قمة استثنائية:

إلى أين تتجه العلاقات الفرنسية–البريطانية بعد اجتماع باريس؟
قمة استثنائية:
14 مارس، 2023

للقراءة بصيغة PDFHTML tutorial

عقد رئيس الوزراء البريطاني “ريشي سوناك” والرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، يوم 10 مارس الجاري، أول قمة استثنائية ثنائية بين البلدين منذ خمس سنوات، وسط كلمات دافئة وأمنيات بتعاون أوثق بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي القمة التي اعتبرها البعض بمنزلة حقبة جديدة في العلاقات الفرنسية–البريطانية لإزالة حالة الاضطرابات السياسية التي سادت بين الطرفين منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016، حتى وصلت إلى ذروة الخلاف بينهما حين وصفت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة “ليز تراس” الرئيس الفرنسي بأن نواياه غير واضحة، وأن الزمن سيظهر إذا ما كان صديقاً أو عدواً. وقد ركزت القمة بشكل رئيسي على جهود دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، بالإضافة إلى مجموعة من الملفات ذات الاهتمام المشترك، ومنها الهجرة غير الشرعية والطاقة والأمن الأوروبي.

أبعاد القمة

ثمة أبعاد متعددة تتقاطع مع انعقاد القمة الفرنسية–البريطانية، وعلى رأسها الحرب الأوكرانية، ووصول سوناك إلى الحكم ورغبته في إدارة ملف خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي، لا سيما ترتيب المواقف المشتركة تجاه الولايات المتحدة وتحالفاتها. ويمكن تناول أبرز هذه الأبعاد كالتالي:

1- وصول سوناك للحكم في بريطانيا: منذ تولي سوناك منصبه في أكتوبر 2022، بدأت ترتفع آمال كثير من البريطانيين والفرنسيين في إمكانية تحقيق تهدئة حقيقية في العلاقة الثنائية بين البلدين. وعلى إثر هذا التغير السياسي في بريطانيا، بدأت الأوساط التحليلية تعقد المقارنات وترصد أوجه التشابه بين “سوناك” و”ماكرون”، ولعل أهمها اشتراكهما في الخلفية المصرفية الاستثمارية، وانتماؤهما السياسي لأحزاب يمين الوسط، وتقاربهما العمري الذي أسهم في التقارب الفكري، وأخيراً تشابه التحديات التي يواجهانها داخلياً في بلديهما، وبالأخص الاحتجاجات الشعبية في صورة إضرابات فئوية. وقد ثبت بالفعل رجاحة هذه النظرة المتفائلة؛ حيث سبق عقْدَ هذه القمة مجموعةٌ من الاتصالات بين القيادة السياسية في باريس ولندن، نتج عنها مجموعة من التفاهمات مهدت لعقد هذه القمة والتحضير لمخرجاتها.

2- استمرار تداعيات الحرب الأوكرانية: ساهمت الحرب الروسية الأوكرانية في تنحية الخلافات بين باريس ولندن جانباً بشكل كبير؛ وذلك في ظل ارتفاع التهديدات الأمنية التي تفرضها موسكو على الساحة الأوروبية، وما تمثله من مخاطر داهمة على الأمن القومي للمنظومة الغربية بأكملها؛ فمع دخول هذه الحرب عامها الثاني وغياب أفق الحل السياسي بالكامل عن الساحة، بدأت القوى الغربية الكبرى تدرك أنها إذا رغبت في عدم إطالة أمد هذه الحرب، فعليها أن تعزز دعم أوكرانيا اقتصادياً وعسكرياً، وما يصاحب ذلك من تسوية للخلافات البينية من أجل الخروج بنهج متسق.

هذا وقد أظهر سوناك وماكرون الوحدة بشأن الحرب في أوكرانيا، واتفقا على أن أولويتهما ستكون مواصلة دعم البلاد في حربها ضد الهجوم الروسي، بهدف مساعدة الأوكرانيين على تحقيق ميزة نسبية في ساحة المعركة، بما يسمح لاحقاً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالجلوس على طاولة المفاوضات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من موقع أقوى.

بالإضافة إلى ذلك، فإن اللجوء المتواتر من الكرملين للتهديد باستخدام الأسلحة النووية، جعل القوتين الأوروبيتين النوويتين (فرنسا وبريطانيا) تدركان مدى ضرورة التعاون والتنسيق المشترك لردع هذه التهديدات الوجودية؛ وذلك وفقاً لرؤية واحدة. يُضاف إلى ذلك، تشابه التحديات الاقتصادية التي تعاني منها كل من فرنسا وبريطانيا من جراء هذه الحرب، خاصة ارتفاع معدلات التضخم، واضطراب سلاسل الإمداد، وتعطل محطات الطاقة وغيرها من التداعيات السلبية الأخرى، وهو ما يذكي دوافعهما لإنهاء الحرب.

3- خطط الإدارة الأمريكية لتعزيز الاتساق العملياتي بين جيوش الحلفاء: في إطار رغبة واشنطن في ضمان تماسك الجبهة الأوروبية للناتو في مواجهة تهديدات الكرملين – وذلك عن طريق تحقيق أكبر قدر من التقارب بين فرنسا وبريطانيا – قامت الإدارة الأمريكية الحالية بإطلاق عدد من الاستراتيجيات والخطط لضمان الاتساق العملياتي بين جيوش حلفائها.

ومن غير المتصور أن تدعم الولايات المتحدة إنشاء أنظمة دفاع صاروخي متكامل في منطقتي الهندو–باسيفيك والشرق الأوسط، دون دعم مثل هذا التوجه في إطار الناتو، وبالأخص داخل أكبر جيشين في أوروبا، كما تتضمن هذه الترتيبات تنسيق نشر غواصات الدفع النووي في الهندو–باسيفيك لمحاصرة الصين بالاشتراك مع الدول المصنعة لهذه التكنولوجيا، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا.

4- البحث الفرنسي عن حلفاء جدد: مع تصاعد حدة الخلافات الفرنسية الألمانية الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بقضايا تشمل سياسة الطاقة ودعم ألمانيا المتردد أحياناً للمساعدة العسكرية لأوكرانيا، أضحى ماكرون يحتاج إلى حلفاء جدد له في أوروبا، مستغلاً في ذلك القرب الفكري والعمري مع نظيره البريطاني؛ الأمر الذي قد يساعده في تخطي أزماته الداخلية والإقليمية الملحة.

ملفات رئيسية

بجانب أوجه التعاون المشترك التقليدية التي تم تناول سبل تعزيزها، وعلى رأسها قضايا المناخ وخطر الإرهاب، اشتملت القمة أيضاً على التعاطي مع مجموعة من القضايا الخلافية، ومن أبرز ملفات القمة التالي:

1- التنسيق في ملف الهجرة غير الشرعية: تأتي قضية المهاجرين غير الشرعيين بين البلدين على رأس القضايا الخلافية التي تفرق بينهما؛ حيث ارتفعت أعداد الذين يعبرون القناة الإنجليزية في قوارب صغيرة بشكل حاد في السنوات الأخيرة؛ ففي عام 2022، عبر أكثر من 45 ألف مهاجر الأراضي الفرنسية إلى بريطانيا، كثير منهم على متن زوارق غير آمنة، بزيادة تقدر بنحو 60% مقارنة بالعام السابق.

ومن أجل الوصول إلى تسوية حول هذا الملف، أعلن سوناك أثناء المؤتمر الصحفي للقمة أن حكومته ستساهم بمبلغ 480 مليون جنيه إسترليني لفرنسا على مدى السنوات الثلاث المقبلة للمساعدة في الحد من هذه الظاهرة؛ حيث ستخصص هذه المبالغ في تمويل معسكر لاستقبال اللاجئين في شمال فرنسا، وإرسال مزيد من الضباط للقيام بدوريات في الشواطئ الفرنسية، وتوفير تكنولوجيا جديدة لرقابة الشواطئ، بما في ذلك الطائرات بدون طيار.

ومن جانبه، أثنى ماكرون على هذه الخطوات، واصفاً إياها بأنها تظهر وعياً بالطبيعة المشتركة لمسؤولية البلدين تجاه هذه القضية. ووفقاً لمسؤولين بريطانيين وفرنسيين، فمن المتوقع أن تساهم فرنسا بشكل كبير في تمويل هذه الخطة، بما يصل إلى خمسة أضعاف المبلغ الذي سيساهم به البريطانيون، على الرغم من رفض الإليزيه إعطاء أرقام دقيقة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه التسوية تستند إلى اتفاق مماثل في نوفمبر 2022، عندما وافقت لندن على دفع 76 مليون دولار لباريس لتطبيق مزيد من الإجراءات الأمنية على الشواطئ في شمال فرنسا؛ حيث شدد سوناك على أن التعاون البريطاني الفرنسي بشأن القوارب الصغيرة منذ نوفمبر، قد أحدث فرقاً كبيراً، ودافع عن قرار تسليم المزيد من الأموال البريطانية إلى فرنسا للمساعدة في حراسة الشواطئ الشمالية الفرنسية.

2- تجاوز أزمة صفقة غواصات “أوكوس”: بعد التوترات العميقة التي أعقبت صفقة غواصات “أوكوس” – وذلك حين تخلت أستراليا عن صفقة الغواصات الفرنسية ووقعت بدلاً من ذلك اتفاقية دفاع جديدة مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة – ترغب باريس ولندن حالياً في تعزيز التعاون الدفاعي بينهما باعتبار ذلك نوعاً من التعويض الجزئي لفرنسا عن خسائرها من الصفقة الملغاة.

وعلى الرغم من عدم خروج تفاصيل هذا التعويض للعلن أثناء انعقاد القمة المشار إليها، فإن الترتيبات الأمنية والدفاعية المشتركة التي تم تناولها تشير إلى أن صفقة الغواصات كانت على مائدة المفاوضات؛ فعلى سبيل المثال، خرجت تفاهمات بين الدولتين في مجالات تنسيق عمليات انتشار القوات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ومواصلة التعاون المتعلق بإنتاج وتطوير صواريخ كروز المضادة للسفن وتكثيف أعمال المهمة النووية المشتركة.

كما تضمنت التفاهمات أوجه التعاون في مجال أسلحة الطاقة الموجهة، وتطوير قدرات “الضربة في العمق”، ونظم الدفاع الجوي، وهي مدرجة على أجندة العمل الأوروبي المشترك. ومن الواضح أن بريطانيا ستقدم تسهيلات معتبرة، سواء قدمتها ثنائياً مع فرنسا أو في إطار الاتحاد الأوروبي لاستراتيجية الدفاع الصاروخي، في مقابل منح فرنسا تسهيلات لوجستية معتبرة للقطع البحرية البريطانية في المياه الإقليمية التي تتحكم فيها.

3- تعزيز العلاقات الاقتصادية المشتركة: يشهد الاقتصاد البريطاني حالة من الركود التضخمي؛ لذا ترغب الحكومة البريطانية في طمأنة المستثمرين بأن العلاقات التجارية مع أوروبا ستتحسن وستساعد في تعزيز النمو، كما تسعى الدولتان إلى تعزيز حجم معاملاتهما التجارية، خاصة بعد أن استمرت في التراجع خلال الفترة التي أعقبت خروج المملكة من الاتحاد الأوروبي؛ حيث وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى 57 مليار دولار عام 2021، مقارنة بنحو 60.5 مليار دولار عام 2016؛ وذلك قبل أن يعاود الارتفاع لتصل إلى نحو 66.5 مليار دولار عام 2022، مع الأخذ في الاعتبار تضخم الأسعار العالمية للسلع، نتيجة ارتفاع تكاليف الشحن والطاقة.

4- إيجاد تسوية لقضية حقوق الصيد: ظهر الخلاف بين البلدين حول حقوق الصيد بالقرب من السواحل البريطانية عقب مغادرة المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي رسمياً في عام 2020؛ ما تطلب تسوية جديدة حول الوصول إلى المياه المشتركة؛ إذ ضمنت اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، التي تم توقيعها في العام ذاته، زيادة حصة المملكة في حصص الصيد بنسبة 25% بين عامي 2021 و2026 في المياه الإقليمية، في مقابل موافقة لندن على السماح للسفن الفرنسية التي كانت تصطاد هناك من قبل بالاستمرار في ذلك. ونتيجة لحدوث عدد من المناوشات في الواقع التطبيقي، توصل الطرفان إلى عدد من التفاهمات حول هذه المسألة يتم بمقتضاها إبداء قدر أكبر من المرونة مع السفن الفرنسية في مقابل استحواذ بريطانيا على الحصص المقررة بشكل متسارع.

5- دعم أمن الطاقة: وقعت المملكة المتحدة وفرنسا أيضاً على شراكة جديدة في مجال الطاقة؛ وذلك بهدف تخفيف القبضة الروسية على مجال الطاقة الأوروبية، في إطار الحد من قدرة موسكو على استخدام أمن الطاقة كسلاح مرة أخرى؛ فبموجب اتفاق التعاون النووي المدني، ستلتزم بريطانيا وفرنسا بالعمل معاً في مجال الطاقة المنخفضة الكربون؛ من أجل ضمان أن كل واط من الطاقة التي تغذي منازلهما وصناعتهما ستأتي من مصادر آمنة ومستدامة وموثوق بها.

الخلاصة: لا يمكن النظر إلى القمة الفرنسية البريطانية بمعزل عن الأبعاد التي هيأت ظروف انعقادها من جانب ومساعدتها في التعرض لملفات شائكة بين طرفيها من جانب آخر. ومع ذلك، من الصعب الافتراض بأن هذه القمة قد وضعت حداً نهائياً لحالة الشد والجذب بين باريس ولندن؛ إذ لا تزال اعتبارات التنافس التاريخي قائمة بينهما، كما أن آثار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال مستمرة على ميزانية الاتحاد وما يستتبع ذلك من كلفة اقتصادية إضافية على عاتق فرنسا وألمانيا، ومن ثم فإن هناك العديد من الخطوات التنفيذية التي يقع على عاتق البلدين اتخاذها من أجل الاستمرار في تذويب الجليد بينهما خلال الفترة المقبلة.


الكلمات المفتاحية:
https://www.interregional.com/%d9%82%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%ab%d9%86%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d8%a9/