أُجريت انتخابات البرلمان الاتحادي الألماني (البوندستاج)، في 26 سبتمبر 2021، على خلفية الإعلان المبكر للمستشارة “أنجيلا ميركل” عدم خوضها الانتخابات، وعدم سعيها للاستمرار في منصب المستشارة الذي شغلته دون انقطاع منذ عام 2005. ومن دون شك فإن رحيل “ميركل” التي استمرت في الحكم قرابة ستة عشر عاماً، سوف يترك فجوة كبيرة في برلين، وسيقع على عاتق خليفتها الكثير ليفعله، خاصة في ظل العديد من التحديات الداخلية والمعادلات الدولية المعقدة، حيث إن نفوذها لم يقتصر على الداخل الألماني فحسب؛ بل كانت زعيمة لا غنى عنها في القارة الأوروبية ككل، إلى الحد الذي جعل الكثير من المراقبين يلقبونها بـ”المرأة الحديدية”.
وأسفرت نتائج انتخابات البرلمان الاتحادي الألماني (البوندستاج) عن فوز الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بزعامة “أولاف شولتس”، بالأكثرية وذلك بحصوله على نسبة 25,7% من الأصوات، متقدّماً بفارق ضئيل على حزب المحافظين (حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي)، حزب “أنجيلا ميركل”، بزعامة خليفتها “أرمين لاشيت”، الذي حصل على 24,1% من الأصوات، وهي النتيجة الأسوأ في تاريخه. بينما حلّ حزب الخضر، بزعامة “أنالينا بربوك”، ثالثاً مع 14,8%. يليه الحزب الديمقراطي الحرّ بنسبة 11,5%. وحصل حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف على 10.3% من الأصوات، وهي نسبة أقل من التي حصل عليها (12.6%) في انتخابات 2017، حيث كان الحزب ثالث أكبر حزب في ألمانيا إبّان ذلك. وحصل حزب اليسار الراديكالي (دي لينكه) على حوالي 4.9% من الأصوات، بانخفاض كبير عن حصته البالغة 9% من الأصوات في انتخابات 2017.
ولكي نستكشف التأثيرات المحتملة لنتائج هذه الانتخابات على السياسة الخارجية الألمانية تجاه منطقة الشرق الأوسط، فإنه يتعين علينا أن نفهم النظام الانتخابي الألماني الذي يرتكز بالأساس على أنه نظام برلماني يتم فيه اختيار المستشار الألماني من الحزب الذي حصل على الأغلبية في الانتخابات، وفي حالة عدم حصول الحزب على الأغلبية فإنه يتعين عليه الدخول في تحالفات مع الأحزاب الأخرى لضمان تشكيل حكومة، وهو ما يعني الدخول في مفاوضات ومساومات بين الأحزاب المختلفة ذات التوجهات السياسية المتباينة، وتقديم تنازلات مؤلمة من كل طرف لضمان التوصل إلى الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة، وقد يستغرق ذلك الأمر وقتاً طويلاً لتشكيل تحالف. وتكفي الإشارة إلى أن هذا الوقت استمر في فترات سابقة لمدة ستة أشهر، مع التأكيد على أنه ليس بالضرورة أن يأتي المستشار الألماني من بين أعضاء الحزب الذي حصل على الأكثرية في الانتخابات، لأنه قد تنشأ تحالفات قد تجعل الحزب الذي لم يحصل على الأكثرية ولكنه استطاع التوصل إلى تحالف بينه وبين الأحزاب الأخرى هو الذي يمكنه تعيين المستشار من بين أعضائه.
ونستخلص من نتائج الانتخابات الألمانية أربعة مؤشرات كبرى سيكون لها دور محوري في تحديد ملامح السياسة الخارجية الألمانية تجاه قضايا الشرق الأوسط. يتمثل المؤشر الأول في أن نتائج الانتخابات أظهرت أن كلا المرشحين (أولاف شولتس، وأرمين لاشيت) ليست لديهما شخصية كاريزمية مقارنة بـ”أنجيلا ميركل”، وبالتالي فإنه بغض النظر عمّن سيكون المستشار التالي، فلن يتمكنا لا “شولتس” ولا “لاشيت” من تزويد الاتحاد الأوروبي بقيادة قوية كما كان الحال عليه مع “ميركل”، وبالتالي يمكن القول إن الحكومة الائتلافية التي سيتم تشكيلها ستكون غير قادرة على اتخاذ قرارات هامة، وهي حالة معروفة في النظم البرلمانية بـImmobilism.
بينما يتمثل المؤشر الثاني في أن الألمان لم يصوتوا في هذه الانتخابات لأشخاص بقدر ما صوتوا للأحزاب، ولهذا يمكن القول إن “شولتس” هو صاحب الحظ الأكبر في خلافة “ميركل” للمستشارية، لأن التصويت كان تصويتاً على أداء الأحزاب السياسية، وأظهرت استطلاعات الرأي الألمانية أن “لاشيت” ليس مرغوباً فيه لخلافة “ميركل”، وأن الشارع الألماني يرغب في أن يرى تغييراً في ألمانيا، و”شولتس” أكثر ميًلا للتحالف مع الأحزاب الصغيرة، ولهذا ربما تستغرق التحالفات التي قد تصل -في النهاية- إلى تشكيل حكومة وقتاً ليس بالقليل. ومع ذلك ففي حال تولي “شولتس” المستشارية، فإن ألمانيا تشهد تحولاً إلى أجندة محلية أكثر تركيزاً على العدالة الاجتماعية والمناخ، وسياسة خارجية تؤكد على التعدّدية وتقوية التحالف الأوروبي.
في حين يتمثل المؤشر الثالث في أن القضايا المحورية التي صوت الناخبون الألمان من أجلها في الانتخابات كانت قضايا داخلية بالأساس، تمثلت في: قضايا العدالة الاجتماعية، وحماية البيئة، والمناخ، فضلاً عن الاقتصاد والعمل. فعلى سبيل المثال، شكل الاقتصاد الأولوية بالنسبة لناخبي الاتحاد المسيحي، بينما مسألة البيئة والمناخ كانت أقل أهمية بالنسبة إليهم. أما الأغلبية الساحقة من ناخبي الخضر (أكثر من 80%) فكانت مسألة حماية البيئة والتغير المناخي الأكثر أهمية بالنسبة إليهم. أما ناخبو الحزب الاشتراكي الديمقراطي فقد صوتوا له بشكل أساسي، بسبب قضية العدالة الاجتماعية. بينما انصب اهتمام أنصار حزب “البديل من أجل ألمانيا” بشكل خاص على قضية الهجرة. ولهذا يمكن القول إنه في حالة تولي “شولتس” المستشارية فإنه سيعمل على إحداث قدر من التوازن في سياسة الباب المفتوح التي انتهجتها “ميركل” تجاه اللاجئين. ويميل الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى حماية حقوق الإنسان، وحماية حقوق المهاجرين، وحماية حقوق العمال. وتشير اتجاهات عديدة إلى أن حزب الخضر سوف يسعى، في حالة مشاركته في الائتلاف الحكومي القادم، إلى تبني سياسة أكثر تشدداً في العلاقات مع الصين وروسيا ودول الشرق الأوسط، لا سيما فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان.
أما المؤشر الرابع فيتمثل في أن السياسة الخارجية الألمانية تجاه الشرق الأوسط لن تشهد تحولاً جذرياً بقدر ما ستشهد مزيداً من التركيز على قضايا حقوق الإنسان والبيئة في العالم العربي، فقد بدأت سياسة ألمانيا الخارجية في التحرك بفاعلية ونشاط أكثر منذ عام 2014، بعد أن توسعت أهدافها ضمن رؤية ما يُسمى “إجماع ميونيخ”، الذي يهدف إلى أن تتحمل برلين مسؤولية أكبر ودوراً أكثر نشاطاً في السياسة الدولية، وذلك بعد أن تأثرت ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى بشكل غير مباشر بسبب غياب الأمن والاستقرار عند بوابة الاتحاد الأوروبي، وانسحاب الولايات المتحدة التدريجي من قضايا الشرق الأوسط.
ويمكن القول إنه بغض النظر عمن سيكون المستشار الألماني القادم فإنه سيكون عليه التعامل بنشاط كبير تجاه قضايا الشرق الأوسط، لأنها قضايا تسبب عدم استقرار وتهديداً مباشراً للأمن الألماني والأوروبي، مثل: قضايا الهجرة واللاجئين، وقضايا حقوق الإنسان. وسترتكز أولويات المستشار الألماني القادم في الشرق الأوسط على منع انتشار الأسلحة النووية في المنطقة، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستقرار لمنع تدفق المزيد من اللاجئين، بالإضافة إلى محاربة الإرهاب واحترام حقوق الإنسان.
وفي النهاية، تتمثل النتيجة الحتمية لنتائج هذه الانتخابات المتقاربة بين الحزبين الكبيرين (يمين الوسط، ويسار الوسط) في أن الأحزاب الصغيرة سيكون لها دور حاسم في تحديد اسم المستشار الألماني القادم وأولويات سياسته الداخلية والخارجية والتي لن تمثل تحولاً جذرياً في السياسة الألمانية عن إرث المرأة الحديدية.