منذ استقلال كينيا عن الحكم الاستعماري البريطاني في عام 1963، سعت الدولة إلى تحقيق الازدهار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وبذلت كلٌّ من الحكومات المتعاقبة جهوداً متضافرة على مدى عقود للتعامل مع مهددات رئيسية للتنمية في البلاد، هي: الفقر والجهل والمرض. كما شهدت كينيا ظهور حركات سياسية قوية وقادة عازمين على استعادة كرامة المواطنين من خلال العدالة والديمقراطية وسيادة القانون والتحرير الاقتصادي للشعب الكيني.
عنف تاريخي
تُجرى الانتخابات العامة في كينيا مرةً كل 5 سنوات، باعتبارها جمهوريةً ديمقراطيةً. وقد تميَّزت كل دورة انتخابية بظروف فريدة نبعت من رغبة المواطنين في تعيين قيادة بديلة تعكس آمالهم وأحلامهم، إلا أن الكثير من السوابق الانتخابية شملت قدراً كبيراً من العنف الذي أودى في بعض الأحيان بحياة الناس، وتسبب في دمار هائل للممتلكات، وشرَّد الكثير من الكينيين.
وقد شكَّلت الانتخابات العامة في كينيا التي أجريت في أعوام 1992 و1997 و2007 و2017، محطات مظلمة على نحو خاص في تاريخ البلاد السياسي. وشملت هذه الانتخابات اشتباكات عرقية، وأعمالاً وحشية مارستها الشرطة، وعمليات قتل خارج نطاق القانون، وأعمال عنف خلَّفت عدداً كبيراً من القتلى ومئات الآلاف من المُشرَّدين.
ويعود سبب العنف المتكرر في كل دورة انتخابية في كينيا إلى عوامل مختلفة، مثل النزاعات الانتخابية، والتوتُّرات العرقية، والاستقطاب السياسي، وعدم المساواة في توزيع الموارد، وحالات الظلم التاريخية، وسوء الحكم، وغير ذلك من العوامل.
وعلى الرغم من تشديد منظمات حقوق الإنسان والجماعات الدينية والمجتمع الدولي بانتظام على الحاجة إلى معالجة هذه المسائل؛ لم تُظهر حكومة كينيا بَعدُ التزاماً حَسَن النية بإيجاد حلول دائمة. ويتوقَّع عامة الناس الآن اندلاع العنف، حتى خلال الانتخابات العامة لعام 2022. ويُوشِك ذلك أن يصبح نبوءة تتحقق من تلقاء نفسها إذا فشلت الدولة ومختلف الجهات السياسية الفاعلة في معالجة الأسباب الكامنة المتعددة للعنف، أو في التغلب على المستويات العالية من الاستقطاب السياسي.
إرث من الخوف
يعيش الكثيرون من الكينيين في خوف مستمر من اندلاع العنف خلال الانتخابات وما بعدها، لا سيما في المراكز الحضرية، مثل نيروبي، ومومباسا، وكيزيمو. وينطبق الأمر نفسه على الذين يعيشون في المناطق المعرضة للعنف في الوادي المتصدع، مثل إلدوريت، وناكورو، ومولو، وكيريشو، ونايفاشا.
في أواخر الثمانينيات، اجتاحت الديمقراطية المتعددة الأحزاب كافة أنحاء أفريقيا، فبدأ قادة المعارضة الكينية يتحدُّون الطغيان الوحشي لحزب واحد بقيادة الرئيس دانيال أراب موي آنذاك. واتسم النضال من أجل تحقيق الديمقراطية المتعددة الأحزاب بالاعتقالات التعسفية، وعمليات الحجز، والاغتيالات السياسية، ووحشية الشرطة، ومضايقة المعارضة، إلى أن أدرج أخيراً نظام متعدد الأحزاب في عام 1992، واستمر التحرك نحو تحقيق حكم أفضل، وشكَّل فوز “كيباكي” في انتخابات عام 2002 تحريراً وطنياً ثانياً بالنسبة إلى الكثيرين.
لكن يتضح اليوم أن أحلام وآمال المناضلين في سبيل الحرية من أجل ازدهار كينيا لم تتحقق بعد؛ نظراً إلى عدم وفاء القادة والسياسيين بوعودٍ عدة، وتنامي حالات الظلم التاريخية التي واجهها الشعب الكيني. ولا تزال هذه المسائل تشكل مصدر خوف بالنسبة إلى الانتخابات المرتقبة في أغسطس 2022.
وقد كانت فترة العنف التي تلت الانتخابات في عام 2007 أكثر فترات العنف مأساويةً في تاريخ كينيا. ونتج ذلك عن انتخابات رئاسية متنازع عليها بين رايلا أودينجا، والرئيس آنذاك مواي كيباكي. ففشلت اللجنة المستقلة الكينية في تحديد المرشح الذي فاز شرعياً في الانتخابات. وأعقب التبارُزَ الذي جرى في ديسمبر 2007 أشهرٌ من العنف العرقي السياسي الذي يقدَّر بأنه أدى إلى مقتل 1200 شخص، وإجبار أكثر من 500 ألف آخرين على الفرار من ديارهم.
أثَّر هذا العنف على نحو أساسي في المناطق المتعددة الأعراق وذات الدخل المنخفض في نيروبي ونايفاشا وكيزيمو ومومباسا، كما ألحق أضراراً كبيرة بالتجارة والأعمال. وأسفرت جهود الوساطة التي بذلها الاتحاد الأفريقي برئاسة كوفي عنان، عن توقيع الاتفاق الوطني، وإنشاء تسوية سياسية بين المرشحَين الرئاسيَين، وتشكيل حكومة ائتلافية واسعة مع تعيين “كيباكي” رئيساً و”رايلا” رئيساً للوزراء.
وضغطت الجماعات الدينية ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية لإنشاء لجنة الحقيقة والعدالة والمصالحة من أجل معالجة الأسباب الكامنة وراء العنف السياسي وحالات الظلم التاريخية والانتهاكات الجسيمة في مجال حقوق الإنسان. وقُدِّم تقرير هذه اللجنة إلى إدارة “كيباكي”، ولاحقاً إلى حكومة حزب اليوبيل، لكن لم يُنفَّذ أيٌّ منهما توصيات التقرير حتى الآن.
نتيجةً لذلك، لم تُعالَج الأسباب الكامنة وراء العنف الانتخابي وحالات الظلم التاريخية والانتهاكات الجسيمة في مجال حقوق الإنسان، ولم يُساهم تقرير لجنة الحقيقة والمصالحة في تحقيق الوحدة أو المصالحة أو التعافي على الصعيد الوطني. ولم تُشفَ بعدُ الندوب الناتجة عن أعمال العنف السابقة، ويُحتمَل أن تُثير المزيد من العنف في الانتخابات العامة لعام 2022. أما مسببات هذه النزاعات فهي متعددة الأبعاد، وتشمل عوامل تاريخية وهيكلية ومؤسسية وقانونية وثقافية، فضلاً عن التوترات العرقية.
توترات عرقية
كانت الانتخابات العامة لعام 2013 سلمية نسبياً، ومع ذلك استمرت الأعمال العدائية العرقية في التصاعد في أجزاء كثيرة من البلاد. فوقعت سلسلة من المجازر في مقاطعة نهر تانا في أواخر عام 2012 وأوائل عام 2013؛ ما أسفر عن مقتل أكثر من 170 شخصاً وإصابة عدد أكبر بكثير من الأشخاص، وتشريد عشرات الآلاف.
واستمر انعدام الثقة والاستياء في النمو في الوادي المتصدع ونيانزا ونيروبي؛ بسبب فشل الدولة في معالجة الأسباب الكامنة وراء العنف، وفقاً لتقرير لجنة الحقيقة والعدالة والمصالحة. ومهَّد ذلك الطريق لازدياد العنف بعد الانتخابات العامة في عام 2017، فاشتبكت الشرطة مع قوات المعارضة، بشكل أساسي في نيروبي وغرب كينيا، بعد أن شكك زعيم المعارضة رايلا أودينجا في مصداقية الانتخابات، وطعنَ في النتائج بنجاح في المحكمة، ثم رفض المشاركة في الانتخابات الرئاسية الجديدة.
ويعتقد أنصار أودينجا أن سوء الممارسة الانتخابية الذي أدى إلى رفض نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2017، لم يعالَج بعدُ، فطالبَ عدد كبير من هؤلاء الأنصار بإجراء إصلاحات انتخابية من أجل استعادة ثقة الناس بقدرة اللجنة المستقلة للانتخابات والحدود على إجراء انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية ويمكن التحقق منها في 9 أغسطس 2022. وقد أدى نقص الثقة العامة بهذه الهيئة الانتخابية إلى زيادة التوترات بين الكينيين، فيما هدَّد البعض بمقاطعة الانتخابات.
وتشهد البلاد تفشياً لعدم التسامح السياسي والعنف في الفترة التي تسبق الانتخابات العامة لعام 2022. وفي مورانجا وجيثوراي وكيسي جرت مجموعة من الانتخابات الفرعية والاجتماعات السياسية التي شابتها تصريحات تحريضية موجَّهة إلى أنصار مبادرة بناء الجسور، ولا مبالاة حكومية إزاء ارتفاع تكلفة السلع الأساسية، مثل دقيق الذرة وزيت الطهي والمنتجات البترولية. وإذا لم تعالج الحكومة هذه الظروف الاقتصادية بأسلوب مناسب، فسيُمهِّد ذلك لاندلاع العنف خلال فترة الانتخابات.
تطورات جديدة
أثارت التطورات والتحالفات السياسية الجديدة التي ظهرت مع إشراف الحملات على الانتهاء في 9 أغسطس 2022، القلق بشأن الانتخابات؛ ما أدى إلى نزوح جماعي من المدن المُعرَّضة للعنف، كما عزز الجدل الدائر حول الخلافة الرئاسية بروز تحالفات جديدة بين الخصوم السابقين، وكذلك العداوة بين الحلفاء السابقين. وأصبح نائب الرئيس الحالي وليام روتو، صوتاً معارضاً يتحدى الرئيس.
وتُعَدُّ المظالم الاجتماعية والاقتصادية محورية في الانتخابات المقبلة؛ فثمة مؤشرات على أن انتخابات عام 2022 يمكن تقسيمها على أسس طبقية من “الأغنياء والفقراء”، أو “السلالات الحاكمة” و”العمال المزاحمين” كما يُطلق عليهم في كينيا. أما الحالات المتمثلة في انتشار الفقر وعدم المساواة الاقتصادية الشديدة، والتاريخ الطويل من التطور على أسس عرقية في كينيا، فتجعل مثل هذه الروايات الثنائية جذابة بالنسبة إلى الكثير من الناس، وهي ذات آثار قد تُوتِّر الأجواء. وتستمر هذه الروايات في استقطاب أمة مفككة أساساً، ويمكن أن تؤدي إلى نشوب العنف في الفترة التي تسبق الانتخابات العامة.
وأخيراً، مع اقتراب موعد الانتخابات العامة في 9 أغسطس 2022، تبدو جهود بناء السلام في خلال هذه العملية مسألة مُلحَّة. وهذه فرصة لتبذل مختلف الجهات الفاعلة جهوداً متضافرة للحد من خطر اندلاع العنف في عام 2022 من خلال تنفيذ مبادرات بناء السلام على المستوى المحلي. والهيئة الانتخابية – أي اللجنة المستقلة للانتخابات والحدود – هي مسؤولة عن إجراء انتخابات حرة ونزيهة وذات مصداقية لتعزيز الديمقراطية ودعم سيادة القانون وترسيخ السلام والاستقرار في كينيا، كما يقع على المرشحين واجب مدني يتمثل في الحفاظ على جوٍّ من السلام والتسامح قبل الانتخابات، وفي خلالها وبعدها، وكذلك تقبُّل نتائج الانتخابات.