تحمل المناورات الإيرانية الأخيرة بالقرب من الحدود مع أذربيجان، العديد من الرسائل، بالنظر إلى توقيت تلك المناورات، وحجم القوات المشاركة فيها، بالإضافة إلى طبيعة المنطقة التي تُجرَى فيها المناورات، والتي يرى البعض أن إيران لم تقم بمناوراتٍ فيها منذ 30 عاماً. إذ تأتي المناورات الإيرانية كمحاولةٍ لإظهار الحسم في مواجهة أذربيجان، لا سيما مع التوترات الأخيرة في العلاقات بين البلدين، بالإضافة إلى خشية إيران من تموضعٍ إسرائيليٍّ في شمالها، لا سيما مع التوترات المتصاعدة بين الطرفين، التي يُرجح أن تتصاعد في الفترة القادمة، وكذلك مع تراجع الآمال في المفاوضات النووية، كما تأتي المناورات الإيرانية كرسالة تحذيرٍ ضمنيةٍ لتركيا، في ظل قلق طهران من نفوذها المتزايد في آسيا الوسطى، والتحالف العسكري والاستخباراتي المتصاعد بين باكو وأنقرة، كما تمثل المناورات رسالة ردعٍ إلى كردستان العراق، خاصةً بعد التحذيرات الإيرانية الأخيرة للإقليم، ولا تنفصل المناورات عن محاولة الترويج للجاهزية والأسلحة الإيرانية الجديدة.
وكان الجيش الإيراني، قد أطلق مطلع شهر أكتوبر الحالي، مناوراتٍ عسكريةً ضخمةً شمال غرب البلاد على الحدود مع أذربيجان؛ وذلك بحضور قائد القوات البرية للجيش الإيراني العميد كيومرث حيدري، ورئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية. وتشارك في المناورات التي أُطلق عليها اسم “فاتحو خيبر”، قواتٌ بريةٌ وجويةٌ، ووحداتٌ مُدرَّعةٌ ومدفعيةٌ، وطائراتٌ مُسيَّرةٌ، وأنظمةُ حربٍ إلكترونيةٌ، بالإضافة على مشاركة لواء تدخلٍ سريعٍ، كما تشمل المناورات تنفيذ عمليات إنزالٍ، ودعمت الطائرات المروحية الوحدات المشارِكة في المناورات نارياً من الجو. وقد أعلن قائد القوات البرية الإيرانية أن هدف المناورات هو “الارتقاء بالجاهزية القتالية للقوة البرية في هذه المنطقة”، دون أن يحدد مداها الزمني.
دوافع مختلفة
يمكن تناول أبرز الأسباب وراء تلك المناورات الإيرانية الضخمة، وما صاحبها من توترٍ متصاعدٍ بين طهران وباكو؛ وذلك على النحو التالي:
1– محاولة إظهار الحسم في مواجهة أذربيجان: تأتي المناورات الإيرانية بعد احتجاز باكو سائقَين إيرانيَّيْن مؤخراً، وفرض ضريبةٍ على شاحناتٍ إيرانيةٍ تنقل سلعًا ووقودًا من إيران إلى مناطقَ مدعومةٍ من أرمينيا في منطقة ناجورنو كارا باخ، لكن لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن تكون تلك الحوادث وحدَها هي السببَ وراء التوترات الحالية بين طهران وباكو، التي وصلت إلى حد إطلاق الصحفي الإيراني “حسين داليريان” القريب من الحرس الثوري تهديدًا قال فيه: “تخيَّلوا فقط اندلاع حربٍ ضدَّ أذربيجان. يمكن لإيران إطلاق 1000 صاروخٍ باليستيٍّ واستهداف 1000 نقطةٍ أساسيةٍ. ستنتهي الحرب خلال يومٍ واحدٍ، ولن يكون هناك وقتٌ لاستخدام عتادٍ آخر”.
وعليه، يبدو أن التوترات الأخيرة بين البلدين ترجع في الأساس إلى أسبابٍ أعمقَ بكثير؛ لعل أهمها الشراكة الدفاعية المتصاعدة بين أذربيجان وتركيا، والتعاون الواسع بين باكو وتل أبيب، بالإضافة إلى الاتهامات الإيرانية المستمرة لباكو ولأنقرة بمحاولة إحياء النزعة القومية لأَذْرِيِّي إيران، وهو الملف الذي عادةً ما يثير الخلافات بين البلدَيْن؛ حيث تضم إيران من 15 إلى 20 مليون أذريٍّ، وهم أكبر عرقيةٍ في البلاد؛ حيث يتجاوز عددهم سكان أذربيجان نفسها البالغ تعدادهم 10 ملايين شخصٍ تقريباً، وعادةً ما تُتَّهم باكو بإثارة النزعات الانفصالية للأَذْريِّين، وتحريضهم ضد السلطة المركزية في طهران.
2– الخشية من تموضعٍ إسرائيليٍّ في شمال إيران: في ظل العلاقات المتوترة باستمرارٍ بين تل أبيب وطهران، لا يُخفي القادة الإيرانيون أن المناورات الكبيرة بالقرب من الحدود مع أذربيجان موجهةٌ في الأساس إلى الجانب الإسرائيلي. ولعل تسمية المناورات باسم “فاتحو خيبر” يعتبر أوضح رسالةٍ في هذا الإطار؛ حيث تعددت التصريحات الإيرانية المحذرة مما يسمى الوجود الإسرائيلي الكثيف في أذربيجان؛ ففي الرابع من أكتوبر الجاري، أعرب وزير الخارجية الإيراني عن قلقه مما سمَّاه الوجود الإسرائيلي ووجود الإرهابيين في جنوب القوقاز وشمال إيران، مؤكداً أن بلاده لم تسمح لبعض الأطراف بالتأثير في علاقاتها بدول الجوار.
إلى ذلك، أشار قائد القوات البرية الإيرانية العميد “محمد باكور”؛ إلى أن بلاده لن تقبل بتحول أراضي الجوار إلى ساحةٍ آمنةٍ لتل أبيب؛ تمارس فيها عملياتها لزعزعة أمن المنطقة. وفي الإطار نفسه، كشف دبلوماسيٌّ إسرائيليٌّ سابقٌ أن إيران لديها معلوماتٌ موثقةٌ بوجود 1000 عنصرٍ إسرائيليٍّ في أذربيجان. جديرٌ بالذكر أن بعض الأسباب الرئيسية للتوتر بين طهران وباكو يرجع إلى ما تعتبره إيران دعماً إسرائيليّاً موسعاً للجيش الأذربيجاني في الحرب الأذربيجانية – الأرمينية الأخيرة.
ومن ثم، وفي ضوء التصعيد الكبير والحرب غير المباشرة بين طهران وتل أبيب، التي يُمكن أن تتصاعد في المرحلة القادمة؛ يبدو أن إيران تخشى من تداعيات التعاون العسكري والاستخباراتي المتصاعد بين باكو وتل أبيب، وما يمكن أن يحمله تمركز إسرائيل على حدود إيران الشمالية من مخاطرَ؛ حيث يمكن أن تنطلق منه العمليات التخريبية في الداخل الإيراني، بالرغم من نفي باكو ذلك. جديرٌ بالذكر أن وزارة الخارجية الأَذْرِيَّة قد أصدرت بياناً، يوم الاثنين 4 أكتوبر، نفت فيه أي وجود لطرفٍ ثالثٍ بالقرب من الحدود مع إيران، وذلك ردًّا على الاتهامات الإيرانية الأخيرة.
3– إرسال تحذيراتٍ ضمنيةٍ إلى الجانب التركي: بالرغم من التعاون الإيراني التركي في بعض الملفات، فإن هناك تنافساً واضحاً بين الطرفَيْن على النفوذ في الكثير من المناطق. وفي ضوء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وسيطرة حركة طالبان على مقاليد السلطة، والحديث عن علاقاتٍ قويةٍ لطالبان مع كلٍّ من قطر وباكستان وتركيا؛ فإن إيران تخشى من تراجع نفوذها في آسيا الوسطى لصالح تركيا التي عززت بالفعل وجودَها في أذربيجان عن طريق إقامة القواعد العسكرية فيها، والتعاون والحضور العسكري الذي ساهم بوضوحٍ في انتصار باكو في الحرب الأخيرة في ناجورنو كارا باخ، بالإضافة إلى سعي تركيا إلى تطوير علاقاتها بجورجيا.
كل هذه التحركات التركية يبدو أنها باتت تزعج إيران، لا سيما مع اتهام العديد من الجهات الإيرانية لأنقرة بجلب العديد من العناصر المتطرفة الموالية لها من سوريا إلى أذربيجان، وهو ما تعتبره إيران تهديداً لأمنها المباشر. ومن ثم، نجد التصريحات الإيرانية عادةً ما تُركز على عدم السماح للإرهابيين بالتمركز في شمال إيران وجنوب القوقاز.
جديرٌ بالذكر أن بعض الأوساط الإيرانية عادةً ما تتهم القوميين الأتراك بتحريض السكان الأَذْرِيِّين في شمال إيران. ويُذكَر أن إيران قد اعترضت بشدةٍ على تصريحاتٍ أدلى بها الرئيس التركي نهاية العام الماضي خلال عرضٍ عسكريٍّ في العاصمة الأَذْرِيَّة باكو، وفُهم منها أنها تحاول إثارة النزعة القومية لدى الأَذْرِيِّين الإيرانيين، ومحاولة إحياء العثمانية مرة أخرى.
4– رسالة ردعٍ موجهة إلى كردستان العراق: لا تنفصل المناورات الإيرانية على الحدود مع أذربيجان عن التصعيد الإيراني المستمر في إقليم كردستان العراق؛ حيث تدَّعي طهران وجود مقراتٍ للإرهابيين في شمال العراق، وأن هناك تمركزاً أمنيّاً واستخباراتيّاً إسرائيليّاً في إقليم كردستان، وتعطي لنفسها الحق في شن ضرباتٍ صاروخيةٍ بين الحين والآخر على شمال العراق. وفي هذا الإطار، حذر قائد القوة الجوية في الحرس الثوري الإيراني، سلطات إقليم كردستان العراق، في نهاية سبتمبر الماضي، من أن “إيران لن تتحمل إنشاء مقراتٍ للإرهابيين بشمال العراق”. وأضاف المسؤول الإيراني: “يتعيَّنُ على السلطات العراقية وحكومة الإقليم أن تقوم بإخراج عناصر الجماعات الإرهابية من هذه المنطقة بأسرع وجهٍ، وإلا سوف نقدم على تدمير مراكزهم ومقراتهم”.
يأتي هذا فيما حذر وزير الاستخبارات الإيراني إسماعيل خطيب من أي تهديدٍ للأمن الإيراني مما وصفها بالجماعات الإرهابية والقواعد الأمريكية والإسرائيلية في إقليم كردستان العراق. ومن ثم، يمكن فهم المناورات الإيرانية الأخيرة بأنها رسالة ردعٍ إلى الجماعات الكردية المناوئة لطهران شمال العراق.
5– ترويجٌ للجاهزية والأسلحة الإيرانية الجديدة: تحاول إيران، من خلال المناورات الضخمة، إظهار الجاهزية القتالية، والتنسيق والتكامل بين الأسلحة المختلفة، خاصةً أن المناورات تشترك فيها القوات البرية والطائرات المسيرة ووحدات الحرب الإلكترونية، مع دعمٍ واضحٍ من المروحيات، كما تهدف المناورات إلى الترويج للسلاح الإيراني. وفي هذا الصدد، أشار قائد القوات البرية الإيرانية العميد كيومرث حيدري إلى أن المناورات سوف تشهد الكشف لأول مرةٍ عن أسلحةٍ مضادَّةٍ للدروع، وطائراتٍ مُسيَّرةٍ هجوميَّةٍ دقيقةٍ بعيدة المدى.
ختاماً، تتعدَّد الرسائل الإيرانية من وراء المناورات العسكرية الضخمة التي تجرى على الحدود مع أذربيجان، لا سيما أن البعض يرى أن هذه المنطقة لم تشهد مناوراتٍ إيرانيةً منذ ما يقرب من 30 عاماً، وهو ما دفع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف إلى التعبير عن مخاوفه من تلك المناورات وتوقيتها. يأتي هذا فيما أعلنت تركيا عن نيتها إجراءَ مناوراتٍ مشتركةٍ مع أذربيجان في الأيام القادمة بالقرب من الحدود مع إيران، وهو ما يعني أن تلك المنطقة مقبلةٌ على مزيدٍ من التوتر، لا سيما مع التصعيد الإيراني الإسرائيلي المستمر الذي كانت آخر فصوله إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت إحباط عمليةٍ إيرانيةٍ ضد أهدافٍ إسرائيليةٍ في قبرص.