تلعب البنوك المركزية دوراً حاسماً في ضمان الاستقرار الاقتصادي والمالي، ويصبح ذلك الدور محل متابعة المتخصصين والعامة على السواء في أوقات الأزمات الاقتصادية أو السياسية. ولعل الهدف الرئيسي من السياسات النقدية التي تتبناها البنوك المركزية في تلك الأوقات، هو تعزيز الاستقرار النقدي؛ لذا يكون جُل تركيز البنوك المركزية منصبّاً على انتهاج سياسات نقدية تستهدف من خلالها التعامل مع المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي، وضبط معدل التضخم عند مستوى منخفض ومستقر.
أدوات رئيسية
تختلف السياسات النقدية للبنوك المركزية حول العالم باختلاف طبيعة الأزمة الاقتصادية التي تكون بصددها، وإذا ما كانت الأزمة محلية لظروف داخلية، أم أزمة عالمية يمتد تأثيرها إلى غالبية دول العالم، وكذلك باختلاف طبيعة اقتصاد الدولة ومدى قدرتها على تحمل الصدمات، لكن إجمالاً ثمة سياسات نقدية رئيسية تلجأ إليها البنوك المركزية في أوقات الأزمات، تستهدف من خلالها تحقيق الاستقرار المالي والنقدي، وهو ما نتناوله فيما يأتي:
1– تحقيق استقرار الأسعار ومواجهة التضخم: تعرضت أطر السياسات التي تعمل من خلالها البنوك المركزية حول العالم لتغييرات كبيرة خلال العقود الأخيرة الماضية؛ فمنذ أواخر الثمانينيات، برز استهداف التضخم كإطار رائد للسياسة النقدية، حين أدخلت البنوك المركزية في كندا ومنطقة اليورو والمملكة المتحدة ونيوزيلندا وأماكن أخرى، التضخم هدفاً واضحاً ضمن أجنداتها. ومنذ ذلك الحين، بات الدور الرئيسي للبنوك المركزية يتمثل في تحقيق الاستقرار في الأسعار، والوصول إلى معدل تضخم منخفض ومستقر، بما يساعد – بالتبعية – في إدارة التقلبات الاقتصادية التي تتعرض لها الدولة.
2– بيع سندات حكومية لتقليل السيولة: تلجأ البنوك المركزية أحياناً إلى تعديل عرض النقود؛ أي ضبط القيمة الإجمالية للأموال المتاحة في الاقتصاد في وقت معين؛ وذلك عبر عمليات السوق المفتوحة؛ فقد يرغب البنك المركزي في تقليل المعروض النقدي لديه من أجل كبح جماح التضخم المفرط؛ لذا يتجه إلى بيع سندات حكومية بموجب اتفاقية “بيع وإعادة شراء” بهدف تقليل السيولة. ولعل الغرض من عمليات السوق المفتوحة هذه، هو توجيه أسعار الفائدة القصيرة الأجل، التي تؤثر بدورها على الأسعار الطويلة الأجل والنشاط الاقتصادي العام.
3– شراء السندات الطويلة الأجل لخفض أسعار الفائدة: عقب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، خففت البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة سياستها النقدية عن طريق خفض أسعار الفائدة حتى اقتربت أسعار الفائدة القصيرة الأجل من الصفر. ومع ارتفاع خطر الانكماش، اتبعت البنوك المركزية سياسات نقدية غير تقليدية، بما في ذلك شراء السندات الطويلة الأجل، خاصةً في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومنطقة اليورو واليابان، بغية خفض أسعار الفائدة على المدى الطويل، وتخفيف السيولة النقدية، حتى إن بعض البنوك المركزية خفضت أسعار الفائدة القصيرة الأجل إلى ما دون الصفر.
4– تيسير السياسة النقدية وزيادة المعروض: عقب تفشي جائحة كورونا، جنحت البنوك المركزية إلى تبني سياسة “التيسير الكمي”، التي رمت من خلالها إلى زيادة المعروض النقدي من أجل تحفيز الاقتصاد، والتخفيف من تبعات الجائحة اجتماعياً واقتصادياً؛ وذلك عبر تبني مجموعة من الأدوات التقليدية وغير التقليدية لتيسير السياسة النقدية ودعم السيولة في الأسواق المالية الرئيسية، والحفاظ على تدفق الائتمان، ومنها اللجوء إلى خفض أسعار الفائدة.
5– تشديد السياسة النقدية وتقليل المعروض: على النقيض من آلية تيسير السياسة النقدية، قد تتبنى البنوك المركزية – في أوقات الأزمات الاقتصادية التي ترتفع فيها معدلات التضخم إلى مستويات قياسية – سياسة “التشديد الكمي”، وهي سياسة انكماشية يتم تطبيقها بغرض تخفيض مقدار السيولة داخل الاقتصاد ورفع تكاليف الإقراض؛ وذلك عبر عدد من الأدوات، أبرزها رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة أو الذهاب إلى تقليص الموازنة العامة.
وقد ظهر تطبيق تلك السياسة بصورة جلية عقب الحرب الروسية على أوكرانيا؛ إذ سرعان ما رفعت البنوك المركزية حول العالم أسعار الفائدة خلال الشهور الثلاثة الماضية؛ إذ أعلن صانعو السياسات في جميع أنحاء العالم عن أكثر من 60% زيادةً في أسعار الفائدة الرئيسية، وهو أكبر رقم منذ بداية عام 2000 تقريبًا. ووفق تقديرات “بلومبرج إيكونوميكس”، فإنه في يوم الاثنين الثاني من مايو الماضي، أعلنت البنوك المركزية لمجموعة الدول السبع عن تقليص ميزانياتها بنحو 410 مليارات دولار للفترة المتبقية من عام 2022؛ وذلك في إطار تشديد السياسة النقدية.
6– التدخل بالعملات الأجنبية وضبط تداول العملة الوطنية: يُعرَف التدخل بالعملات الأجنبية بأنه أداة من أهم أدوات السياسة النقدية التي تستخدمها البنوك المركزية بهدف المشاركة بفاعلية في التأثير على معدل تداول العملة الوطنية، وهو إجراء غالباً ما تلجأ إليه البنوك المركزية في الدول النامية، عبر التدخل في سوق صرف العملات الأجنبية؛ من أجل زيادة حجم احتياطي البنك المركزي من العملة الأجنبية، وزيادة استقرار سعر صرف العملة المحلية.
سياسات متقاربة
كان للتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا تبعاته الاقتصادية على العالم أجمع، وهو ما دفع البنوك إلى انتهاج سياسات نقدية متقاربة، تدور في معظمها حول سياسات التشديد الكمي، من أجل احتواء التضخم المتفشي والارتفاع الجامح في أسعار السلع. وفيما يأتي نسلط الضوء على طرق تعامل البنوك المركزية المختلفة مع التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية:
1– رفع البنوك المركزية الأوروبية أسعار الفائدة: أدى قرب أوروبا من الحرب في أوكرانيا والاعتماد المفرط على واردات الطاقة الروسية، بجانب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة وصدمات الإمدادات العالمية كذلك من جراء عمليات الإغلاق الصينية، إلى تسجيل التضخم أعلى مستوى قياسي له للمرة السادسة على التوالي في شهر أبريل الماضي، في منطقة اليورو المكونة من 19دولة؛ وذلك بنسبة 7.5%.
دفع هذا الأمر البنك المركزي الأوروبي إلى الشروع في رفع أسعار الفائدة، حتى في أوائل شهر مايو، قام البنك الاحتياطي الفيدرالي برفع سعر سياسته المعيارية بمقدار 50 نقطة أساس إلى نطاق يبدأ من 0.75% إلى 1%. ويبدو أن البنك المركزي الأوروبي مستعد لرفع تكاليف الاقتراض للمرة الأولى منذ 2011 في يوليو القادم، كما من المتوقع أن ترفع البنوك المركزية الكندية والأسترالية والبولندية والهندية أسعار الفائدة خلال الأسابيع المقبلة.
2– تبني البنك المركزي الأمريكي سياسة التشديد الكمي: انتهج الاحتياطي الفيدرالي منذ بداية الحرب الروسية، دورة تشديد كمي هي الأكثر حدة منذ عام 1994 من حيث الحجم والسرعة. ويعد رفع أسعار الفائدة أحدث الجهود الأمريكية لاحتواء تكاليف المعيشة المرتفعة وتضخم الأسعار الآخذ في الصعود؛ فقد أعلن البنك المركزي الأمريكي يوم الأربعاء الرابع من مايو الماضي، عن أكبر زيادة في أسعار الفائدة منذ أكثر من عقدين، في إطار معركته الحالية لكبح جماح التضخم؛ وذلك بمقدار نصف نقطة مئوية، إلى نطاق من 0.75% إلى 1% بعد زيادة طفيفة في سعر الفائدة في مارس الماضي.
3– سياسات متنوعة للبنوك المركزية في شرق آسيا: رغم انخفاض حدة التضخم في شرق آسيا عن المستويات العالمية، فإن البنك المركزي في كوريا الجنوبية، رفع سعر الفائدة الرئيسي في يوم الخميس الماضي الموافق 26 مايو، للشهر الثاني على التوالي، بمقدار 25 نقطة أساس، من 1.50% إلى 1.75%. كذلك لجأ بنك نيجارا المركزي في ماليزيا إلى رفع سعر فائدته الرئيسي إلى 25 نقطة أساس في شهر مايو الماضي. على الجانب الآخر، مثَّلت الصين أحد الاقتصادات الرئيسية التي خالفت ذلك الاتجاه؛ حيث دفعت الأضرار الاقتصادية المتزايدة نتيجة قيود الإغلاق – في ظل تفشِّي متحورات كورونا والمشاكل في قطاع العقارات – المسؤولين إلى خفض معدل القرض الأساسي لمدة عام بمقدار 10 نقاط أساس من 3.8% إلى 3.7%، كما خفض المقرضون من القطاع الخاص معدلات الرهن العقاري. فيما حافظ بنك اليابان على تعهُّده بالحفاظ على العوائد عند الصفر، مع الاستعداد للجوء إلى توسيع ميزانيته العمومية إذا لزم الأمر.
4– الاستجابة السريعة من البنوك المركزية في دول الخليج: في ظل توجه البنوك المركزية حول العالم لرفع أسعار الفائدة، وبالأخص الفيدرالي الأمريكي؛ انتهجت البنوك المركزية الخليجية السياسة ذاتها، خاصة مع ارتباط عملات دول الخليج جميعها – باستثناء الكويت – بالدولار الأمريكي. ومن ثم رفع البنك المركزي الإماراتي السعر الأساسي المطبق على تسهيل الإيداع الليلي بمقدار 50 نقطة أساس، اعتبارًا من الخميس الموافق 5 مايو 2022، كما رفعت البنوك المركزية في السعودية وقطر والبحرين هي الأخرى أسعار الفائدة الرئيسية بمقدار 50 نقطة أساس، فيما رفع البنك المركزي الكويتي سعر الخصم بمقدار 25 نقطة أساس إلى 2 %، في إطار انتهاجه خطوةً أقل تشددًا من الاحتياطي الفيدرالي.
محددات الفاعلية
إجمالاً.. في ظل الظروف المالية العالمية الأصعب منذ 13 عاماً، والتقلُّب الضمني في سندات الخزانة الأمريكية، وارتفاع سعر الدولار الذي ساهم في زيادة التقلبات في أسواق المال؛ لجأت البنوك المركزية حول العالم إلى تبني سياسات تشديد كمي بهدف تقليل السيولة وخفض التضخم المتفشي، وهو ما بات يمثل شبه إجماع من جانب البنوك المركزية حول العالم على سياسات نقدية انكماشية منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008–2009؛ الأمر الذي قد يكون مؤشراً على وقوع أزمة عالمية جديدة في ظل موجات التوتر والتقلب الشديد في الأسعار. وبالرغم من تشابه السياسات التي تتبناها البنوك المركزية المختلفة، فإن درجة نجاح وفاعلية هذه السياسات، يظل مرتبطاً بعدد من المحددات الرئيسية، أهمها الطبيعة اقتصاد الدولة، ومدى تقدمه، وكذلك هيكلية هذا الاقتصاد، ودرجة ارتباطه بالاقتصاد العالمي ومن ثم تأثره به.