استقطابات الصراع:

على مدار عقود عدة، ترسخ معتقد لدى متابعي الشأن الأمريكي بأن سياسة واشنطن الخارجية، وإن تغير نمط تعاملها مع الأزمات الخارجية بتغير الحزب الحاكم أو بتبدل الظروف، تبقى ثابتة ومتسقة حينما يتعلق الأمر بدعم إسرائيل وضمان تفوقها النوعي في محيطها الإقليمي. وإن كان هذا الافتراض قد وجد أرضاً صلبة على مدار الحروب والأزمات التي تعرضت لها إسرائيل منذ عام 1948، إلا أن الصراع الحالي بين إسرائيل وحماس في غزة قد أوضح أن التأييد الأمريكي المطلق لإسرائيل سياسياً وعسكرياً من الناحية الظاهرية، يخفي في طياته قدراً معتبراً من الاضطراب المؤسسي الداخلي في الولايات المتحدة، وهو الاضطراب الذي قد يأخذ شكل الانقسام أو المراجعة أو حتى الغضب المكتوم.


في السياق ذاته، لا تعني أشكال هذه الانعكاسات – مادامت موجودة – أن هذا التأييد المعلن لا يضرب بجذوره في أوصال الدولة العميقة في الولايات المتحدة، ولكنه يعني أن الحرب الحالية استثنائية على مختلف الأصعدة، وأن مآلات تطورها لن تترك فقط جرحاً غائراً في مستقبل عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، بل ستخلف على التوازي أثراً عميقاً في الذاكرة المؤسسية الأمريكية.


محركات الاستياء

تأسست الانتقادات الموجهة للإدارة الأمريكية بشأن تفاعلها مع حرب غزة – التي شكلت الخلفية الأساسية للانقسامات السياسية التي ظهرت داخل المؤسسات المختلفة – على عدد من الأبعاد الرئيسية:


1- الانحياز المطلق للرؤية الإسرائيلية: فقد ظهر منذ بداية الحرب، عقب عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر 2023، أن الإدارة الأمريكية منحازة بصورة شبه مطلقة للرؤية والرواية الإسرائيلية للأحداث، وهذا الانحياز أفضى في بعض الأحيان إلى إحراج للإدارة الأمريكية. ظهر ذلك مثلاً مع ترديد الرئيس "بايدن" مقولات وتقارير إسرائيلية حول "قتل حركة حماس أطفالاً وقطعها رؤوسهم"، وهي الصور التي ظهر فيما بعد أنها غير صحيحة.


2- تهديد الصورة الأخلاقية لواشنطن: يدفع الفريق الناقد لموقف إدارة "بايدن" الداعم بصورة مطلقة لإسرائيل بأن هذا الدعم المتواصل ينعكس بالسلب على الصورة الأخلاقية لواشنطن على الساحة العالمية؛ لأنها تظهر في الوقت الراهن بصورة الدولة التي تؤيد مواصلة الحرب؛ وذلك بالرغم من التكلفة البشرية الهائلة لهذه الحرب بالنسبة إلى الفلسطينيين في قطاع غزة، في ظل استمرار القصف الإسرائيلي "الواسع النطاق، وغير التمييزي، ضد المدنيين في القطاع". ولا يخفي هذا الفريق اعتقاده بأن ما يحدث يفيد خصوم واشنطن، وعلى وجه التحديد الصين وروسيا، للترويج لخطاب مناهض للولايات المتحدة.


3- تزايد الجدل بشأن التمويل الأمريكي لإسرائيل: لم تكد تمر أيام قليلة على بداية الصراع بين إسرائيل وحماس حتى أعلنت واشنطن إرسال كل ما تحتاج إليه إسرائيل في عمليتها العسكرية، كما أقر مجلس النواب في شهر نوفمبر الجاري حزمة مساعدات بقيمة 14 مليار دولار لإسرائيل؛ وذلك بعد طلب من إدارة بايدن. هذا الدعم الواسع دفع بعض النشطاء الأمريكيين على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى انتقاد سياسة بايدن، وكيف يتم استخدام أموال الضرائب التي يدفعها المواطنون الأمريكيون من أجل دعم حرب في الشرق الأوسط، كما طالبوا الإدارة بالتوقف عن ذلك الأمر وتوجيه هذه الأموال لصالح الشعب الأمريكي "وتحسين خدمات الرعاية الصحية والتعليم".


4- ربط الدعم لإسرائيل بملف الانتخابات الأمريكية: حاول الفريق الرافض لدعم إدارة "بايدن" لإسرائيل في حربها في غزة تأطير هذا الدعم بحسابات السياسة، ورغبة "بايدن" في الحصول على دعم المجموعات اليهودية خلال الانتخابات الرئاسية القادمة، وبطبيعة الحال ينطوي هذا الأمر – من وجهة نظر هذا الاتجاه – على وصف للإدارة بالبرجماتية والتغاضي عن الجوانب الإنسانية والأخلاقية في قرارات السياسة الخارجية.


أزمات واسعة

شكلت الأبعاد السابقة مدخلاً رئيسياً لتزايد الانقسامات على امتداد المشهد السياسي الأمريكي، وهو الأمر الذي يمكن تناوله على النحو التالي:


1- انقسامات في الحزب الديمقراطي بشأن موقف "بايدن": تجلت الانقسامات الداخلية بوضوح في الحزب الديمقراطي الحاكم منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب؛ فقد انتقد خمسة نواب ديمقراطيون ينتمون إلى الجناح الليبرالي للحزب الديمقراطي الدعم العسكري الأمريكي الكبير لإسرائيل، وعلى رأسهم "إلهان عمر" و"رشيدة طليب" و"كوري بوش"، بل ذهب بعضهم إلى وصف الرئيس بايدن بأنه يدعم "الإبادة الجماعية" للفلسطينيين.


كما سلط بعض كوادر الحزب – مثل السيناتور كريس ميرفي – سهام نقده على إسرائيل واصفاً طريقة إدارتها للعمليات العسكرية بأنها تُخلف مستوى غير مقبول من الخسائر في أرواح المدنيين، كما تقدم 18 نائباً ديمقراطياً يوم 1 نوفمبر 2023 بمشروع قانون في مجلس النواب يدعو إلى "وقف إطلاق نار فوري"، وهو ما تعارضه الإدارة من منطلق أن وقف إطلاق النار سيخدم حماس.


2- تنافس داخل الحزب الجمهوري حول حدود مساندة إسرائيل: بخلاف الانقسام بين كوادر الحزب الديمقراطي الذي يتضمن تياراً هاماً مسانداً للفلسطينيين، فإن الانقسام في الحزب الجمهوري منبعه التنافس بين الوجوه المؤثرة لإظهار مغالاتها في مساندة إسرائيل؛ فعلى سبيل المثال صرح حاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتيس، بأنه لا ينبغي للولايات المتحدة أن تستقبل أي لاجئين فلسطينيين من غزة؛ لأنهم جميعهم "معادون للسامية".


أما نيكي هيلي سفيرة الولايات المتحدة السابقة لدى الأمم المتحدة، فقد رفضت تصريحات دي سانتيس استناداً إلى إمكانية الفصل بين "المدنيين" و"الإرهابيين" على حد تعبيرها، لكن بالطبع يفرض الوقت الحالي درجة حساسية تقضي بضرورة افتراض أسوأ السيناريوهات عند التعامل مع سكان قطاع غزة.


3- تجاذبات بين أقطاب الإدارة: بالرغم من أن الإدارة تتخذ موقفاً راسخاً بمساندة إسرائيل عسكرياً ومادياً، فإن مجموعة من المصادر رجحت وجود خلافات في وجهات النظر بين أقطاب الإدارة في كيفية التعامل مع تطورات الأزمة. هذا وتبني هذه الترجيحات قناعتها على منطق مفاده أن الإدارة الحالية لا تثق بـ"نتنياهو" وإن كانت لا تملك إلا دعمه؛ ولذلك كان "بريت ماكجورك" منسق الشرق الأوسط بمجلس الأمن القومي يدعم سياسة ممارسة الضغوط القصوى لإجلاء المواطنين الأمريكيين، بينما وزير الخارجية "بلينكن" والمبعوث الخاص للمسائل الإنسانية في الشرق الأوسط "ديفيد ساترفيلد" يقتنعان بأهمية التوصل إلى صفقة مع دول الجوار الجغرافي لضمان نفاذ المساعدات في مقابل السماح بإجلاء رعايا الدول الأجنبية، ومن بينهم المواطنون الأمريكيون.


4- تنامي الغضب داخل وزارة الخارجية: في 17 أكتوبر 2023 – أي بعد عشرة أيام من اندلاع الحرب – استقال مسؤول في وزارة الخارجية يُدعى جوش بول من وظيفته، ونشر خطاب الاستقالة على موقع LinkedIn. هذا وقد أعلن "بول" أنه سيستقيل لأنه اختلف مع ما فعلته الولايات المتحدة بالفعل لدعم إسرائيل، ولأنه يخشى مما سيحدث بعد ذلك على الأرجح.


وفي مقابل هذه الحالة، يتوقع عدد من المتابعين أن يكون "بول" واجهة لحالة غضب كبيرة مستشرية داخل وزارة الخارجية الأمريكية؛ حيث وجدت العديد من الإدارات والأقسام نفسها منخرطة في صراع لم تكن لتتوقع مداه أو حجم الخسائر البشرية الناجم عنه. وبالرغم من هذه الحالة، فإن القيود المهنية والعملية المرتبطة بوظائف وزارة الخارجية الأمريكية تحول دون ظهور هذه المعارضة للعلن بشكل كبير.


5- مراجعات فكرية في المؤسسات التعليمية: مع ارتفاع أعداد الخسائر البشرية والتداعيات الإنسانية الخطيرة لسياسة القصف الإسرائيلي الموسع، بدأت تندلع مظاهرات طلابية وشبابية في الجامعات الأمريكية مساندة للفلسطينيين، مثل تظاهرات هارفارد. وإن كانت التظاهرات ظاهرة مألوفة في الجامعات الأمريكية، إلا أنها اتسمت في الحالة الراهنة بوجود مراجعات فكرية عميقة لمفاهيم بدت مستقرة نسبياً، وعلى رأسها "معاداة السامية".


ففي منتصف شهر أكتوبر 2023 وجهت مجموعة من شركات المحاماة الشهيرة خطابات لعمداء الجامعات المرموقة للتحذير من التبعات القانونية للسماح للطلاب باستخدام شعارات "معادية للسامية"، وهو ما رد عليه بعض العمداء بأهمية عدم الخلط بين انتقاد سياسات الحكومة الإسرائيلية، وبين معادة السامية باعتبارها أيديولوجية مناهضة لفئة معينة على أساس عنصري.


6- ترتيب الأوراق في مجتمع الاستخبارات الأمريكي: إذا كان من شبه المؤكد أن هجمات حماس الأخيرة تمثل فشلاً واضحاً لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، إلا أنه يمكن اعتبارها أيضاً بعثرة لبعض أوراق مجتمع الاستخبارات الأمريكي؛ فمن ناحية، يتسم التعاون الاستخباراتي بين إسرائيل والولايات المتحدة بمستوى عالٍ من التنسيق والاحترافية؛ ولذا لا يمكن قراءة فشل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بمعزل عن ديناميكيات التعاون وتبادل المعلومات بينها وبين أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وهو ما يطرح كثيراً من الأسئلة حول نوع ومستوى التنسيق قبل يوم 7 اكتوبر 2023.


ومن ناحية أخرى، من المرجح أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية دخلت في سجال داخلي حول طرق التعامل مع الوضع الراهن وأنسب وسيلة لعدم جر الولايات المتحدة إلى حرب إقليمية شاملة. وتقدر بعض التحليلات أن وجهات النظر الرئيسية في أجهزة الاستخبارات تنقسم حول اتجاهين: الأول يركز على الوضع الراهن بصورة حصرية عن طريق بسط وتعزيز أدوات الردع لمنع اتساع رقعة الصراع وانخراط أطراف أخرى فيها، وعلى رأسها حزب الله وإيران (حاملات الطائرات الأمريكية)، والثاني يقوم على ضرورة تجاوز الوضع الراهن برسم سيناريوهات للمستقبل تتعامل في الأساس مع مستقبل قطاع غزة في مرحلة "ما بعد حماس". 


7- تصاعد الانقسامات في المؤسسات المحلية الأمريكية: توسعت دائرة الانقسامات السياسية في المشهد الأمريكي وانتقلت إلى داخل مجالس المدن، وهو الأمر الذي وصفته بعض التقارير بأنه تطور "نادر الحدوث" فيما يتعلق بمواقف الداخل الأمريكي إزاء الصراعات الجيوسياسية. وكان السبب الرئيسي في هذه الانقسامات بروز انتقادات حادة داخل المجالس من جانب العديد من الأعضاء الذين طالبوا بالاعتراف بالمنظور الفلسطيني تجاه الصراع، ووقف إطلاق النار في غزة. وبخلاف ما ذهبت إليه العديد من مجالس المدن فيما يتعلق بإدانة حماس، اتخذ مجلس مدينة ريتشموند في كاليفورنيا قراراً عُد "الأول من نوعه" داخل الولايات المتحدة، فيما يتعلق بـ"التضامن مع الفلسطينيين"؛ حيث اتهم القرار إسرائيل بممارسة "التطهير العرقي".


8- صعوبة استقراء المستقبل من قبل مراكز التفكير الأمريكية: لطالما لعبت مراكز التفكير الأمريكية دوراً كبيراً في صياغة السياسة الرسمية الأمريكية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، إلا أن الأزمة الحالية تشير إلى وجود صعوبات كبيرة لدى هذه المراكز في استقراء مآلات الأزمة، ومن ثم تشهد توصياتها قدراً كبيراً من التباين يصل إلى حد التضاد.


فمن ناحية، دعم عدد من مراكز التفكير المرموقة – وفي مقدمتها معهد الولايات المتحدة لدراسات السلام USIP ومركز "كارنيجي" – ضرورة صياغة خطة لتحديد مستقبل قطاع غزة السياسي في إطار بدء عملية شاملة لتنفيذ حل الدولتين. ومن ناحية أخرى صاغت مراكز أخرى رؤى مغايرة – وعلى رأسها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS ومعهد "بروكينجز" – تؤيد ضرورة إجراء مراجعات شاملة لنظرية الأمن الإسرائيلي في إطار التركيبة الحالية للأراضي المحتلة، وإعادة طرح كافة الحلول على الطاولة في ظل تعقد تحقيق حل الدولتين.


الخلاصة: تشير هذه الانعكاسات الداخلية إلى وجود قدر من التخبط المؤسسي داخل الولايات المتحدة في تحديد نمط تعاملها مع الصراع الحالي في غزة. هذا ومن المتوقع كلما طال أمد الحرب وكلما زاد حجم الخسائر في الأرواح البشرية، أن تتعقد الحسابات الداخلية المؤسسية بصورة أكبر، خاصة إذا دخلت عدد من المتغيرات الأخرى في المشهد الحالي، وعلى رأسها اتساع نطاق الصراع ليشمل أطرافاً أخرى. بالرغم من ذلك، يبدو أن درجة التعقيد المؤسسي في الولايات المتحدة، وتروس "الدولة العميقة" المنضبطة، فضلاً عن تأثير الشخصيات والمؤسسات الداعمة لإسرائيل، تعد كلها عوامل تحييد تحول دون خروج هذه الانقسامات والمراجعات إلى السطح في صورة سياسات مغايرة.