عقد “إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية” حلقة نقاشية بعنوان “سياسات واشنطن: الشرق الأوسط في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024″، وهي الحلقة التي استضاف خلالها “أليكس فاتانكا” الزميل الأول ومدير برنامج إيران في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، متحدثاً رئيسيّاً. ويمكن تناول أبرز ما ورد في الحلقة النقاشية على النحو التالي:
توجهات بايدن
ركَّز المتحدث الرئيسي على السياسات الأمريكية تجاه المنطقة خلال السنوات الأخيرة؛ وذلك على النحو التالي:
1- إعادة ترتيب الأولويات الأمريكية في نظام عالمي جديد: وفق المتحدث الرئيسي، فإنه منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، لم يَقُم أحد بتحدي قوة الولايات المتحدة التي استطاعت التمتُّع بلحظة أحادية والقيام بأي شيء تريده، في أي مكان من العالم. أما اليوم فالوضع يختلف؛ إذ أصبحت الصين قوة صاعدة، وتصاعد الخطر الروسي، وهو ما سيجعل صناع السياسة الأمريكية يُفكِّرون مرة أخرى في أولوياتهم الاستراتيجية، وهو ما لم يقوموا به حقّاً على مدار العقدَين الماضيَين.
2- رفض مقولات الانسحاب الأمريكي من المنطقة: بحسب المتحدث الرئيسي، فإنه يجب ألَّا نفترض أن سياسة أمريكا تجاه الشرق الأوسط هي الانسحاب منه، وأضاف: “لقد سمعنا هذا الأمر طوال العقد الماضي؛ منذ قرار إدارة الرئيس السابق باراك أوباما الانسحاب من العراق، ومنذ سمعنا عن سياسة التحول إلى آسيا (pivot to Asia)، لكننا لم نجد أي دليل على انسحاب حقيقي لواشنطن من المنطقة”. واعتبر أن الحضور العسكري الأمريكي ما زال موجوداً وإن لم يكن بالقدر نفسه، لكن قدرة الولايات المتحدة على إسقاط القوة في المنطقة لم تتغير، وأضاف: “عندما نتحدث عن (التحول إلى آسيا)، يعتقد معظم الناس أن الولايات المتحدة ستحمل حقائبها وتُركِّز وجودها في جنوب شرق آسيا فقط، لكن هذا ليس صحيحاً. أعتقد أن الأمر لا يتعلق بانسحاب واشنطن بقدر ما هو متعلق بوضع أولويات معينة تتماشى مع المصالح الأمريكية”.
3-تراجع جدوى التدخل العسكري الأمريكي في المنطقة: أشار المتحدث الرئيسي إلى أنه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، بدأت الولايات المتحدة تضخ استثمارات ضخمة في هذه المنطقة، وتُنشِئ التزامات عسكرية، لكنها رأت أن هذا الأمر غير مُجْدٍ، خاصةً التدخُّل في أفغانستان والعراق، وهو التدخل الذي يعتقد جيل كامل من الأمريكيين اليوم أنه خطأ لا يجب تكراره. وأضاف أن هذا الأمر مهم فيما يخص الحديث عن سياسة واشنطن المستقبلية في المنطقة؛ فهل نتحدث عن تدخُّل مشابه للتدخل في العراق؟ أو مشروعات لـ”بناء الأمة” كما حدث في أفغانستان؟ بالتأكيد لا توجد نية أمريكية لذلك، وهناك جيل بأكمله يعتقد أنه لا جدوى من وجود الولايات المتحدة في مناطق مثل الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، وأن الأولوية للتركيز على المشكلات والتحديات الداخلية.
4-عدم امتلاك إدارة بايدن رؤية تجاه القضية الفلسطينية: بحسب المتحدث الرئيسي، لا تمتلك إدارة بايدن شيء تُقدِّمه أو رؤية حول الصراع العربي–الإسرائيلي، ولا يوجد اهتمام حقيقي، وأضاف: “لذا ستتظاهر بالاهتمام، لكنها لن تفعل أي شيء، وستحاول ضمان ألا تتحوَّل القضية إلى مسؤولية على عاتق الولايات المتحدة؛ وذلك على الرغم من أن المجموعات الداعمة للمصالح الإسرائيلية حاضرة بقوة في الولايات المتحدة، وتحتاج الإدارة الأمريكية إلى إرضائها، خاصةً قبل الانتخابات الرئاسية، لكن الأمر لن يتعدى ذلك، على الأغلب، ولن نرى توجيه أي جهود لحل الصراع العربي الإسرائيلي”.
5-رفض واشنطن النهج الصدامي في قضايا الشرق الأوسط: ذكر المتحدث الرئيسي أنه على الرغم من أن واشنطن لديها حضور إداري في سوريا على سبيل المثال، فإن هذا لن يتحول إلى صراع مع الميليشيات الإيرانية هناك، ولا مع أي فصائل أخرى؛ حيث ستكون واشنطن حذرة للغاية في تعاملها مع التحديات. وفي الوقت نفسه تسعى واشنطن للتوصُّل إلى حل في حرب اليمن وفي الصراع السوداني، وأضاف: “قال لي دبلوماسي أمريكي سابق إن واشنطن حريصة على ألَّا يتحول الصراع في السودان إلى حرب مطولة”. وكذلك سيساعد الاتفاق الإيراني السعودي في تحقيق استقرار في بعض القضايا في المنطقة. ورغم اقتراح بعض أعضاء الكونجرس تشريعات لدعم الانتفاضات في إيران والحركة الاحتجاجية، فإن هذه السياسات ليست جادَّة بالقدر الكافي.
6- اهتمام الحزب الديمقراطي بقضايا المناخ في المنطقة: أوضح المتحدث الرئيسي أن الحزب الديمقراطي يهتم بدعم دول المنطقة في مكافحة تحديات التغيرات المناخية، وهو الدعم الذي يمثل نوعاً مختلفاً من التعاون؛ حيث لا يتعلق بالحرب والزي العسكري، بل بمساعدة دول المنطقة على خفض الانبعاثات الكربونية، وإذا استطاعت الولايات المتحدة مساعدتها على زيادة اعتمادها على الطاقة المتجددة، فقد ينجح هذا الأمر بالفعل، وهو ما بدأ يحدث بدرجة معينة.
7-رغبة إدارة بايدن في توسيع نطاق اتفاقيات السلام: أشار المتحدث الرئيسي إلى أن الرئيس بايدن قد يريد توسيع نطاق اتفاقيات السلام لتشمل دولاً عربيةً أخرى، لكن هناك الكثير الذي يجب عليه فعله، وعلى أقل تقدير ستسعى إدارته إلى ضمان بقاء الاتفاقيات حية. وأضاف أن جاك سوليفان مستشار الأمن القومي أوضح قبل عدة أسابيع في إحدى الفعاليات بواشنطن، خمس ركائز لسياسة واشنطن الخارجية، وهي: تعزيز الشراكات القائمة، وتأكيد الردع وخاصةً تجاه إيران، والدبلوماسية وخفض التصعيد مثل إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، والتكامل بين القوى الإقليمية الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة، مثل توسيع نطاق اتفاقيات السلام كما سبق ذكره، لكن الحكومة الإسرائيلية الحالية لن تُرضِي الدول العربية بسهولة، وخاصةً أنها يمينية.
8- مساعٍ صينية لتعزيز النفوذ في الشرق الأوسط: أشار المتحدث الرئيسي إلى أن هناك دولاً في المنطقة تريد التركيز على تطوير المنطقة، وإلى أن الصين تعرض خدماتها في هذا السياق. ومن ثم لا خيار لدى الولايات المتحدة سوى عرض خدماتها هي الأخرى من خلال التعاون الاقتصادي والتمويل؛ حيث إن التعاون العسكري وحده لن يحقق هدفها في المنافسة.
مواجهة طهران
يمكن تناول أبرز ملامح السياسات الأمريكية تجاه إيران على النحو التالي:
1-اعتبار إيران قوة متوسطة على المستوى الدولي: أشار المتحدث الرئيسي إلى أن إيران ليست دولة كبيرة مثل الصين، ولا قوة نووية مثل روسيا، لكنها قوة متوسطة إقليمية تستطيع التأثير على المصالح الأمريكية في هذه المنطقة من العالم؛ لذا فإن الأمريكيين يولونها أهميةً كبرى.
2-أربعة تحولات في السياسة الأمريكية تجاه إيران: بحسب المتحدث الرئيسي فإنه منذ الثورة الإيرانية في عام 1979، مرت السياسة الأمريكية تجاه إيران بأربع مراحل: الأولى 1979–1991: بعدما تولى آية الله خامنئي السلطة خلال الثمانينيات، حاولت إدارة ريجان إيجاد طرق لتعزيز العلاقات مع إيران؛ ليس لأنها تحب خامنئي، بل لأنها لم تُرِد أن يصبح خادماً للسوفييت؛ ففي سياق سياسات الحرب الباردة، كانت واشنطن على استعداد لتجاهل كل الصفات السيئة للنظام الإيراني. المرحلة الثانية 1991–2002: وهي المرحلة التي شهدت زوال الاتحاد السوفييتي؛ حين لم تَعُد إيران في موقع استراتيجي حسَّاس وفقدت قيمتها، وفجأةً بدأت سياسة واشنطن تُركِّز على المعارضة الإيرانية؛ بسبب موقف النظام الإيراني المناوئ لجهود السلام في ملف الصراع العربي الإسرائيلي؛ حيث إن إيران كانت من أكثر الدول اعتراضاً على اتفاق أوسلو، فأراد كلينتون حينها معاقبة إيران على ذلك، وهذا هو التوقيت الذي بدأت فيه العقوبات الأمريكية على إيران في وسط التسعينيات.
المرحلة الثالثة 2002–2017: وهي المرحلة الأطول، ويمكننا تسميتها فترة التنازلات المتبادلة (tough give and take period)؛ إذ أدرك الطرفان أنهما لا يريدان خوض الحرب، وعليهما تقديم التنازلات، وهي الفترة التي شهدت ميلاد الاتفاق النووي عام 2015، ثم وصول الرئيس ترامب إلى سدة الحكم خلال الانتخابات الرئاسية عام 2016. المرحلة الرابعة 2018 حتى اليوم: وهي المرحلة التي اتسمت بفرض أقصى قدر من الضغوطات على إيران. وهذه السياسة بدأت فعليّاً بمجرد وصول ترامب إلى الحكم، لكنها بدأت رسميّاً في 2018 ومستمرة حتى يومنا هذا.
3-عدم جدية إدارة بايدن في إحياء الاتفاق النووي: وفق المتحدث الرئيسي، لا يتحدث الرئيس بايدن كثيراً عن إيران على الرغم من تصريحاته بأنه يريد إحياء الاتفاق النووي، لكنه لم يكن جادّاً بشأن النظر في طلبات إيران في هذا السياق؛ فهو لا يتحدث عن هذه الطلبات بدلًا من أن يتفاوض مع إيران بشأنها، وهو ما قد يعني أن الشرق الأوسط من وجهة نظر بايدن لم يعد مُهمّاً؛ لذا فإن حملة الضغط القصوى جزء من الخطاب السياسي ظاهريّاً، إلا أن بايدن في الواقع يريد الابتعاد عن إيران. والجدير بالذكر أن حجم التجارة الخارجية الإيرانية بلغ 110 مليارات دولار العام الماضي؛ فإذا كانت هناك عقوبات مفعلة ضد إيران، فيبدو أنها عقوبات فضفاضة، وهو ما يَفترِض المتحدث الرئيسي أن الولايات المتحدة تعيه بالفعل، لكنها لا تريد تغيير الأمر.
4-ضرورة إدراك إيران خطورة استفزاز واشنطن: أوضح المتحدث الرئيسي أن الإيراني تستفز الولايات المتحدة للتفاعل معها، من خلال إطلاق بعض الضربات الباليسيتة كما شهدنا قبل يومين، لكن إذا تكرر هذا الفعل فربما تصبح إيران جزءاً من الأجندة الأمريكية مرةً أخرى، وحينها لن يصب ذلك في مصلحة إيران؛ فعليها أن تدرك الفارق البسيط بين لفت الانتباه وبين استفزاز واشنطن لتشديد الضغط عليها.
5-ترقب أمريكي للنفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة: وفق المتحدث الرئيسي، فإن على واشنطن محاولة كسب إيران مرة أخرى؛ لأنها إن لم تفعل فستكون قد تخلَّت عن قلب الشرق الأوسط لصالح الصين التي عندما تعزز وجودها في طهران، ستقوض المصالح الأمريكية في المنطقة. والصين لديها وجود في المنطقة بالفعل من خلال الموانئ في جيبوتي وباكستان وعمان، في سياق حماية إمداداتها من الطاقة. أما استبدال الولايات المتحدة بصفتها ضامناً أمنيّاً، فليس من الواضح بعدُ إذا ما كانت الصين لديها القدرة على القيام بذلك أو النية للقيام به، إلا أن واشنطن تفترض أن الصين تريد ذلك. “وأعتقد أن الأولى ستفكر في استراتيجيات جديدة للتعامل مع الصين وفقاً لذلك، وهذا يخلق فرصاً لحلفاء واشنطن في المنطقة الذين لديهم علاقات جيدة مع الجميع؛ إذ يستطيعون الحصول على أفضل نتائج من كل طرف”.
6-محاولة إيران إثبات صعوبة عزلها عن النظام الدولي: أشار المتحدث الرئيسي إلى أن إيران أرسلت عناصر من أسطولها البحري إلى القارة القطبية؛ إذ تحاول طهران أن تروج لأمريكا صعوبة عزلها عن النظام الدولي، وأن العقوبات لن توقفها عن طموحاتها، “ورأينا الشيء نفسه قبل 3 سنوات؛ عندما هدد الأسطول الإيراني بالذهاب إلى خليج المكسيك. لا يجب أن ننسى أن الأسطول الإيراني يمثل عقلية خامنئي الذي يؤمن بأن الأسطول البحري لبلاده يجب أن يصبح أكثر قوةً؛ لذا يركز الجيش الإيراني على تعزيز الأسطول البحري لديه؛ حيث يعلم أن هناك وجوداً أمريكيّاً قويّاً على طول مياه الخليج، ويدرك أن هذه المنطقة هي بؤرة محتملة للصراعات”.
وأضاف: “إذا عدنا إلى أحداث الحرب مع العراق، فإنه بعد انتهاء الحرب فوراً، اعتقد الإيرانيون أن قوة صدام تتراجع، ولن يستطيع مهاجمتهم مرةً أخرى؛ حيث كانت القوات الإيرانية متمركزة على الحدود مع العراق، وتراقب تحركات قوات الجيش هناك، لكن بعد الحرب وطرد قوات صدام من الكويت، بدأ الإيرانيون يركزون اهتمامهم في مياه الخليج العربي؛ خوفاً من احتمالية شن هجوم أمريكي على إيران؛ لذا يحاولون إصلاح الأسطول البحري. لديهم طريق طويل لتحقيق ذلك؛ لأن السلاح الجوي والسلاح البحري لديهم متهالكان، وما زالوا يستخدمون أسلحة من السبعينيات؛ لذا يمكننا رؤية الأسطول الإيراني في القارة القطبية من عدة جوانب؛ أولها الاستكشاف والاستطلاع، وثانيها الترويج للنظام الإيراني وللرأي العام الداخلي أننا لسنا معزولين مثل كوريا الشمالية”.
7- صعوبة التكهن بخليفة “خامنئي” في السلطة: أشار المتحدث الرئيسي إلى أن خامنئي موجوداً في السلطة منذ عام 1989؛ لذا فهو ليس مستجدّاً في المنصب؛ لذا لم يُشِر إلى أي شخص كخليفة محتمل له؛ فهو يشعر بغيرة كبيرة تجاه مشاركة هذا المنصب مع شخص آخر، حتى لو كان ابنه. “ولا أعتقد أن ابنه سيفوز بالمنصب؛ لأنه غير محبوب، وقريب من الجهات الاستخباراتية، وقريب من دوائر صناع القرار التي قررت قتل المتظاهرين. من جانب آخر، هناك منافسة قوية داخل النظام الإيراني ضمن المتشددين؛ فنحن نتحدث طول الوقت عن الصراعات بين المتشددين (hardliners) والإصلاحيين (reformers) والمعتدلين (moderates). الآن المتشددون هم من ينافس بعضهم بعضاً”، وأضاف أن شخصاً مثل رئيسي يمكن أن يكون مرشحاً وسطاً وله مقبولية رغم الانتقادات الواسعة له؛ فهو ليس لديه سلطة دينية، لكن قد يكون قائداً رمزيّاً، بينما يستمر الحرس الثوري في القيام بعمله.
وختاماً، وفي سياق مستقبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، أوضح المتحدث الرئيسي أنه إذا ترشح ترامب أمام بايدن، وتم طرح الحرب الأوكرانية، فسيكسب ترامب النقاش حول هذا الأمر؛ لأنه سيتحدث بعبارات بسيطة للغاية بأنها “ليست حربنا”. أما بايدن فيجب أن يشرح باستفاضة كيف أنها “ليست حربنا، لكنها قضية تهمنا”، إلا أن الرأي العام لن يهتم بهذه الإجابة المطولة؛ فالديمقراطية سلاح ذو حدين؛ فهي جيدة لأن كل صوت يستطيع إحداث فارق، لكن إذا لم تفكر جيداً فيما تقوم به، فقد ينتهي الأمر بنتائج سيئة، مثل التصويت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وأضاف: “20 عاماً من الحرب في الشرق الأوسط، وعودة الجنود من مناطق الحرب مكتئبين ويُقدِمون على الانتحار، وليس لديهم وظيفة، ويتساءلون: لماذا حاربنا؟ لن يجعل هذا من السهل على الولايات المتحدة أن تحارب مرة أخرى؛ فليس هناك مجندون محترفون.. في أمريكا اليوم لا يشعر المواطنون بالقدر نفسه من الوطنية مثلما حدث بعد أحداث 11 سبتمبر؛ حين كانت الأغلبية مُقبِلةً على الانضمام إلى الجيش”.