ملاحظة: تم حجب الاسم الكامل للباحث، وصفته الوظيفية حفاظاً على سلامته في ظل اضطراب الأوضاع داخل أفغانستان.
لم يكن التمدد السريع لحركة طالبان على امتداد أفغانستان، وصولاً إلى السيطرة على العاصمة؛ مفاجئاً للمواطنين الأفغان؛ إذ إن تصدع بنية الدولة، وانهيار مؤسساتها الأمنية في عهد الرئيس السابق أشرف غني كان واضحاً للجميع بحيث أضحى اجتياح طالبان للولايات الأفغانية أمراً بديهياً، وسقوط العاصمة في قبضتهم مسألة وقت. ويضاف إلى ما سبق عدة عوامل؛ أهمها فساد الحكومة الأفغانية، واكتساب طالبان شرعية الوجود بعد مفاوضات الدوحة في قطر، وافتقاد الجيش الأفغاني القدرات القتالية والاستقلالية.
تفسيرات الانهيار السريع:
ظلت حركة طالبان المتمردة تقاتل قرابة عقدين من الزمن، بعد أن أطاحت قوات التحالف الدولي التي قادتها الولايات المتحدة بنظامها الذي كان يتولى الحكم في أفغانستان، إلا أنها في فترة قياسية، قد تمكنت من اجتياح أقاليم أفغانستان وبسط سيطرتها على المعابر والنقاط الحدودية، ثم السيطرة السريعة على كابول دون مقاومة. ويرى المواطنون الأفغانيون أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية لتفسير الاجتياح السريع للدولة الأفغانية؛ وهي كالتالي:
1– شرعنة اتفاق الدوحة لحركة طالبان: إن السبب الأول لصعود طالبان هو اتفاق الدوحة الشامل بين الحركة والولايات المتحدة الذي تمت صياغته في قطر، والذي كان له أهمية كبرى لطالبان؛ إذ منحها الشرعية السياسية، وسمح لها ببناء علاقات ثنائية مع العديد من الدول، بما فيها الولايات المتحدة. وفي حين أعطى هذا الاتفاق طالبان لمحةً عن النصر الذي كانت تكافح لتحقيقه منذ عقديْن؛ شكّل في نظر الأفغان خيانةً من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والمجتمع الدولي. وعندما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في أبريل 2021 عن بدء الجيش الأمريكي الانسحاب من أفغانستان في الأول من مايو 2021 واكتمال هذا الانسحاب بحلول الذكرى العشرين لهجمات 11 سبتمبر؛ بذلت طالبان قصارى جهدها لتحقيق المكاسب بسرعة. ومع أن طالبان وافقت في البداية على عدم شن هجمات انتحارية في المدن الكبرى أو على الطرق السريعة تماشيًا مع اتفاق الدوحة، قررت بعد ذلك اجتياح معظم أنحاء أفغانستان.
2– تفاقم فساد الحكومة الأفغانية: يتمثل السبب الثاني هو الفساد والحكومة غير الخاضعة للمساءلة؛ فقد استشرت مشكلة الفساد المستعصية في كافة أقسام الدولة الأفغانية وأثرت سلبًا على قدرة أفغانستان على حفظ الأمن لمواطنيها، وتقديم الخدمات العامة الأساسية. فضلاً عن ذلك، أدركت الحكومة الأفغانية أن المجتمع الدولي تخلى عنها، وأن أفغانستان لم تعد أولويةً بالنسبة إليه. ولطالما كانت الحكومة الأفغانية ضعيفة وفاسدة جدًّا وتعتمد على المساعدات الخارجية من أجل البقاء، ويمزقها الاقتتال الداخلي بين الفصائل ويعرقلها أمراء الحرب.
3– ضعف وتفكك الجيش الأفغاني: يتمثل السبب الثالث لانهيار النظام بأكمله بهذه السرعة في القوات المسلحة الأفغانية وقوات الأمن التي تفتقر إلى القدرات الكافية والاستقلالية، على الرغم من إنفاق الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) مليارات الدولارات على مدى السنوات العشرين الماضية لتدريب قوات الأمن الأفغانية وتجهيزها. مع ذلك، تجد حركة طالبان نفسها في أقوى حالاتها منذ عام 2001.
استراتيجية “من الخارج إلى الداخل”:
بدأت طالبان في التوسع تدريجياً، وفي إطار اتفاقات الدوحة، وبالتفاهم مع الحكومة الأفغانية ووراءها الولايات المتحدة؛ حيث قيل في البداية إن “الحكومة وطالبان قد اتفقتا على تقاسم السيطرة على عدد من المناطق في أفغانستان”. ثم شاركتا في مفاوضات السلام في الدوحة، “لكن ما حدث في الواقع هو عكس الاتفاق تمامًا؛ حيث كانت طالبان واثقة بقدرتها على تحقيق نصر عسكري”.
عندئذٍ بدأ عناصر طالبان يستهدفون الصحفيين والناشطين في مجال حقوق الإنسان، وعززوا بيئة الخوف والترهيب في المجتمع، كما نظموا الحملات الدعائية وشنوا حربًا نفسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، “وتم تحذير الجنود والمسؤولين المحليين عبر رسائل نصية في بعض الولايات؛ حيث طُلب منهم تسليم أنفسهم أو التعاون مع طالبان للبقاء على قيد الحياة. حتى إنه عُرض على العديد من موظفي وقيادات السلطات المحلية حياة آمنة إذا ألقت أسلحتها”. وأتت المحصلة في نهاية المطاف رئيساً فاراً وحكومة فاسدة وجيشاً ضعيفاً واتكالياً مع قادة تم شراؤهم ففروا من مراكزهم مقابل مبلغ من المال، علاوة على استراتيجية طالبان التي تسمى “من الخارج إلى الداخل”. وهذه هي الأسباب التي أدت إلى انهيار الحكومة السريع. وفيما بدأت طالبان تهاجم المدن الكبرى، سحبت الحكومة قواتها بدون إطلاق رصاصة واحدة ضد مسلحي طالبان.
وقد زعمت بعض التقارير وجود “صفقة سرية بين السلطات الأفغانية وحركة طالبان لتسليم كافة مناطق أفغانستان مقابل وقف إطلاق النار لمدة ستة أشهر”. ولكن يبدو أن طالبان لم تكتفِ بهذا القدر، فاستولت على الولايات الأفغانية. وفي غضون أسبوع، تمكَّن مقاتلو طالبان من اجتياح أكثر من عشرةٍ من عواصم الولايات بدون أي مقاومة، وانهارت كابول في غضون ساعة بعد فرار الرئيس غني.
سيناريوهات متناقضة للمستقبل:
ينتشر الخوف وخيبة الأمل لدى قطاعات واسعة من الأفغان مع عودة طالبان إلى الحكم. وقد صدم وصول المسلحين إلى كابول الكثير من المراقبين في العالم، وبخاصة الأفغان الذين عملوا مع الوكالات أو القوات المسلحة الغربية، وحاولوا الإسراع إلى مطار كابول الدولي في محاولة للفرار من البلاد. وحين سيطر المسلحون على الشوارع، سرَّعت السلطات الغربية بشكل كبير جهودها لإجلاء دبلوماسييها من سفاراتها في كابول، وعمَّت الفوضى شوارع العاصمة في ظل انتشار حشود الأفغان الخائفين على حياتهم. بدأنا نراهم يفرضون نسختهم من الشريعة الإسلامية ويطبِّقون قوانينهم وأنظمتهم الخاصة في محاولة للسيطرة على الوضع؛ وبدأت تتكشف معالم الاستيلاء العسكري على العاصمة الأفغانية مع بحث المسلحين المدججين بالسلاح عن أسلحة الحكومة ومركباتها شارعًا بعد شارع، وقد سيطروا أيضًا على تلفزيون أفغانستان الوطني، وخاطبوا عبره المجتمع الدولي، طالبين دعم حكمهم وبناء علاقات ثنائية معها من دولة إلى دولة. ولكن يبقى السؤال الرئيسي: ما الذي ينتظر أفغانستان؟ أو ما السيناريوهات التي يمكن أن تحدث في مستقبل البلاد؟
1– سيناريو إعلان إمارة طالبان: تعلن حركة طالبان عن قيام إمارتها الإسلامية وتفرض أحكام الشريعة الإسلامية وتغير دستور البلاد ومؤسسات الحكومة السابقة. ومن المرجح أيضًا أن تقيد الكثير من الحريات وحقوق الإنسان والتحديثات التي شهدتها البلاد منذ عام 2001. في غضون ذلك، سيستحوذ البشتون على الحيز الأكبر من السلطة السياسية، وهذا سيقلب الموازين السياسية والقانونية لصالح إسلاموية طالبان إزاء أي أقليات في المجتمع.
2– سيناريو تفجر الحرب الأهلية: يتمثل السيناريو الثاني في نشوب الحرب الأهلية. ويبقى احتمال تفجر الصراع واردًا، لا سيما أن التحالف الشمالي السابق يستعد للمقاومة في ولاية بنجشير الواقعة تحت سيطرة النائب الأول السابق لرئيس البلاد عمر الله صالح، ووزير الدفاع السابق اللواء بسم الله محمدي.
3– سيناريو التفاوض على الحكم الانتقالي: يتمثل هذا السيناريو في تقدم مفاوضات الدوحة في قطر بينما يشكل قادة طالبان حكومةً ائتلافية مع القادة السياسيين الأفغان. وقد يجبر المجتمع الدولي قادة طالبان على الدعوة إلى انتخابات حرة وإعادة السلام والاستقرار إلى أفغانستان. وقد تسعى طالبان إلى اتباع هذا السيناريو والانصياع لمشروطيات المجتمع الدولي حرصاً على إعادة دمجها في المجتمع الدولي والاعتراف بحكمها لأفغانستان، واستقطابًا للمساعدات الدولية والاستثمارات.
وفي المحصلة النهائية، يبقى الوضع في أفغانستان مفتوحاً على احتمالات متعددة بسبب غموض وضبابية الأوضاع الراهنة والتطورات السريعة للمشهد في كابول وفي الأقاليم الأفغانية، بالإضافة إلى مدى احتمالات تقدم المفاوضات بين طالبان وبعض القوى الأفغانية على ترتيبات الحكم الانتقالي ومدى استعداد الحركة لتقديم تنازلات وعدم التمسك بالهيمنة على السلطة.