأمن الغذائي في مختلف الدول.
4– إعطاء الرئيس الأمريكي أولوية لقضية التغير المناخي: تعتبر قضية التغير المناخي من القضايا الملحة التي يرغب الرئيس جو بايدن من البنك الدولي التركيز عليها؛ حيث يسعى بايدن لدفع قضايا التنمية والتغير المناخي لتكون في مقدمة أجندة البنك؛ ولذلك أشار في بيانه إلى أن بانجا يمتلك القدرة على “تعبئة الموارد المالية اللازمة” لمكافحة الاحتباس الحراري؛ وذلك بعد انتقادات عدة لرئيس البنك الدولي المستقيل مالباس، الذي كان من المفترض أن تنتهي ولايته في 9 أبريل 2024؛ حيث تم اتهامه بعدم القدرة على إعطاء أولوية لتلك القضية الملحة، كما أن عمل بانجا السابق في “جنرال أتلانتيك” شركة الأسهم الأمريكية التي أنفقت ما يتجاوز 800 مليون دولار في تنفيذ حلول تتعلق بإنتاج الطاقة الشمسية، وشحن المركبات الكهربائية، وتعزيز الزراعة المستدامة؛ سيعزز عمله في تلك القضايا، وما سيساعده على ذلك هو التمويلات التي يخصصها البنك الدولي للتنمية وتغير المناخ، والتي تقترب من تريليون دولار سنوياً.
5– الرغبة في مأسسة شراكات مالية متعددة المستويات: هناك رغبة أمريكية في دفع البنك الدولي نحو مأسسة الشراكات المتعددة المستويات والأطراف، لتشمل تعزيز العلاقات والشراكات بين الحكومات الوطنية وشركات القطاع الخاص ومؤسسات التمويل الرسمية المختلفة الإقليمية والدولية. وهذا سيتطلب من بانجا العمل من جانب على تشجيع الجهات المانحة على تقديم المزيد من الأموال والمساعدات، والعمل من جانب آخر على دفع الحكومات وتشجيعها، وخاصةً حكومات الدول النامية، لتيسير أعمال القطاع الخاص، وتنفيذ رؤى البنك الدولي المالية بدافع أنها ستساعدها في خفض ديونها.
قضية ملحة
وختاماً، يمكن القول إن من المتوقع الموافقة على بانجا بالإجماع داخل البنك الدولي، وقد يكون لذلك انعكاسه على سياسات البنك الدولي خلال الفترة المقبلة، لا سيما ما يتعلق بالتغيرات المناخية التي تعتبر قضية ملحة للإدارة الديمقراطية الراهنة، مع تقديم المزيد من الدعم المالي للدول النامية، لكن تلك النقطة قد يكون من الصعب التنبؤ بالقدرة على تحقيقها في ظل الظروف المتعثرة اقتصادياً التي يمر بها دول العالم، والتي تقلل مستويات الاستثمارات الأجنبية في الدول النامية، وكذلك تقلل مستويات التبرعات المالية والمساعدات العالمية.