فراغ محتمل:

من يقود الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد "ميركل"؟
فراغ محتمل:
29 سبتمبر، 2021

يأتي غياب المستشارة الألمانية “إنجيلا ميركل” بالتزامن مع لحظة أوروبية فارقة، تتضمن العديد من التحديات؛ أبرزها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وشكاوى العديد من المسؤولين الأوروبيين من عدم تشاور إدارة “بايدن” معهم، بجانب الشراكة الأمنية الجديدة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا في صفقة “أوكوس”، وإلغاء عقد غواصات مبرم بين باريس وكانبرا، وهما الأمران اللذان صبَّا “الزيت على النار” بين باريس وواشنطن، واستمرار المشاكل بين بروكسل ولندن فيما يتعلق بترتيب أوضاع ما بعد بريكست، بجانب سعي أوروبا إلى مراجعة العلاقات الاقتصادية بالصين.

ويمثل غياب أنجيلا ميركل، بثقلها المعروف، تحدياً كبيراً للاتحاد الأوروبي، بالنظر إلى حجم التحديات السابقة وغيرها لتثير الكثير من التساؤلات حول من يستطيع قيادة دفة الاتحاد الأوروبي في الفترة القادمة، في ظل انشغال محتمل للقيادات الألمانية الجديدة بالداخل، وتشكيك الكثيرين في قدرة “ماكرون” على ملء الفراغ الذي ستتركه “ميركل”، ووجود الكثير من التحديات أمام رئيس الوزراء الإيطالي “ماريو دراجي” الذي قد يعتبره البعض الخليفة المنتظر لميركل في هذا الدور.

لحظة فارقة

1– صدمة الانسحاب من أفغانستان: يأتي غياب “ميركل” بالتزامن مع لحظة أوروبية فارقة، لا سيما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وشكاوى العديد من المسؤولين الأوروبيين من عدم تشاور إدارة “بايدن” معهم، وتجاهل الولايات المتحدة لمطالبهم الخاصة بالانسحاب “على أساس شروط معينة”، وانتشار التوجهات الأوروبية التي باتت ترى أن السياسة الخارجية الأمريكية أصبحت أكثر اهتماماً بالتنافس مع الصين من أولويات الأمن الأوروبي كقضية ملحة، وهو الأمر الذي أثار قلقاً متجدداً حول المدى الذي يمكن فيه لأوروبا أن تعتمد على الولايات المتحدة.

وفي هذا الإطار، يشير “تيري بريتون” مفوض السوق الداخلية بالاتحاد الأوروبي، إلى أن الاتحاد الأوروبي “تعلم بالطريقة الصعبة” من الأزمة الأفغانية ضرورة العمل على بناء قدراته الدفاعية، مضيفاً أن التحالف الدفاعي الأوروبي لم يعد اختياراً، وأنه يجب على الاتحاد الأوروبي تشغيل المهام العسكرية في “استقلالية تامة”.

2– غضب أوروبي من صفقة “أوكوس”: بالإضافة إلى قضية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وما أدى إليه من تجديد النقاش في الداخل الأوروبي حول المدى الذي يمكن فيه لأوروبا أن تعتمد على واشنطن؛ أتت الشراكة الأمنية الجديدة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا (صفقة “أوكوس”) وإلغاء عقد غواصات مبرم بين باريس وكانبرا، ليصبَّا “الزيت على النار”، سواء في باريس أو في أوروبا عامةً.

وفي هذا الصدد، وصفت صحيفة “دير تاجشبيجل” الألمانية، صفقة “أوكوس” بأنها “درس قاسٍ في الجغرافيا السياسية”؛ الأمر الذي دفع البعض إلى القول بأن إعلان الرئيس بايدن عن هذه الشراكة لا يمكن تفسيره إلا بأنه إذلال متعمد لفرنسا ودول الاتحاد الأوروبي. وقد أدت هذه “الصفقة” إلى إعطاء المزيد من الزخم لدعوات تحقيق “الاستقلال الاستراتيجي” في إدارة العلاقات مع واشنطن، وشكلت دعماً إضافياً للداعين إلى بناء تحالف دفاعي لا يعتمد على الولايات المتحدة، بيد أن الأمر لا يزال يواجه الكثير من العقبات، لا سيما مع ميل الكثير من دول أوروبا الشرقية إلى الدفاع بشدة عن حلف الناتو والتحالف العسكري مع الولايات المتحدة، حتى مع تنامي القدرات المشتركة للاتحاد الأوروبي.

3– استمرار مشاكل ما بعد بريكست مع لندن: يأتي غياب “ميركل” عن المشهد بالتزامن مع استمرار المشاكل بين بروكسل ولندن فيما يتعلق بترتيب أوضاع ما بعد بريكست، لا سيما بعد إصدار لندن تحذيراً إلى الاتحاد الأوربي بأنها قد تعلق “بروتوكول أيرلندا الشمالية” من جانب واحد إذا لم يتم أخذ مقترحاتها بإعادة التفاوض حول جزء من البرتوكول بجدية.

وفي خطوة عملية، أعلنت بريطانيا، في 7 سبتمبر 2021، أنها سترجئ موعد تطبيق الإجراءات الرقابية على البضائع المتجهة إلى أيرلندا الشمالية، في مسعى إلى الضغط على بروكسل لإعادة التفاوض على “بروتوكول أيرلندا الشمالية”، وهو الأمر الذي يرفضه الاتحاد الأوروبي؛ حيث أشار “ماروس سيفكوفيتش” نائب رئيس المفوضية الأوروبية وكبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي بشأن “بريكست”؛ إلى أن إلغاء “بروتكول أيرلندا الشمالية” لن يحل أي قضايا؛ حيث يعتبر “أفضل حل تم التوصل إليه لمعالجة الوضع الفريد للجزيرة الأيرلندية”.

4– تحدي العلاقات الأوروبية الصينية: بالرغم من قلة الاستثمارات الصينية الإجمالية في الاتحاد الأوروبي مقارنةً بالاستثمارات الأمريكية على سبيل المثال، والدور الكبير الذي تقوم به الشركات الأوروبية في الصين؛ فإن الفترة الماضية شهدت سعياً أوروبيّاً إلى مراجعة العلاقات الاقتصادية مع الصين، وربما يكون للضغوط الأمريكية دور في ذلك، مع التعويل الأوروبي على المزيد من التقارب مع إدارة بايدن.

لكن يبدو أن هناك أسباباً أوروبية داخلية لهذا الأمر، ترجع في الأساس إلى الخشية الأوروبية من صعود الاقتصاد الصيني، وتأثيرات ذلك على الاقتصادات الأوروبية، بالإضافة إلى تزايد الانتقادات الأوروبية المستمرة للصين على خلفية قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرهما. وقد تصاعد الخلاف بين الطرفين في الشهور الأخيرة بعد رفض الاتحاد الأوروبي التصديق على اتفاقية الاستثمار مع الصين، التي تم التوصل إليها العام الماضي بعد سبع سنوات من المفاوضات بين الطرفين، وسط انتقادات أوروبية لاستمرار العقوبات الصينية ضد بعض الأعضاء في البرلمان الأوروبي. وتشير بعض المصادر إلى أن الفترة القادمة قد تشهد عودة المفاوضات بين الطرفين حول اتفاق الاستثمار، في ظل حرص أوروبي على عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع الصين بسبب تحالفها مع الولايات المتحدة، لا سيما مع الإحباط الأوروبي المتزايد من سياسات “بايدن” الأخيرة.

عراقيل مختلفة

يمثل غياب أنجيلا ميركل، بثقلها المعروف، تحدياً كبيراً للاتحاد الأوروبي بالنظر إلى حجم التحديات السابقة وغيرها، التي تتطلب اتخاذ قرارات مفصلية، وهو ما يضع الكثير من التساؤلات حول من يستطيع قيادة دفة الاتحاد الأوروبي في الفترة القادمة.

1– انشغال القيادات الألمانية الجديدة بالداخل: بالنظر إلى النفوذ الأوروبي الكبير لألمانيا في عهد ميركل، يرى بعض المراقبين أن هذا النفوذ سوف يتراجع في الفترة القادمة، وأن “العصر الذهبي” لألمانيا قد انتهى. ويستند هؤلاء إلى مؤشرات منها أن استطلاعات الرأي الأخيرة التي أجراها المجلس الأوروبي للعلاقات، التي نُشرت مؤخراً؛ أظهرت تشاؤماً بشأن مستقبل ألمانيا ما بعد ميركل؛ حيث رأى 52% من الألمان أن بلادهم تجاوزت “عصرها الذهبي”، في حين رأى 9% فقط من المستطلعة آراؤهم أن العصر الذهبي لم يأت بعد، في حين أشار 15% منهم إلى أن ألمانيا لا تزال تعيش عصرها الذهبي.

إضافة إلى ذلك، فإن القيادات الجديدة في ألمانيا ما بعد ميركل، يبدو أنها ستكون أكثر انشغالاً بالداخل، لا سيما مع تحديات الرقمنة والتحول نحو مصادر الطاقة النظيفة، ومعالجة التحدي الديموغرافي المتزايد، والعمل على إجراء إصلاحات داخلية بعيدة المدى بالإضافة إلى البحث عن حلول لمشاكل نظام التقاعد والهجرة.  كما أن النتائج الأولية للانتخابات الأخيرة أفرزت مشهداً سياسيّاً يبدو غامضاً؛ حيث يُرجح أن ألمانيا مقبلة على تشكيل ائتلاف حكومي من ثلاثة أحزاب لا من حزبين كما كان من عقود؛ الأمر الذي قد يفضي إلى حكومة غير متماسكة أيديولوجيّاً، ويجعل المستشار القادم أكثر انشغالاً بالحفاظ على الائتلاف الحكومي، وهو ما يشكل عبئاً إضافيّاً عليه.

2– شكوك حول قدرة “ماكرون” على قيادة أوروبا: يبدو لأول وهلة أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هو المرشح بقوة لخلافة “ميركل” في قياد الاتحاد الأوروبي، حيث تعتبر فرنسا الأقوى عسكرياً في أوروبا، كما تمتلك الترسانة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى حديث “ماكرون” المتكرر عن “السيادة الأوروبية”، وضرورة تطوير القدرات الاستراتيجية لأوروبا بما يساهم في تحقيق ما يُصطلح على تسميته بـ “الاستقلال الاستراتيجي” عن الولايات المتحدة.

بيد أن هناك تحمساً محدوداً في أوروبا لإسناد هذا الدور إلى “ماكرون”، في ظل شكوك حول قدرة “ماكرون” على ملء الفراغ الذي ستتركه “ميركل”، ويبدو ذلك جلياً في استطلاع الرأي الأخير الذي أجراه المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية؛ حيث أظهر أن 14% فقط من الأوروبيين يثقون في قيادة ماكرون لأوروبا، وتظهر ضآلة هذه النسبة إذا علمنا أن ميركل حصلت على ثقة 41% من الأوروبيين في نفس الاستطلاع.

ويبدو أن هذا التشكك في “ماكرون” يعود في الأساس إلى الإخفاقات السياسية خلال الفترة الأخيرة في العديد من الملفات؛ لعل آخرها صفقة “أوكوس”، وما اعتبره الكثيرون تعمداً من جانب الولايات المتحدة “لإهانة” باريس من خلال الشراكة الأمنية الجديدة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، وإلغاء كانبرا عقد الغواصات المبرم مع باريس.

3– عقبات مختلفة تواجه طموحات “ماريو دراجي”: في ظل حالة التشكك في قيادة “ماكرون” لأوروبا، يرى البعض أن رئيس الوزراء الإيطالي “ماريو دراجي” قد يكون الخليفة المنتظر لميركل في هذا الدور؛ حيث يُطلق عليه البعض لقب “منقذ اليورو”، بالنظر إلى السياسات المصرفية والنقدية الناجحة التي اتبعها عام 2012، حينما كان رئيساً للبنك المركزي الأوروبي إبَّان أزمة الديون، بالإضافة على سعيه إلى تحقيق التكامل الأوروبي، كما يحاول “دراجي” بوضوح منذ تولي منصبه، تعزيز الدور الإيطالي في الاتحاد الأوروبي، وزيادة التماسك عبر ضفتي الأطلسي.

لكن هناك العديد من العقبات التي تواجه “دراجي” والتي تتجلى بدرجة أساسية في المشاكل والأعباء الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها إيطاليا، لا سيما ما يعتلق بأزمة الديون، وهو الأمر الذي قد يفرض عليه المزيد من الانشغال بالشؤون الداخلية، بالإضافة إلى أن هناك شكوكاً كبيرة حول استمراره في الحكم، بالنظر إلى سرعة تغير رؤساء الحكومات في إيطاليا كما هو معتاد تقليديّاً.

وختاماً، لم يقتصر نفوذ المستشارة الألمانية “ميركل” على الداخل الألماني فحسب، بل يرى البعض أنها ساهمت بدرجة كبيرة في الحفاظ على تماسك الاتحاد الأوروبي عند الأزمات. وفي الوقت الذي تستعد فيه “ميركل” لمغادرة منصبها، ورغم أن نهج “ميركل” لم يكن مرضياً للجميع؛ يبدو أن الاتحاد الأوروبي الذي يواجه الكثير من التحديات، سيعاني فراغاً كبيراً في القيادة، في ظل انشغال القيادات الألمانية الجديدة بالداخل بقدر أكبر، بالإضافة إلى تشكُك الأوروبيين في قيادة “ماكرون” للاتحاد، والعراقيل المختلفة التي يواجهها “دراجي” داخل إيطاليا، بالإضافة إلى الميل الإيطالي التقليدي إلى التغييرات السياسية السريعة.


الكلمات المفتاحية:
https://www.interregional.com/%d9%81%d8%b1%d8%a7%d8%ba-%d9%85%d8%ad%d8%aa%d9%85%d9%84/