اختفاء "المقاتلة":

مع تزايد الطلب العالمي على الأسلحة الأمريكية، على خلفية الحرب الروسية–الأوكرانية، تكشفت جملة من التحديات والأزمات التي تُقوِّض التسلح الأمريكي، وبخاصة في ظل الأعطال الفنية التي تتعرَّض لها بعض منظومات التسلح، وعدم جاهزية القاعدة الصناعية الأمريكية لخوض أي منافسة محتملة مع الصين، وصعوبة تعويض المخزون الاستراتيجي من الذخائر، وارتفاع التكلفة المادية اللازمة لعلميات الصيانة والبحث والتطوير، واضطراب سلاسل الإمداد العالمية. وربما كان حادث فقدان الجيش الأمريكي مقاتلة "إف 35" بالقرب من تشارلستون بولاية ساوث كارولينا في شهر سبتمبر الماضي، الحادث الأبرز الذي يعبر عن الإشكالات التي باتت الأسلحة الأمريكية تعاني منها.


مؤشرات بارزة

تتعدد التحديات التي تواجه الصناعات الدفاعية الأمريكية على اختلاف قاعدتها الصناعية، وهي التحديات التي يمكن الوقوف على أبرز ملامحها من خلال النقاط التالية:


1– اختفاء المقاتلة الأكثر تقدماً في العالم: فقدَ الجيش الأمريكي إحدى مقاتلاته "إف 35" بالقرب من تشارلستون بولاية ساوث كارولينا، بعد أن قفز قائدها بالمظلة، واختفت من الرادار وانقطع الاتصال بها. وقد طلبت القوات الجوية من العامة المشارَكة في البحث عن المقاتلة، وسط تساؤلات عدة حول أسباب وكيفية فقدانها على الرغم من العثور على حطامها فيما بعد، وبخاصة في ظل ارتفاع تكلفة إنتاجها، التي تُقدَّر بما يقرب من 100 مليون دولار.


فقد أثار عجز الولايات المتحدة عن تتبُّع المقاتلة التي اختفت في ظروف غامضة، تساؤلات عن جدوى إنتاجها، ولا سيما أن برنامج تطوير وإنتاج ذلك النوع من الطائرات المقاتلة يُكلِّف دافعي الضرائب ما يقرب من 1.7 تريليون دولار ما دامت في الخدمة؛ إذ يعد ذلك البرنامج من أكثر برامج الأسلحة تكلفةً في تاريخ الولايات المتحدة.


ومع تزايد الإنفاق العسكري الأمريكي من ناحية، وتزايد القوة القتالية الأمريكية من ناحية ثانية، فإن تلك الواقعة أثارت دهشة عدد واسع من المحللين العسكريين، ولا سيما أن "المقاتلة الشبح" قادرة على الاختفاء من أجهزة الرادار المعادية، بل التواصل مع بقية وحدات الجيش إلكترونياً، بجانب مشاركة بياناتها مع الوحدات البرية والبحرية والجوية عبر الأقمار الصناعية، بيد أنها فشلت في منح الوحدات بيانات موقعها قبل تحطُّمها.


2– عجز القاعدة الصناعية الدفاعية عن خوض حروب كبرى: دفع "سيث جونز" في مقاله المعنون بـ"القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية ليست مستعدة لصراع محتمل مع الصين"، المنشور على الموقع الإلكتروني لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية؛ بأن المخزون الاستراتيجي الأمريكي المتاح حالياً لدى وزارة الدفاع لن يُجدِي نفعاً إن خاضت الولايات المتحدة صراعاً إقليمياً واسعاً على شاكلة الحرب الأمريكية–الصينية في خليج تايوان. فمن شأن ذلك الصراع أن يسفر عن استنزاف بعض الذخائر الأمريكية، مثل الذخائر البعيدة المدى، والذخائر الموجهة بدقة في أقل من أسبوع واحد.


ومن شأن تعدد أوجه القصور في الصناعات العسكرية الأمريكية، أن يَزِيد من صعوبة خوض صراع طويل الأمد، ولا سيما أن معدل حصول الصين على أنظمة ومعدات الأسلحة المتطورة يفوق مثيله الأمريكي بخمس أو ست مرات. ويرى الكاتب أن هناك على الأقل ثلاثة تطورات فاقمت تحديات القاعدة الصناعية الأمريكية وقدرتها على ردع الصين سوءاً؛ أولها المحاكاة والمناورات الحربية الأمريكية التي تشير إلى احتمالية نفاد الصواريخ المضادة للسفن، وتحديداً الصواريخ الطويلة المدى، خلال الأسبوع الأول من الصراع المحتمل (على الرغم من أهميتها بالنظر إلى قدرتها على ضرب القوات البحرية الصينية خارج نطاق الدفاعات الجوية الصينية)؛ الأمر الذي خلق إشكالية حرجة سمَّاها الكاتب "الصناديق الفارغة". وثانيها أن الدفاعات الصينية قد تتمكن من منع معظم الطائرات الأمريكية من التحرك بالقرب الكافي لإسقاط الذخائر القصيرة المدى. وثالثها طول الأمد اللازم لإنتاج صاروخ طويل المدى مضاد للسفن، وهو الأمد الذي يستغرق قرابة عامين؛ ما يخلق فارقاً زمنياً لسد النقص.


3– تقلص الحضور الأمريكي في سوق تصدير الطائرات المقاتلة: بجانب أعطالها التقنية، تتعدد المؤشرات الدالة على تراجع سيطرة الولايات المتحدة على سوق الطائرات النفاثة؛ فقد دفع "ريتشارد أبو العافية" (المدير الإداري في شركة الاستشارات الديناميكية "إيرودايناميكس آدفايسري" الأمريكية) في مقاله المنشور في مجلة "فورين بوليسي"، بأن سوق الطائرات المقاتلة قد دخلت عصر الأقطاب المتعددة، وأن الولايات المتحدة بحاجة إلى استراتيجية جديدة لمواجهة فقدان هيمنتها القديمة على تلك السوق.


فهناك اتجاه عالمي يقضي بعودة التصنيع الوطني للطائرات المقاتلة. ومن الأمثلة البارزة في هذا الإطار، الشراكة الأمريكية–الهندية التي ستقوم بموجبها شركة "جنرال إلكتريك" الأمريكية بتصنيع محركات نفاثة مع إحدى الشركات الهندية في نيودلهي. ووفقاً للكاتب، لا يمكن للولايات المتحدة تجاهل حقيقة التغيرات المتسارعة في سوق المقاتلات في ظل رغبة بعض الدول التي تقل قدراتها بكثير عن قدرات الولايات المتحدة، وبشدة في الانخراط في عمليات التصنيع، وهو ما يُقلِّص حصة الصناعة الأمريكية في السوق تدريجياً؛ فإن استخدمت واشنطن دورها القيادي التقليدي وعلاقاتها في سوق تصدير الأسلحة العالمية، فسيمكنها البناء على تلك العلاقات والاحتفاظ بزمام القيادة في سوق الطائرات المقاتلة عالمياً.


4– نقص المواد الخام اللازمة للإنتاج العسكري: واجهت شركات الأسلحة الأمريكية صعوبات على صعيد الحصول على المواد الخام والمكونات الأولية اللازمة لها، وهو ما أرجعه معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إلى جملة من الأسباب؛ يأتي في مقدمتها الدور الحيوي الذي تلعبه روسيا في مجال توريد المواد الخام المستخدمة في التسليح والإنتاج العسكري؛ ما قد يُقوِّض قدرة الولايات المتحدة على تعزيز صناعتها العسكرية وتجديد مخزونها العسكري.


ويتصل بذلك أزمات سلاسل التوريد العالمية التي حذر منها – على سبيل المثال – القائد الأعلى السابق لحلف شمال الأطلسي "جيمس ستافريديس" بالقول إن الولايات المتحدة تعاني من نقص في الذخائر والمكونات الإلكترونية والأسلحة الموجهة بدقة، وهو ما يتفاقم سوءاً مع كل هجوم مضاد تسعى أوكرانيا إلى شنه.


ففي الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة الأمريكية بنقل كميات هائلة من الأسلحة والذخائر والإمدادات إلى أوكرانيا، تُثَار التساؤلات عن المخزون الأمريكي واحتمالية نفاده، والوقت اللازم لإعادة بنائه، والبدائل المتاحة. وقد دفع "ستافريديس" في مقال له على موقع "بلومبرج"، بأن العالم على حافة الإفلاس من الذخيرة، كما حذر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية من أن أوكرانيا قد تواجه نقصاً حاداً في الذخيرة، ما لم تستثمر الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية في إنتاج جديد لمواجهة الانخفاض المطرد بالمخزون، وبخاصة مع تحول الحرب إلى حرب استنزاف طاحنة.


5– احتدام المنافسة الدولية في سوق التسلح: على الرغم من نمو مبيعات الأسلحة الأمريكية في عام 2021، ظلَّت تلك المبيعات محدودة نسبياً بسبب مشكلات العرض العالمية المتعلقة بجائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد–19) إلى أن تزايد الطلب العالمي على الأسلحة بسبب الحرب الروسية–الأوكرانية؛ ففي عام 2021، باعت أكبر 100 شركة عدداً من الأسلحة والمعدات قُدِّرت قيمتها بنحو 592 مليار دولار بزيادة 1.9% عن العام السابق؛ وذلك وفقاً لمعهد "ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام". ووفقاً للمعهد نفسه، فإن الاضطرابات الناجمة عن نقص العمالة وصعوبة الحصول على المواد الخام تُبطئ قدرة الشركات الأمريكية على إنتاج أنظمة الأسلحة وتسليمها في الوقت المحدد، لتشهد تلك الصناعة تباطؤاً عالمياً، لا سيما أن روسيا مورد رئيسي للمواد الخام المستخدَمة في إنتاج الأسلحة.


فقد هيمنت الشركات العسكرية الأمريكية على إنتاج الأسلحة عالمياً بعد أن وصلت مبيعاتها العالمية إلى 299 مليار دولار، بيد أن الشركات الأمريكية كانت هي الشركات الوحيدة التي شهدت انخفاضاً في مبيعاتها بنسبة 0.9% في عام 2023 بالمقارنة بالعام السابق؛ فمن بين الشركات الخمس الكبرى ("لوكهيد مارتن"، و"رايثيون تكنولوجيز"، و"بوينج"، و"نورثروب جرومان"، و"جنرال ديناميكس")، سجَّلت "رايثيون" فقط زيادة في مبيعاتها. وفي الوقت نفسه، ارتفعت مبيعات أكبر ثماني شركات أسلحة صينية إلى 109 مليارات دولار بنسبة 6.3% في عام 2021. واحتلت الشركات الأوروبية 27 مركزاً ضمن أفضل 100 شركة بمبيعات مجمعة بلغت 123 مليار دولار بزيادة 4.2% مقارنةً بعام 2020.


عوامل مُفسرة

يمكن تفسير أهم التحديات التي تُجابِه التصنيع العسكري الأمريكي بوجه عام بالنظر إلى جملة من النقاط يمكن الوقوف على أبرزها على النحو التالي:


1– التأخر المستمر في صيانة طائرات الجيل الخامس: عقب أيام قليلة من واقعة تحطُّم المقاتلة الأمريكية في ريف ولاية كارولينا الجنوبية، سلَّط تقرير جديد صادر عن مكتب المحاسبة الحكومية (GAO) الضوء على التأخير المستمر في صيانة طائرات الجيل الخامس؛ بسبب نقص بعض الأجزاء الفنية، فضلاً عن التدريب غير الكافي للمشرفين على ذلك النوع من المقاتلات التي يُفترَض أن تؤدي المهام المرجوة منها بنسبة 70%، وهي النسبة التي حدَّدتها القوات الجوية الأمريكية لمقاتلاتها من طراز (F–35)، بيد أن تلك المقاتلات، لا سيما المقاتلة (F–35 Joint Strike Fighter) لا يمكنها تنفيذ المهمات المطلوبة إلا بنسبة 55% فقط.


وفي العقود المقبلة، تخطط وزارة الدفاع لإنفاق ما يُقدَّر بنحو 1.7 تريليون دولار على ما يقرب من 2500 طائرة من طراز (F–35)، بيد أن التقرير أشار إلى أن معظم تلك المبالغ ستذهب إلى تشغيل وصيانة وإصلاح الطائرات، كما أشار البنتاجون إلى تعدد مشكلات الصيانة في المقاتلة (Lightning II)، بما في ذلك التأخير في إنشاء مستودعات الخدمة العسكرية، وتعدُّد الإصلاحات المعقدة الواجب إجراؤها في المرافق، وعدم كفاية المعدات اللازمة للحفاظ على تشغيل أسطول طائرات (F–35)، لا سيما مع تأخر الصيانة ونقص الإمدادات على نحو يُؤثِّر في جاهزيتها.


2– تغير طبيعة الخصوم الاستراتيجيين: عقب سنوات ممتدة من خوض حرب غير متكافئة ضد التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها تنظيم القاعدة؛ أوقفت الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية إنتاج بعض الأسلحة التقليدية، وانصبَّ تركيزها على تطوير أسلحة دقيقة عالية التقنية؛ حيث تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية بدرجة كبيرة على الشركات الخاصة لإنتاج الأسلحة، وفي بعض الحالات التي تراجع فيها الطلب على بعض الأسلحة أو الذخائر، فإن الشركات المنتجة أغلقت بعض خطوط الإنتاج التي تزايدت أهميتها عقب الحرب الروسية–الأوكرانية التي استلزمت تكثيف الإنتاج العسكري الأمريكي.


ويتسق ذلك مع ما أشار إليه "جيك سوليفان" (مستشار الأمن القومي) من أن الحرب الروسية–الأوكرانية قد كشفت عن أوجه القصور في القاعدة الصناعية العسكرية، التي تحتاج إلى معالجة لضمان قدرة الولايات المتحدة على دعم أوكرانيا من ناحية، والتعامل مع حالات الطوارئ في أماكن أخرى من العالم، لا سيما مع طول الأمد اللازم لإعادة التخزين والتجديد من ناحية ثانية.


3– الافتقار إلى التنسيق المشترك: أشار وزير الدفاع الأمريكي "لويد أوستن" إلى ضرورة استدامة الدعم اللازم لأنظمة تكنولوجيا المعلومات المستخدمة في عدد من أنظمة التسلح الأمريكية، بالتعاون بين مختلف القيادات العسكرية، وهو ما يتطلب تقاسم المسؤوليات بين وزارة الدفاع وشركة "لوكهيد مارتن" وغيرها من شركات التسلح الأمريكية، كما دعا إلى إعادة تقييم أي تغيرات محتملة على البحرية والقوات الجوية الأمريكية للاضطلاع بمهام القيادة والمسؤولية والإشراف على أنشطة الاستدامة، بجانب الوقوف على ماهية حقوق الملكية الفكرية ذات الصلة بالبيانات الفنية المهمة، والتكاليف المرتبطة بها، والمراحل الرئيسية للحصول على البيانات، وكذا الموارد المطلوب توافرُها كي تتمكن القوات البحرية والجوية من تنفيذ التطوير المطلوب.


ولا شك أن تلك التوجيهات إنما تسلط الضوء على بعض مواطن الخلل في أنظمة التسلح الأمريكية على اختلاف المعوقات المادية وغير المادية التي تُواجِهها، والتي تتطلب مجابهتُها تضافرَ الجهود بين مختلف أفرع وزارة الدفاع الأمريكية، وتخصيص مزيد من الموارد المالية للتغلب على الأعطال المحتملة.


4– تزايد التكلفة الاقتصادية للتصنيع: تتطلَّب مجابهةُ التحديات التي تواجه التسلح الأمريكي زيادةَ مخصصات وزارة الدفاع الأمريكية، بل تخصيصَ مزيد من المنح الداعمة للتصنيع الدفاعي في صورة استثمارات طويلة الأجل في المهارات الحيوية والمرافق والقوى العاملة والبحث والتطوير لتعزيز الابتكار وتوفير الدعم اللازم للمقاتلين الحربيين انطلاقاً من قاعدة تصنيع مرنة وقوية.


وإدراكاً لأهمية ذلك، وافقت وزارة الدفاع على مِنَح بقيمة 30 مليون دولار في إطار برنامج دعم مجتمع التصنيع الدفاعي في 25 سبتمبر 2023، وهو البرنامج الذي يهدف في المقام الأول إلى تعزيز الشراكة بين القطاعَين العام والخاص من ناحية، ودعم مجتمع التصنيع الدفاعي من ناحية ثانية، والتركيز على القطاعات الدفاعية الحيوية؛ بدءاً بتخزين البطاريات والطاقة، وصولاً إلى الإلكترونيات الدقيقة من ناحية ثالثة.


ختاماً، فإن عدم قدرة الشركات العسكرية الأمريكية على تجديد الأسلحة بسرعة، مثل الصواريخ والذخائر وتعويض النقص من مخزونها الاستراتيجي؛ أثار التساؤلات عن مدى استعداد الولايات المتحدة لخوض أي صراع مُحتمَل في إطار منافسات القوى الكبرى. وفي الوقت الذي تستعد فيه الولايات المتحدة لمجابهة ذلك الصراع المحتمل، فإنها تسعى في الوقت نفسه، إلى ضمان استمرارية الدعم العسكري لأوكرانيا من ناحية، ومجابهة التحديات التي تُواجِه التسلح الأمريكي من ناحية ثانية، وتنويع مصادر التوريد بالتوازي مع دفع الحلفاء الأوروبيين لزيادة إنفاقهم الدفاعي من ناحية ثالثة.