في الوقت الذي أكدت فيه الدوائر الرسمية في الدول الأوروبية الرئيسية – وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا وألمانيا – دعمها الكامل لإسرائيل، ووصفت فيه حركةَ حماس بـ"الإرهابية"، فإن المستوى الشعبي والدوائر السياسية بدت مواقفهم أكثر تبايناً. وفي حقيقة الأمر، فإن هذا التباين لم يقتصر على ممثلي الحكومات من جانب، والحركات الشعبية والفئوية من جانب آخر، بل امتد كذلك إلى الاتحاد الأوروبي بصفته منظمةً، وإلى آراء الدول الأعضاء من حيث طرق التدخل في الأزمة، وكيفية التأثير في الوضع الميداني. في السياق ذاته، لا يمكن اعتبار مواقف الدول الأوروبية وليدة مرتكزاتها المستقرة في السياسة الخارجية فقط، بل مدفوعة بتخوف أيضاً من أن تؤدي الحرب بين إسرائيل وحماس إلى موجة عدم استقرار داخلي في أوروبا قد لا تستطيع الحكومات السيطرة عليها.
اضطرابات داخلية
توجد عدة مظاهر لمهددات الأمن والاستقرار في عدد من الدول الأوروبية من جراء الصراع الدائر في غزة، وهي مؤشرات لدرجة تأثير الصراع المشار إليه على الداخل الأوروبي. وفيما يلي أهم هذه المظاهر:
1– تظاهرات متفرقة في أنحاء أوروبا: على إثر الحرب بين إسرائيل وحماس، اندلع عدد من التظاهرات في مجموعة من الدول الأوروبية المحورية، في أول إشارة إلى تصدير الأزمة للداخل الأوروبي؛ فبين مؤيد ومعارض لإسرائيل، تباينت ردود فعل أجهزة الشرطة إزاء هذه التظاهرات وفقاً لتقدير درجة حساسية الموقف، ونسبة المكونين العربي واليهودي في التعداد السكاني لهذه الدول.
ففي فرنسا، استخدمت الشرطة الفرنسية الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق مسيرة "محظورة" لدعم الشعب الفلسطيني في باريس يوم 12 أكتوبر 2023، في حين حث الرئيس إيمانويل ماكرون الفرنسيين على البقاء متحدين، كما حذر وزيرُ الداخلية الفرنسي من احتمالية أن تؤدي هذه الاضطرابات إلى خلل في النظام العام. هذا وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا تُعَد موطناً لأكبر جاليات إسلامية ويهودية في أوروبا.
أما في ألمانيا، فقد شهدت الساحة الرئيسية في وسط برلين تظاهرات حاشدة لتأييد إسرائيل، بينما منعت الشرطة الألمانية في برلين أيَّ تظاهرات مؤيدة لفلسطين، كما شهدت عواصم مثل دبلن وستوكهولم تظاهرات مؤيدة لكلا الجانبين، ولكن دون قمع شرطي يُذكَر لأيٍّ منها.
2– تشديد الإجراءات الأمنية في مناطق مختلفة: من مظاهر عدم الاستقرار أيضاً في العواصم الأوروبية، قيامها بتشديد الإجراءات الأمنية حول بعض المباني التي تُعبِّر عن فئات معينة، في إشارةٍ إلى تخوُّف أوروبي من اندلاع أعمال عنف إزاء اليهود أو العرب؛ ففي وارسو، قامت الشرطة البولندية بتشديد الإجراءات الأمنية على مقر معبد يهودي كان مقرراً أن يُقيم فيه مايكل شودريتش – وهو أحد أكبر الحاخامات البولنديين – تجمُّعاً لليهود.
كما طبَّقت الشرطة الفرنسية الإجراءات نفسها على أكبر جمعية يهودية في باريس. أما في هولندا، فقد أُغلِقت المدارس اليهودية لأسباب تتعلَّق بالسلامة، وكذلك أُغلِقت مدرستان يهوديتان في لندن عاصمة بريطانيا، كما نشرت الشرطةُ فيها آلافَ الضباط لتسيير دوريات إضافية، وللتمركز حول المدارس والمعابد اليهودية والمساجد.
3– تزايد الانقسامات الحزبية في الدول الأوروبية: لم يقتصر أثر الصراع بين إسرائيل وحماس على المستوى الشعبي في الدول الأوروبية، بل امتد إلى المشهد السياسي والتوازنات الحزبية في هذه الدول، بالطريقة التي أحدثت تغييرات عميقة فيه؛ ففي فرنسا، أدى رفض حزب "فرنسا الأبية" اليساري توصيف هجمات حماس بالإرهابية إلى تعميق الشرخ في كتلة اليسار، وولَّد إرهاصات بحل تحالف الأحزاب اليسارية المعروف باسم (Les Nupes)، فضلاً عن استهداف الحزب ورئيسه "ميلونشون" في جلسات الجمعية الوطنية من الأحزاب الأخرى بشكل وصل إلى الاتهام بالخيانة.
وفي إسبانيا، شنَّت الأحزاب اليسارية حملة شعواء على إسرائيل واتهمتها بارتكاب جرائم حرب؛ وذلك إلى الدرجة التي طرح فيها الائتلاف الحاكم فكرة استدعاء السفير الإسرائيلي، وهي التحركات التي أفرزت انقساماً واسعاً في الحياة الحزبية بإسبانيا.
أما في بريطانيا، فقد واجهت "حملة التضامن مع فلسطين" – وهي حركة يسارية فرعية – إجراءات تقييدية من حزب العمال البريطاني نفسه؛ وذلك في ظل استخدامها مصطلحات مثل التمييز العنصري وجريمة الحرب عند التطرق إلى ممارسات إسرائيل في غزة، وهو ما ينبئ بانقسامات متنامية داخل تيار اليسار في بريطانيا.
4– نقل الصراع إلى داخل الدول الأوروبية: ربما تشهد الفترة القادمة محاولات لنقل معطيات الصراع بين إسرائيل وحماس إلى داخل الدول الأوروبية؛ وذلك باستهداف المصالح الإسرائيلية هناك، وقد ظهرت مؤشرات ذلك الأمر خلال الأيام الماضية؛ فعلى سبيل المثال، تعرَّض محيط السفارة الإسرائيلية في قبرص إلى تفجير يوم 20 أكتوبر 2023؛ حيث وقع الانفجار على بُعد نحو 30 متراً من السفارة الإسرائيلية في نيقوسيا دون أن يتسبب في أضرار أو إصابات. هذا وقد ألقت الشرطة القبض على 4 أشخاص مشتبه بهم في الحادث.
5– تنامي معدلات الجرائم ذات الدوافع الدينية: ربما تدفع تطورات الحرب بين إسرائيل وحماس نحو تزايد معدلات الجرائم ذات الدوافع الدينية، وخاصةً مع الاعتقاد الشائع بأن هناك دعماً مطلقاً من جانب الدول الغربية لإسرائيل. لقد ظهرت مؤشرات ذلك الأمر مع الإبلاغ عن حوادث ضد المؤسسات اليهودية في ألمانيا منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023؛ حيث تم استهداف معبد يهودي في برلين بقنابل المولوتوف يوم 18 أكتوبر 2023. وتكرَّر ذلك النمط في حالة فرنسا مع الحادث الذي وقع في 13 أكتوبر 2023 بمدينة أراس؛ حيث قام شاب من الجنسية الروسية يدعى محمد موغوشكوف بقتل مدرس لغة يدعى دومينيك برنار طعناً بسكين بعد هجومه على مدرسة للتعليم الثانوي. ولقد أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانين مباشرةً بعد الحادث عن وجود صلة بين ما يحدث في الشرق الأوسط وبين هذا الهجوم.
6– التخوف من موجة جديدة من الإرهاب: تثير الحرب الراهنة بين حماس وإسرائيل مخاوف هائلة داخل الدول الأوروبية من إمكانية التعرُّض لموجة جديدة من الإرهاب، وخاصةً أن التنظيمات الإرهابية، مثل داعش والقاعدة، وظَّفت الحرب لتأكيد خطاب المظلومية تجاه الغرب، والدعوة إلى التحرك ضد القوى الدولية الداعمة لإسرائيل. لقد ظهرت مخاوف الدول الأوروبية من الإرهاب في الأيام الماضية مع إخلاء عدد من المطارات الفرنسية بعد تلقِّيها عبر البريد الإلكتروني "تهديدات باعتداءات"، والاشتباه في "وجود متفجرات"، كما تم إغلاق قصر فرساي خلال الأيام الماضية أكثر من مرة على خلفية تهديدات مجهولة بوجود قنبلة.
7– توقعٌ بتنامي التهديدات الأمنية التقليدية في أوروبا: لطالما كانت مشكلة الهجرة والنزوح من التحديات التقليدية للقارة الأوروبية، في ظل موقعها القريب من مناطق التوتر والأزمات في الشرق الأوسط. وقد صرَّح شارل ميشيل رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي بأن "التوتر في غزة من شأنه إذكاء موجة جديدة من النزوح الجماعي التي لن تسلم منها القارة الأوروبية". هذا وتشير عدد من التقديرات إلى أن مصر لن تكون هي فقط المتأثرة بأي عملية تهجير جماعي للفلسطينيين، بل بعض الدول الأوروبية أيضاً التي سيكون عليها ضغوط سياسية والتزامات أخلاقية باستقبال أعداد كبيرة من هؤلاء النازحين، في ظل ضخامة العبء المادي والأمني لاستقبالهم، وما يصاحب ذلك أيضاً من تزايد مخاطر الإرهاب في القارة الأوروبية.
8– الضغط نحو مراجعات تشريعية وتنفيذية: في ظل ارتفاع حدة التوتر الشعبي في بعض الدول الأوروبية وتوقُّعات باندلاع مواجهات بين الجاليات أو المواطنين اليهود والعرب، فإن من المتوقع أن تلجأ بعض الدول إلى إعادة مراجعة القوانين واللوائح ذات الصلة بـ"معاداة السامية" و"حماية الأقليات" و"العنصرية"؛ وهذا بهدف تشديدها على الأرجح؛ وذلك في ظل ميل حكومات الدول الأوروبية الرئيسية إلى دعم إسرائيل. هذا وقد بدأت هذه الإرهاصات تظهر في البرلمانين الفرنسي والبريطاني عن طريق تقديم بعض النواب مقترحات لتعديل قوانين معاداة السامية بهدف توفير حماية أكبر لليهود وأماكن تجمعاتهم ودور عبادتهم.
9– زيادة الأعباء المالية: لن تقتصر توقعات زيادة الأعباء المالية على الحكومات الأوروبية من جراء هذه الأزمة على زيادة مخصصات الأمن الداخلي والأصول الشرطية، بل من المرتقب أيضاً أن تمتد هذه الأعباء لزيادة الالتزام بضخ مبالغ إضافية للمساعدات لوكالة أونروا وللشعب الفلسطيني؛ فعقب إعلان المفوضية الأوروبية خلال الأيام الأولى للصراع عن تعليق المساعدات للفلسطينيين، تراجعت المفوضية عن هذا القرار، بل تعهدت بزيادة المساعدات الإنسانية عند سماح الوضع الميداني بإيصال المساعدات إلى غزة، وهو ما يضع أعباء إضافية على الميزانيات الوطنية للدول.
10– احتمالية تزايد الضغوط الأمريكية على أوروبا: بالرغم من تقارب المواقف ظاهرياً بين واشنطن والعواصم الأوروبية، فإن الولايات المتحدة لطالما مارست ضغوطاً على العواصم الأوروبية الرئيسية لدعم أوكرانيا بقدر أكبر؛ لكيلا تتحمَّل فاتورة الحرب وحدها. وكذلك الأمر في الصراع الحالي، شأنه شأن الأزمة الأوكرانية؛ فإن من المتوقع أن تُواصِل واشنطن اتصالاتها وضغوطها، خاصةً مع باريس ولندن وبرلين، لزيادة الدعم المادي لإسرائيل، وعدم الاكتفاء بالتصريحات السياسية الداعمة فقط.
11– تفاقم معضلة المجتمعات المهمشة في أوروبا: لطالما كانت معضلة المجتمعات المهمشة في أوروبا واحدة من القضايا المؤرقة للدول الأوروبية، وخاصةً أن هذه المجتمعات، مع شعورها الدائم بالمظلومية وعدم الاحترام، كانت تمثل واحدة من عوامل التهديد الرئيسية للدول الأوروبية. وفي هذا الصدد، قد تدفع الحرب بين إسرائيل وحماس نحو تفاقم معضلة المجتمعات المهمشة، وخاصةً من ينتمون إلى القادمين من الشرق الأوسط، في ظل الدعم الغربي غير المحدود لإسرائيل، والتضييق الأوروبي الرسمي على الخطاب الداعم لفلسطين.
12– إتاحة مجال أكبر لروسيا في أوكرانيا: على مدار أكثر من عام ونصف شغلت الحرب الروسية الأوكرانية الرأي العام العالمي، وأدَّت إلى تبعات استراتيجية واقتصادية مؤثرة على العالم بأسره. وفي ظل تحوُّل الأنظار نحو الشرق الأوسط، بدأ الاهتمام بالصراع الروسي الأوكراني يخفت قليلاً باعتباره بؤرة الاهتمام المركزية، وهو ما ولَّد مخاوف من أن هذا التشتيت ربما يفسح المجال لروسيا لتعزيز وضعها في الحرب مع أوكرانيا، وإزاء دول أوروبا الغربية بالتبعية. هذا ومن المرتقب أن تؤدي هذه التحولات إلى مزيد من الضغوط على النخب الحاكمة الأوروبية لإنهاء أحد الصراعين على أقل تقدير في أسرع وقت.
تأثيرات بعيدة
الخلاصة: لا تنحصر تبعات الصراع بين حماس وإسرائيل على منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل تمتد بدرجات متفاوتة إلى عدد من الدول الأوروبية أيضاً، وبالأخص العواصم الكبرى الثلاث، أخذاً في الاعتبار وجود مكون إسرائيلي–عربي مُعتبَر في تركيبتها السكانية، فضلاً عن ارتباطها التاريخي بالصراع العربي الإسرائيلي. وقد أوضح العرض السابق أن الصراع في غزة يمس بشكل مباشر الأمن والاستقرار في هذه الدول الأوروبية على عدد من المستويات، كما تُظهِر التداعيات المحتملة لهذا الصراع احتمالات تأثر السياسة الداخلية والخارجية لهذه الدول تأثُّرًا قد يضعها في موضع الضاغط أو المضغوط عليه إزاء الولايات المتحدة.