اعتمد الرئيس الفرنسي “ماكرون” في مقاربته للحرب الأوكرانية، خلال عامه الأول، على عدد من التوجهات الرئيسية؛ في مقدمتها تجنب استفزاز موسكو، والدعم المحسوب لكييف، وتأييد انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، وضمان عدم انتقال مركز الثقل الأوروبي إلى الشرق، والمشاركة في العقوبات على روسيا، علاوة على تأكيده في خطابه الرسمي مبادئ أساسية على غرار الدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، والدفاع عن القيم الديمقراطية والحريات.
تأرجح الموقف
تدرج الموقف الرسمي الفرنسي حيال الصراع الأوكراني وفقاً لعدة عوامل؛ منها تغير موازين القوى على الأرض، وإحراز القوات الأوكرانية بعض التقدم في أواخر عام 2022، وتوجيه انتقادات لفرنسا من قبل بعض دول أوروبا الوسطى والشرقية، ورئاسة فرنسا الدورية للاتحاد الأوروبي، والانتخابات الرئاسية في فرنسا. ويمكن الإشارة إلى أبعاد الموقف الفرنسي المتدرج من خلال ما يلي:
1- الابتعاد عن إذلال روسيا: بعد أسابيع من اندلاع الصراع، وتحديداً في مايو 2022، قام ماكرون بالدعوة إلى “عدم إذلال” روسيا Ne pas humilier la Russie؛ ما أدى الى توجيه انتقادات قاسية إليه؛ ما دفع السلطات الفرنسية إلى توضيح مقاصد ماكرون وإظهار أنها مخالفة كلياً لوجهة النظر الروسية تجاه أوكرانيا، ولكنها تسعى بالتوازي مع ذلك إلى تجنب تحول الحرب في أوكرانيا إلى حرب بلا نهاية يكون ضحيتها الشعب الأوكراني؛ لذلك فإن “ماكرون” أراد من وراء هذه الدعوة تهيئة الأرض لتسوية تضمن المصالح الأوكرانية على المدى الطويل، كما أراد التذكير بالنتائج الكارثية التي تمخضت عن عملية إذلال ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى؛ فهل المطلوب “إعادة الكَرَّة في التعامل مع روسيا؟”.
2- محاولة تجاوز الضبابية عبر زيارة كييف: أراد “ماكرون” من وراء زيارته إلى كييف في يونيو 2022 تشكيل انعطافة تؤدي إلى تجاوز الضبابية التي خلفتها مواقفه السابقة بشأن عدم إذلال روسيا، والتي أسيء فهمها، خصوصاً في أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية، معلناً من كييف عن سعي بلاده لجعل أوكرانيا تنتصر، وتستعيد سيادتها وليس فقط إلى إبقائها صامدة في ساحة المعركة. وتعمد “ماكرون” قبل الوصول إلى كييف المرور عبر ثلاثة من دول أوروبا الشرقية؛ هي: رومانيا ومولدوفا وبولندا؛ وذلك لتصحيح الصورة المأخوذة عنه بأنه مؤيد أو راضٍ عما تفعله روسيا.
3- عرض إعطاء روسيا ضمانات أمنية: في ديسمبر 2022 قال ماكرون في مقابلة مع قناة TF1 الفرنسية، إنه سيكون من الضروري إعطاء ضمانات أمنية لروسيا في اليوم الذي تقرر فيه الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وقال ماكرون إن روسيا تخاف من وصول حلف الناتو إلى أعتابها ومن نشر أسلحة يمكن أن تهدد أمنها عند هذه الأعتاب، وعرَّضت هذه التصريحات من جديد ماكرون لانتقادات شديدة، وخاصة في أوكرانيا؛ حيث رفض مسؤولون أوكرانيون على الفور هذه الأفكار، معتبرين أنه “لا يمكن تقديم ضمانات لدولة إرهابية وقاتلة” وأنه “يجب تقديم مجرمي الحرب الروس إلى محكمة شبيهة بنورنبرج بدل التفكير في كيفية إجراء مصافحات معهم”، وأن “بقية العالم هو من يحتاج إلى ضمانات أمنية من روسيا وليس العكس”.
4- استقبال “زيلينسكي” في باريس: في 8 فبراير 2023 قام الرئيس الأوكراني بزيارة باريس، والتقى فيها كلاً من الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشار الألماني شولتز. وأشار ماكرون إلى دعمه الثابت لأوكرانيا، مشدداً على نقطة أساسية؛ وهي أن روسيا لا تستطيع ولا ينبغي لها أن تربح، مؤكداً أن رغبة فرنسا تتمثل في مرافقة كييف “حتى النصر”. واعتبر “زيلينسكي” أن ماكرون قد تغير نحو الأحسن بعد أن أصبح يطالب بانتصار أوكرانيا وبدعم انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
5- انتصار أوكرانيا من دون سحق روسيا: وفرت نظرية التناقض Paradox Theory، القائمة على التعارض المستمر بين ظاهرتين متناقضين ولكنهما مترابطتان، وسيلة لصياغة الأسلوب الاستراتيجي المتبع من قبل الرئيس الفرنسي ماكرون الذي أࣳطلق عليه تسمية ̎ في الوقت نفسه̎ En même temps (وهي عبارة يلجأ إلى استخدامها كثيراً). ووفقاً لهذا الأسلوب، وبما أن الظاهرتين اللتين يجب إدارتهما ليستا قابلتين للفصل، فإنه يجب التعايش معهما؛ كالمزاوجة مثلاً بين استقلال فرنسا وبناء أوروبا أكثر سيادةً. وتتجلى هذه النظرية في الملف الأوكراني من خلال جمع ماكرون بين معارضته للغزو الروسي لأوكرانيا مع الاستمرار في الحوار مع بوتين.
وعلى الرغم من التغير النوعي الذي ظهر في الموقف الذي أدلى به الرئيس الفرنسي، في 18 فبراير 2023، على متن الطائرة التي أعادته إلى فرنسا بعد مشاركته في المؤتمر السنوي للأمن في ميونخ – وذلك من خلال المقابلة التي أجرتها معه صحيفة لوفيجارو le Figaro؛ حيث عبر بشكل صريح أنه يريد أن “تࣳهزم” موسكو ضد كييف – فإنه أتبع ذلك بتوجيه انتقاد إلى الذين يريدون قبل كل شيء سحق روسياEcraser la Russie مشيراً الى أن ذلك لن يكون أبداً موقف فرنسا؛ لأنه في النهاية لن يستطيع طرف أن يهزم الآخر هزيمة كلية؛ لذلك فإن نهاية الحرب لن تتحقق إلا عبر التفاوض.
6- تطور الخطاب نحو ضرورة إفشال روسيا: ويعد هذا بحد ذاته تطوراً لافتاً في خطاب ماكرون، خصوصاً بعد انتقادات بعض المراقبين لخطابه في مؤتمر ميونخ الذي نص على أن الاعتداء الروسي على أوكرانيا يجب أن يفشل l`aggression russe doit échouer؛ وذلك لعدم استعماله كلمة “هزيمة موسكو”، كما تابع ماكرون في مقابلة le Figaro نفسها أن جميع الخيارات لاستبدال فلاديمير بوتين لا يمكن أن تفضي إلا إلى خيار أسوأ؛ لأنها ستقودنا إلى شخصيات أكثر تشدداً منه، كسكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف أو رئيس مجموعة فاجنر يفجيني بريجوجين، مستبعداً انبثاق شخصية معتدلة من المجتمع المدني الروسي. هذا الكلام استدعى رداً من الرئيس الأوكراني في 19 فبراير الماضي الذي اعتبر أن نظيره الفرنسي “يضيع وقته” باستحضار الحوار مع موسكو والتعويل على حكمة بوتين.
محددات التحرك
حاول الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” الاعتماد على عدد من ممارسات واصطفافات الرؤساء الفرنسيين السابقين (كشارل ديجول وميتران وشيراك وساركوزي وهولاند) خلال أزمات سابقة لبناء مواقفه حيال الصراع الدائر في أوكرانيا، مع إضافة بعض لمساته الشخصية، التي يمكن تلخيص أبرزها بالتالي:
1- التمسك بإظهار فرنسا كقوة توازن: لا تزال فكرة الجنرال ديجول بإبراز فرنسا كقوة توازن تحتل حيزاً واسعاً لدى صناع القرار الفرنسيين؛ ففرنسا وفق هذه الفكرة يجب أن تبقى قادرة على التحدث مع الجميع وعلى طرح مخارج للأزمات، حتى لو كان ذلك يؤدي في بعض الأحيان إلى توتير علاقاتها مع حلفائها. وتعود جذور هذه الفكرة إلى أنه لا يمكن بناء أمن أوروبي مستقر من دون حوار مع العملاق الروسي؛ حيث إن التقارب الجغرافي يحتم ذلك، كما أن ديجول كان يعتبر أن الحوار بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن يجب ألا ينقطع مهما كانت الظروف.
ومتـأثراً بهذا الخط التاريخي، بقي الرئيس الفرنسي “ماكرون” مقتنعاً حتى قبل 24 فبراير 2022 بوقت قليل أنه يمكن الاتفاق مع روسيا على ترتيب معين يمنع اندلاع الحرب، وبعد اندلاعها صار “ماكرون” يروج لفكرة أن الإبقاء على قنوات حوار فرنسية مع “بوتين” ستقطع الطريق على الصينيين أو الأتراك أو غيرهم للعب دور مهم في إدارة المفاوضات ولعب دور الوسيط لإنهاء الأزمة، ومن ثم الولوج إلى الساحة الأوروبية والتقرير نيابةً عن الأوروبيين أنفسهم في مسألة تخصهم. وقام رئيس الوزراء البولندي ماتيوز موراسكي بانتقاد فكرة ماكرون حول إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع بوتين، متوجهاً له بالقول بأن “روسيا تحت سيطرة بوتين هي أشبه بدولة توتاليتارية أو نازية؛ فهل كنت ستتحاور مع هتلر مثلاً لو كان موجوداً الآن؟ وماذا جنيت من حواراتك السابقة مع بوتين؟”.
2- محاولة تهدئة الضغوط الداخلية في فرنسا: منذ بداية الصراع في أوكرانيا، تبنى الرئيس الفرنسي فكرة تقديم دعم عسكري لكييف، ولكن من دون تجاوز عتبة معينة تسمح بتصنيف فرنسا دولة مشاركة في القتال Co-belligerent مع أوكرانيا تحارب معها ضد عدو مشترك هو روسيا؛ لذلك بقي إرسال باريس أسلحة ثقيلة وهجومية إلى كييف يمثل خطاً أحمر لا يمكن المجازفة بتجاوزه من قبل فرنسا، لا سيما في ظل وجود قوى سياسية داخلية تعارض ذلك؛ كأحزاب أقصى اليمين واليسار التي صدر عنها مطالبات بإخضاع عملية إرسال السلاح الفرنسي إلى أوكرانيا إلى نقاش في البرلمان؛ وذلك لمزيد من الشفافية ولتجنب احتمال أن يؤدي إرسال الأسلحة الثقيلة إلى تدويل النزاع، ومن ثم تعريض فرنسا لخطر كبير.
وهذا المحاذرة الفرنسية من التورط ضد روسيا موجود حالياً لدى شريحتين وازنتين في المجتمع الفرنسي: الأولى تضم اليساريين الذين ما زالوا يحملون في داخلهم حنيناً إلى “وطن العمال” المتمثل في الاتحاد السوفييتي السابق، والثانية قريبة من أجواء اليمين المحافظ، التي ترى في بوتين منقذاً لمسيحيي الشرق ومدافعاً عن القيم الأخلاقية والعائلية. وأيضاً يذكر هذا الحذر الفرنسي في التعامل مع الخطوط الحمراء بانكفاء الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند عن معاقبة المسؤولين عن استخدام السلاح الكيمائي في سوريا بشكل انفرادي بعد تراجع الرئيس الأمريكي أوباما عن الاتفاق الذي أبرمه مع هولاند في عام 2013.
3- استحضار دور فرنسا في الأزمة الجورجية: الصراع الدائر حالياً في أوكرانيا له العديد من أوجه التشابه مع الأزمة الجورجية في عام 2008؛ فقد كان تدخلاً عسكرياً روسياً في دولة كانت سابقاً داخل الكتلة الشرقية من أجل ضم منطقة ذات نزعة انفصالية موالية لها، كما أن فرنسا كانت تتولى في بداية الأزمتين الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي (وذلك خلال النصف الأول من عام 2008 مع نيكولا ساركوزي والنصف الثاني لعام 2022 مع إيمانويل ماكرون).
ولقد حاول ماكرون في 2022، تكرار نجاح تجربة الوساطة التي قام بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في 2008 والتي أدت الى وقف التصعيد الروسي وتجنب الغزو الكامل لجورجيا، إلا أنه فشل في ذلك على الرغم من ذهابه إلى موسكو في 7 فبراير 2022، وعلى الرغم من الاتصالات الهاتفية المتكررة التي جمعته بالرئيس الروسي بوتين. وتعود أسباب الإخفاق إلى أن صلاحيات الرئاسة الدورية الأوروبية في عام 2022 تقلصت عما كانت عليه في عام 2008، خصوصاً بعد دخول معاهدة لشبونة حيز التنفيذ في ديسمبر 2009؛ حيث لم يعد بعدها الرئيس الذي يشغل الرئاسة الدورية يترأس في الوقت نفسه المجلس الأوروبي؛ أي اجتماع رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي، ولا مجلس الشؤون الخارجية؛ الأمر الذي كان يؤمن لساركوزي في عام 2008 حيزاً واسعاً للتحرك وإطلاق مبادرته للوساطة بالنيابة عن الاتحاد الأوروبي، وهو ما حرم منه ماكرون الذي وجد نفسه مكبلاً بمسؤولياته الرئاسية الأوروبية من أجل تبني موقف أوروبي متشدد حيال عمليات موسكو العسكرية في أوكرانيا أعاقت رغبته في الذهاب بعيداً في لعب دور الوسيط .
4- عدم السير عكس التيار الأمريكي: كانت الولايات المتحدة في طليعة الدول التي قدمت دعماً عسكرياً ومالياً لأوكرانيا وبفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، ولم تشأ فرنسا السير عكس هذا التيار، خصوصاً مع ظهور الخطأ في التقدير الذي وقعت فيه الاستخبارات الفرنسية المتمثل في عدم توقعها وجود نية حقيقية روسية بغزو أوكرانيا، واعتبار أن ما تريده روسيا من وراء حشد جيوشها على الحدود مع أوكرانيا هو محاولة ابتزاز القادة الغربيين للحصول على مكاسب منهم، واعتمد ماكرون على تقارير أجهزته لإظهار أن فرنسا لا تسير خلف التوجهات الأمريكية بشكل أعمى (التي كانت تتوقع حصول تدخل عسكري روسي وشيك)، ودفع هذا الإخفاق إلى الإطاحة بمدير المخابرات العسكرية الجنرال إريك فيدو Eric Vidaud، في 31 مارس 2022 ثمناً لفشله في استكشاف النوايا الروسية الحقيقية.
وفي هذا الصدد، تماهت باريس مؤخراً مع موقف واشنطن الذي عبر عنه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في فبراير 2023 بأن ترجيح ساحة المعركة لصالح أوكرانيا سيصبح أفضل طريقة لتسريع آفاق الدبلوماسية؛ حيث أكد ماكرون أن المطلوب اليوم هو أن تقود أوكرانيا هجوماً عسكرياً يعطل الجبهة الروسية؛ وذلك من أجل العودة إلى المفاوضات. وربما تعول هذه الرؤية على احتمال أن روسيا المحاصرة ستوافق على هزيمتها عوضاً عن اللجوء إلى استخدام أسلحة أكثر تدميراً.
وختاماً.. حتى لو عدل “ماكرون” خطابه فيما يخص الحرب في أوكرانيا عدة مرات خلال سنة واحدة؛ حيث تجلى ذلك في ابتعاده عن تكرار دعواته السابقة لعدم إهانة روسيا أو بضرورة تقديم ضمانات لها، كما ظهر أيضاً من خلال الكشف عن سعيه الصريح لدعم انتصار كييف، لكن هذا لا يعني أنه تخلى عن فكرة التفاوض مع “بوتين”؛ هو فقط يحاول اختيار الكلمات التي يظنها مناسبة وتتماشى مع التطورات الحاصلة على الأرض في كل مرحلة، مع الإخلاص بشكل أساسي لاستراتيجيته التي اشتهر بها، وهي استراتيجية “في الوقت نفسه̎ ولمحاولاته إبراز فرنسا تحت قيادته كقوة توازن في خضم الاضطرابات الدولية.