"حافة الهاوية":
تنوعت التحليلات وكثُرت التأويلات حول أسباب وتداعيات ما حدث من هجوم واسع على عناصر حزب الله اللبناني عبر أجهزة الاتصالات، وهي الهجمات التي بدأت يوم السابع عشر من سبتمبر الجاري عبر تفجير المئات من أجهزة النداء "البيجر" في العديد من المناطق اللبنانية، وفي بعض مناطق تُمركز الحزب في سوريا بشكل متزامن، أعقبها في اليوم التالي تفجيرات متزامنة أخرى لأجهزة اللاسلكي التي يستخدمها عناصر الحزب؛ ما أسفر عن مقتل 37 شخصاً وإصابة ما يقرب من 3000 آخرين، المئات منهم حالتهم حرجة، بحسب وزير الصحة اللبناني يوم 19 سبتمبر، لكن المؤكد أن تلك الأحداث تُشكل أكبر خرق أمني للحزب منذ نشأته؛ الأمر الذي ينسف كلياً قواعد الاشتباك القائمة مع إسرائيل منذ سنوات، بل لا يعتبر من قبيل المبالغة إن قيل إن هذا الخرق الاستخباراتي السيبراني غير المسبوق سوف يكون محل دراسة واهتمام العديد من أجهزة الاستخبارات حول العالم خلال الفترة القادمة.
تصعيد تل أبيب
رغم عدم إعلان تل أبيب مسؤوليتها عن الاختراق الأمني غير المسبوق، وتجنُّب المسؤولين الإسرائيليين التعليق على الموضوع، فإن كل المؤشرات تؤكد ضلوعها مباشرةً بالهجمات، سواء بشكل أحادي أو عبر التنسيق مع حلفائها الغربيين، لا سيما الولايات المتحدة. وبغض النظر عن الأسباب التقنية لتلك الانفجارات، فإن ثمة أسباباً مختلفة ربما دفعت إسرائيل إلى القيام بتلك العمليات في هذا التوقيت، وهي الأسباب التي يُمكن تناول أبرزها على النحو التالي:
1– تأكيد التفوق التكنولوجي والاستخباراتي لتل أبيب: سعت تل أبيب، عبر تلك الهجمات، إلى تأكيد تفوقها التكنولوجي والاستخباراتي، والرد بشكل عملي على محاولات حزب الله الترويج لامتلاكه تقنيات متقدمة، لا سيما في مجال الطائرات المسيرة، التي مكنته من رصد وتصوير العديد من المواقع الاستراتيجية والعسكرية الحساسة في شمال إسرائيل، ونشر إحداثياتها عبر مقاطع فيديو أطلق عليها "سلسلة الهدهد" وتم نشرها على نطاق واسع، وقيام الحزب في وقت لاحق بالتحكم في بعض المسيرات الإسرائيلية وإسقاطها.
ومن ثم سعت إسرائيل عبر تفجير أجهزة الاتصالات الخاصة بالحزب إلى تأكيد أنه لا وجه للمقارنة بين قدرات الجماعات المسلحة المدعومة من طهران، لا سيما حزب الله، وبين قدرات تل أبيب؛ حيث ما زالت آلية القيام بتلك العملية المعقدة غامضة ومحل جدل بين المراقبين، الذين رجح بعضهم قيام قراصنة بالتلاعب بالبطاريات داخل أجهزة "البيجر" عن طريق "شفرة ضارة"؛ ما تسبب في انفجارها، في حين رجح آخرون قيام طرف ثالث بالوصول إلى سلاسل التوريد الخاصة بالحزب واعتراض الأجهزة أثناء نقلها إلى وجهتها، ومن ثم زرع المتفجرات بداخلها، وهي المتفجرات التي يتم تفعيلها عبر شفرة معينة.
2– ضرب البنية التنظيمية ومنظومة القيادة والسيطرة للحزب: استهدفت إسرائيل من خلال هذه العملية المركبة إرباك وشل منظومة القيادة والسيطرة لدى الحزب؛ فعن طريق تفجير الآلاف من أجهزة الاتصالات في وقت واحد في العديد من المناطق اللبنانية، يمكن إفقاد كوادر وقيادات الحزب في المراكز العسكرية واللوجستية القدرة على التواصل والتنسيق، لا سيما مع استمرار عمليات اغتيال قيادات الصف الأول، وهي العمليات التي يبدو أنها ستتصاعد خلال الفترة القادمة. جدير بالذكر أن الجيش الإسرائيلي استهدف يوم الجمعة 20 سبتمبر 2024 قلب الضاحية الجنوبية لبيروت مجدداً؛ حيث أشارت العديد من المصادر الإسرائيلية إلى أن المستهدف هو القيادي البارز في الحزب "إبراهيم عقيل".
3– زرع حالة من الشك والريبة والفوضى في صفوف الحزب: حاولت إسرائيل عبر تلك العملية ضرب معنويات عناصر حزب الله، وزرع حالة من الشك والريبة في صفوفه؛ فالتفجيرات جاءت من داخل الأجهزة التي يعتمد عليها عناصر الحزب ويحملونها؛ الأمر الذي تسبب في فوضى غير مسبوقة نتيجةً للمفاجأة من جانب، والكم الهائل من الإصابات التي نجمت عنها، والتي أدت إلى اكتظاظ المستشفيات، في ظل حاجة مئات الأشخاص إلى عمليات جراحية عاجلة.
4– استهداف البيئة الشعبية الحاضنة لحزب الله: تشير جميع المعطيات إلى أن انفجارات أجهزة الاتصالات لم تستهدف عناصر حزب الله فقط، سواء المنخرطة في الأعمال العسكرية أو المدنية، وإنما استهدفت البيئة الشعبية الحاضنة لتلك العناصر، سواء في جنوب لبنان أو الضاحية الجنوبية لبيروت أو منطقة البقاع؛ حيث تنتشر تلك العناصر بين المواطنين في البيوت والأسواق والمستشفيات، ولعل هذا ما يفسر سقوط عدد كبير من الضحايا والمصابين بينهم أطفال. وفي الرؤية الإسرائيلية، فإن من شأن استهداف البيئة الشعبية الحاضنة لعناصر حزب الله وزرع الفوضى واليأس بين صفوفهم، فرض المزيد من الضغوط على قيادات الحزب، بما يدفعها إلى إعادة النظر في مقاربتها تجاه التصعيد المتواصل منذ ما يقرب من 11 شهراً، وأن مواصلة التصعيد من شأنه أن يكلف الحزب فاتورة باهظة؛ ليس فقط في صفوفه وبين قياداته، بل داخل البيئة الحاضنة له أيضاً.
5– إرسال رسائل ردع إلى طهران والفصائل الموالية لها في المنطقة: حاولت إسرائيل، من خلال تفجيرات أجهزة النداء "البيجر"، إرسال رسالة ردع إلى خصومها في المنطقة، لا سيما ما يُعرَف بـ"محور المقاومة" الذي يضم إيران والعديد من الفصائل الموالية لها في لبنان والعراق وسوريا واليمن، مفادها أن تكلفة الذهاب إلى حرب شاملة قد تكون مكلفة جداً؛ ليس فقط على الجانب العسكري، وإنما أيضاً في القطاعات المدنية، وأنها لن تتردد في توظيف التفوق التكنولوجي والاستخباراتي في إحداث أكبر ضرر ممكن بخصومها، دون أن يفرض ذلك عليها ضغوطاً دولية يُمكن أن تُشكل رادعاً لها.
السيناريوهات المحتملة
سعت إسرائيل، عبر تلك العملية المركبة وغير المسبوقة، إلى تحقيق جملة من الأهداف كما سبق بيانه، تهدف في مجملها إلى ردع حزب الله وفك الارتباط بين الحزب والفصائل الفلسطينية، ووقف حرب الاستنزاف المستمرة منذ ما يقرب من عام على حدودها الشمالية دون حسم، تمهيداً لعودة نحو 100 ألف من النازحين الإسرائيليين إلى بلداتهم ومدنهم التي أصبحت شبه مهجرة في شمال البلاد وعلى الحدود مع لبنان؛ ما تسبب في خسائر اقتصادية فادحة في ظل إغلاق العديد من المرافق السياحية والفنادق، وتوقف الرحلات الجوية، وتعرض المناطق الزراعية في الشمال لأضرار كبيرة مع توقف العديد من المنشآت والشركات المحلية، فضلاً عن الخسائر في قطاع الطاقة. وفيما يلي يُمكن تناول أبرز السيناريوهات المحتملة للتصعيد عقب تفجيرات البيجر وأجهزة اللاسلكي التابعة لحزب الله:
1– سيناريو خفض التصعيد والوصول إلى تفاهمات مشتركة: يفترض هذا السيناريو أن الضربات القوية الأخيرة التي تعرض لها حزب الله اللبناني سوف تُشكل رادعاً للحزب عن مواصلة عملياته ضد إسرائيل، خشية التعرض للمزيد من الضربات القوية والاغتيالات في صفوف قياداته؛ ما يعني أن ثمن مشاركة الحزب فيما يُسميها "جبهة إسناد غزة" سوف تكون أكثر تكلفةً على الحزب وتماسُك بنيته العسكرية والتنظيمية من أي مكاسب متوقعة. ووفق هذا السيناريو فإنه يُمكن التوصل إلى تفاهمات مشتركة بين الطرفين تؤدي إلى وقف الضربات المتبادلة وعودة المهجرين إلى شمال إسرائيل، وفك الارتباط بين ملفَّي لبنان وغزة، وصولاً إلى تحقيق تسوية للأوضاع في الأخيرة وفق الشروط الإسرائيلية.
لكن من الواضح أن هذا السيناريو يواجهه الكثير من التحديات؛ أولها أن الضربات الأخيرة التي تلقاها حزب الله، بالرغم من قوتها وتأثيرها الكبير، لم تؤد إلى انهيار منظومة القيادة والسيطرة لدى الحزب، وثانيها أن الحزب لا يزال قادراً على إطلاق عشرات الصواريخ على المدن والبلدات في شمال إسرائيل، وثالثها أن قيادة حزب الله ربما ترى، وفق المعطيات الحالية، أن وقف "جبهة إسناد غزة" سوف يُعرضها لانتقادات لاذعة في الداخل، على اعتبار أن جهود عام كامل من القتال على الجبهة اللبنانية ذهب سدى.
2– اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله: يفترض هذا السيناريو أن الضربات القوية التي تلقاها ويتلقاها حزب الله، سوف تدفعه إلى الرد بقوة على إسرائيل بما يتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة بين الطرفين، كأن يتم استهداف العمق الإسرائيلي بصواريخ بعيدة المدى، أو اغتيال قيادات كبيرة في الجيش الإسرائيلي؛ الأمر الذي سيدفع تل أبيب إلى الرد بقوة في العمق اللبناني؛ ما يؤدي إلى اندلاع حرب شاملة بين الطرفين. ويُعزز من هذا السيناريو التصريحات الإسرائيلية المتواصلة بشأن اقتراب ساعة الصفر في الشمال، والحشود العسكرية الإسرائيلية المتزايدة على الحدود مع لبنان، في ظل تراجُع الضغط العسكري في جبهات غزة، لكن هذا السيناريو يواجَه هو الآخَر بعدة تحديات؛ أولها أن اندلاع حرب شاملة بين حزب الله وإسرائيل من شأنه أن يدفع باتجاه مواجهة إقليمية كبرى قد تؤدي إلى انخراط طهران بشكل مباشر في الحرب، وثانيها أن الإدارة الأمريكية من المتوقع أن تتدخل بقوة لمنع نشوب حرب إقليمية في هذا التوقيت؛ فهي آخر ما يفكر فيه الرئيس بايدن مع اقتراب موسم الانتخابات، وثالثها أنه على الرغم من التفوق العسكري الإسرائيلي والدعم الغربي المتوقع في هذه الحرب، فإن هناك شكوكاً في قدرة إسرائيل على حسمها، مع الضغوط الكبيرة التي يُعاني منها الجيش الإسرائيلي والتأثيرات الكبيرة للحرب على المجتمع الإسرائيلي الذي يُعاني بالفعل من تباطؤ الحكومة في إبرام صفقة مع حركة حماس.
3– استمرار الوضع الحالي مع تصاعُد وتيرة الاشتباكات: وفق هذا السيناريو فإن من المتوقع أن تستمر حالة التصعيد الراهنة بين الطرفين مع تصاعُد وتيرة الاشتباكات بينهما؛ أي الوصول إلى مرحلة وسط بين الحرب الشاملة والمواجهات التي شهدتها الجبهة طوال الشهور الماضية. ويُعزز من تلك الفرضية عدة أمور، أولها أن قواعد الاشتباكات السابقة بين الطرفين تكاد تكون سقطت بالكامل مع تفجيرات أجهزة الاتصالات التابعة لحزب الله، وثانيها أن حزب الله بات معنياً أكثر من أي وقت مضي بالرد على الضربات الإسرائيلية المتلاحقة التي نالت من الصورة الذهنية للحزب بشكل كبير، وثالثها أن حزب الله ومن خلفه إيران لا يزالان يُعوِّلان على مواصلة وإطالة "حرب الاستنزاف ضد إسرائيل"، وفي رؤيتهما أن تكلفة هذه الحرب باهظة على الداخل الإسرائيلي، فضلاً عن اعتبارها واحدة من أهم أوراق القوة التي يمتلكها المفاوضون الفلسطينيون، ورابعها أن نجاح العمليات والاغتيالات الأخيرة لإسرائيل في العمق اللبناني سوف يدفعها إلى زيادة وتيرة تلك العمليات خلال الفترة القادمة؛ أي ممارسة أقصى ضغوط عسكرية وأمنية على الحزب دون إعلان الحرب.
تصاعُد المواجهات
ختاماً، من المتوقع أن تواصل إسرائيل استهداف العمق اللبناني بقوة، واغتيال قيادات الصف الأول لدى حزب الله خلال الفترة القادمة، لكن من غير المتوقع أيضاً أن تؤدي الاندفاعة الإسرائيلية ضد دفع حزب الله إلى فك الارتباط مع الفصائل الفلسطينية أو تهدئة المواجهات المستمرة منذ شهور على طول الجبهة، والأرجح أن الحزب سيسعى إلى امتصاص تلك الضربات ومحاولة رفع تكلفتها لدى الجانب الإسرائيلي، مع سقوط كافة قواعد الاشتباك والخطوط الحمراء بين الجانبين؛ الأمر الذي يجعل سيناريو المواجهة الشاملة أقرب من أي وقت مضى، حتى إن حاول الجميع تجنُّبها.
جميع الحقوق محفوظة لموقع إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية 2023