التهديد "المستورد":

كان للرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" سلسلة من التحركات من أجل إظهار موقف فرنسا تجاه الحرب بين إسرائيل وحماس، وهي التحركات التي بدأها بمواقف على وسائل التواصل الاجتماعي، ثم بالإدلاء ببعض العبارات أثناء المؤتمر الصحفي الذي جمعه بالمستشار الألماني أولاف شولتس بمدينة هامبورج على هامش زيارته إلى ألمانيا في 9 أكتوبر 2023، ثم من خلال الاجتماع الذي عقده مع رؤساء الأحزاب الفرنسية في الإليزيه، بالإضافة إلى توجيهه خطاباً رسمياً متلفزاً موجهاً إلى الشعب الفرنسي، بعد خمسة أيام من بداية عملية طوفان الأقصى، تم تخصيصه بالكامل للحديث حول هذه المسألة. وترى بعض القراءات أن ماكرون أراد التعامل بحذر مع هذه المسألة؛ لأنها تمس الداخل الفرنسي أكثرَ من المسائل الخارجية الأخرى التي واجهته أثناء فترة حكمه، والتي حاول فيها تقديم مبادرات لم تنجح، كما في لبنان وأوكرانيا، أو تم توجيه ضربات دبلوماسية موجعة له كما في الساحل الأفريقي، أو في مسألة الغواصات الأسترالية.


ملامح رئيسية

يمكن الإشارة الى أبرز ملامح الموقف الفرنسي تجاه الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس بالنقاط التالية:


1– إدانة واسعة لحركة حماس: قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتوجيه خطاب رسمي متلفز للأمة الفرنسية لتناول الأحداث العسكرية الأخيرة بين إسرائيل وحماس في 12 أكتوبر 2023، وقد ركز فيه على إدانة حماس واصفاً أعمالها بـ"البربرية والفظيعة" معتبراً أنها "تتحمل مسؤولية ارتكاب الهجوم الإرهابي الأكثر مأساويةً في تاريخ إسرائيل، كما أنها تُعرِّض سكان غزة للخطر بطريقة إجرامية، مشدداً على أنْ لا شيء يمكن أن يبرر الإرهاب.


وفي رد على طريقة صياغة هذا الخطاب، استغربت النائبة في البرلمان الفرنسي ماتيلد بانو Mathilde Panot عن حزب فرنسا غير الخاضعة (LFI)، عدم تضمين الخطاب أي دعوة لوقف إطلاق النار أو لإنشاء ممرات إنسانية للمدنيين المحاصرين في غزة من دون ماء أو كهرباء أو مساعدات ورعاية صحية.


2– التضامن مع إسرائيل: صرح "ماكرون" أيضاً، في خطاب 12 أكتوبر الجاري، بأن فرنسا تريد إظهار تضامنها الثابت مع إسرائيل، وبأن ما "يجمعها مع إسرائيل هو الألم الناتج عن الهجمات الإرهابية" (في إشارة إلى تعرض فرنسا لسلسلة سابقة من الهجمات الإرهابية)، وبأن "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ضد حركة حماس من خلال أعمال لا تستهدف السكان المدنيين". هذا الكلام أثار حفيظة مانويل بومبارد Manuel Bompard النائب عن حزب فرنسا غير الخاضعة، الذي استغرب عدم إدانة رئيس الجمهورية أيضاً الأعمال التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، معتبراً أنه "حين نعلن التزامنا باحترام القانون الدولي، فإننا لا يجب أن نعطي الحق في ممارسة القتل لأي دولة أياً كانت".


3– التذكير بشروط السلام الشامل: أكد الموقف الرسمي الفرنسي، على لسان "ماكرون"، ضرورة إقامة السلام الشامل في المنطقة الذي يشمل في الوقت نفسه إقامة دولة فلسطينية، وضمان أمن إسرائيل، كما تبنَّى الرئيس الفرنسي الدعوة إلى عدم تبرير الإرهاب في سبيل دعم القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى عدم جعل الحرب على الإرهاب ذريعةً لتأبيد الحرب في هذه المنطقة. ولقد قامت ماتيلد بانو أيضاً بانتقاد هذه المواقف، معتبرةً أن الرئيس "ماكرون" لم يتطرق في تصريحاته إلى مصطلح حل الدولتين.


4– رفض تعليق المساعدات الفرنسية للفلسطينيين: لقد أثار كل من رئيسي حزب الجمهوريين (اليمين) إيريك سيوتي، ورئيس حزب التجمع الوطني ( أقصى اليمين) جوردان بارديلا، في الاجتماع الذي ضم رؤساء الأحزاب الفرنسية مع ماكرون، مسألة وقف المساعدات الفرنسية للفلسطينيين، إلا أن "ماكرون" رفض ذلك، معرباً عن أسفه للانقسامات الداخلية في المفوضية الأوروبية حول هذا الموضوع؛ لأنه يجب عدم الخلط بين حماس والفلسطينيين، ولأن الأفضل في هذا الموضوع هو فرض رقابة أكبر لملاحظة أين تذهب هذه المساعدات.


محددات حاكمة

يمكن الإشارة الى أبرز المحددات التي تم الاستناد إليها في بلورة الموقف الفرنسي تجاه الحرب بين إسرائيل وحماس بالتالي:


1– مساعي الحفاظ على الوحدة الداخلية: وسط انتشار مخاوف فرنسية من تصاعد أعمال عنف تستهدف المواطنين الفرنسيين من الديانة اليهودية، خصوصاً مع إعلان وزير الداخلية "جيرالد دارمانين" عن حدوث أكثر من 100 عمل مُعادٍ للسامية موجهة ضد اليهود منذ بداية هجوم حماس؛ دعا الرئيس الفرنسي "ماكرون" الفرنسيين إلى الارتقاء إلى مستوى تاريخهم، معتبراً أن الجمهورية لن تتسامح مع حاملي الكراهية. وترافق ذلك مع تعبئة أكثر من 10 آلاف شرطي من أجل حماية أكثر من 582 مدرسة ومكاناً للعبادة عائدة لليهود الفرنسيين.


2– مخاوف استيراد الصراع إلى فرنسا: قررت الحكومة الفرنسية، وتجنباً لاندلاع أحداث مشابهة لما حدث في عام 2014 على هامش حرب غزة السابقة، حظر جميع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، واعتقال منظميها المحتملين، كما طالبت أحزاب اليمين واليمين المتطرف رئيس الجمهورية "إيمانويل ماكرون" بحل الجمعيات والتنظيمات التي تدور في فلك الإخوان المسلمين داخل فرنسا، على اعتبار أنها امتداد ضمني لحماس على التراب الفرنسي، إلا أن ماكرون رفض هذا الأمر، على اعتبار أن حل الجمعيات التي يختلط فيها المعتدلون بالمتطرفين ممكن أن يؤدي إلى حرب أهلية.


3– محاولة تسوية ملف الرهائن الفرنسيين: تُولي باريس أهمية قصوى لهذه القضية؛ نظراً إلى وجود نحو 17 رهينة من الجنسية الفرنسية بأيدي حماس، لكنها تحرص في الوقت نفسه على إظهار تمسكها بمبدأ عدم التفاوض مع المنظمات التي تصنفها "منظمات إرهابية"؛ لذلك فإن فرنسا تسعى من أجل حل هذه القضية إلى العمل مع أطراف ثالثة، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الفرنسي ماكرون، في الاجتماع الذي جمعه مع رؤساء الأحزاب في الإليزيه في 12 أكتوبر، من أن فرنسا بدأت محادثات مع وسطاء، كمصر وقطر، لإطلاق سراح هؤلاء الرهائن أو حتى الرهائن من الجنسيات الأخرى، كما انشغلت باريس بمسألة تأمين ترحيل الفرنسيين الذين يعيشون في إسرائيل، والذين يقدر عددهم بنحو 200 ألف فرنسي (بين مزدوجي الجنسية أو فرنسيين فقط) يعيشون في إسرائيل، وكيفية تسهيل عودتهم إلى فرنسا.


4– استيعاب القلق الفرنسي الداخلي: أظهر استطلاع رأي أجرته شركة إيلاب (Elabe) في 10 و11 أكتوبر 2023، وشمل عينة من ألف فرنسي ممن هم فوق سن الثامنة عشرة، أن 85% منهم قلقون بشأن الصراع الدائر بين إسرائيل وحماس. وهذا المستوى يعتبر مماثلاً لنسبة قلق الفرنسيين المتعلقة بالحرب في أوكرانيا، كما أظهر هذا الاستطلاع أن 68% من المشاركين فيه، يعتقدون أن هذا الوضع ممكن أن يؤدي إلى توترات داخل فرنسا.


كما أظهرت نتائج استطلاع آخر أجرته مؤسسة آيفوب (IFOP)، أن 45% من الفرنسيين يُحمِّلون حماس مسؤولية اندلاع الصراع الجديد في إسرائيل وقطاع غزة، بينما لم يُحمِّل 43% منهم حماس ولا إسرائيل المسؤولية؛ نظراً إلى نقص المعلومات عندهم، أو لعدم الرغبة في الإفصاح عن رأيهم إزاء قضية شائكة، فيما حمَّل 12% إسرائيل هذه المسؤولية. أما من حيث الانتماء السياسي، فإن المقربين من حزب الجمهوريين أو حزب النهضة (الحزب الداعم لماكرون) هم أكثر عرضةً لاتهام حماس من مؤيدي حزب فرنسا غير الخاضعة (LFI) أو حزب أوروبا البيئة الخضر (EELV).


5– تجنب تمدد الصراع في الشرق الأوسط: من بين السيناريوهات التي كانت تخشاها فرنسا بعد عملية طوفان الأقصى، تعرض إسرائيل لهجوم منسق من عدة جبهات ترجمةً لشعار "وحدة الجبهات" الذي تُروِّج له بعض الفصائل المدعومة من إيران منذ مدة؛ لذلك فإن فرنسا رصدت حجم المناوشات العسكرية على الجبهة الجنوبية في لبنان بين إسرائيل وحزب الله، محاولةً التحقق من نوايا حزب الله الحقيقية، ولتحذيره من الوقوع في أي تصعيد.

وكان الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" قد اشترك في بيان موحد، مع الرئيس الأمريكي "جو بايدن" ورئيس الوزراء البريطاني "ريشي سوناك"، والمستشار الألماني "أولاف شولتس"، ورئيسة الحكومة الإيطالية "جورجيا ميلوني"، لتأكيد ضرورة عدم استغلال أي "جهة أخرى معادية لإسرائيل هذه الهجمات"، ولكن دون الإشارة صراحةً إلى إيران أو حزب الله.


وقامت وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا، في هذا السياق، بتاريخ 16 أكتوبر 2023، بزيارة لبنان لحثِّه على بذل كل ما في وسعه للابتعاد عن دوامة الانجرار إلى الحرب الدائرة بين إسرائيل وحركة حماس، لافتةً إلى أن المسؤولين اللبنانيين لديهم مسؤولية كبيرة في هذا الصدد.


تداعيات محتملة

لقد استدعت الحرب بين حماس وإسرائيل، والموقف الفرنسي منها، عدداً من التداعيات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:


1– عودة الجرائم ذات الدوافع الدينية: شكَّل الحادث الذي وقع في 13 أكتوبر 2023 في مدينة أراس Arras أول دلائل إمكانية تصدير الصراع بين إسرائيل وحماس إلى الأراضي الفرنسية؛ حيث قام شاب من الجنسية الروسية يدعى محمد موجوشكوف، بقتل مدرس لغة يُدعَى دومينيك برنار طعناً بسكين بعد قيامه بالهجوم على مدرسة للتعليم الثانوي. ولقد أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانين مباشرةً بعد الحادث عن وجود صلة بين ما يحدث في الشرق الأوسط وبين هذا الهجوم.


وبحسب بعض الشهود على الحادثة، فإن المهاجم كان يسأل قبل مهاجمة ضحاياه إذا كانوا مدرسين لمادة التاريخ. وهذه الفئة من المدرسين هي الفئة المخولة بشرح الصراع العربي الإسرائيلي أو أحداث الهولوكوست للطلاب في المدارس؛ علماً بأن هذه الحادثة تأتي بعد ثلاث سنوات بالضبط من عملية قتل أستاذ التاريخ صامويل باتي في عام 2020. وتُظهِر دراسة نُشرت مؤخراً في فرنسا أن 65% من المدرسين يعتقدون أن وزارة التربية الفرنسية لم تتمكن من إدارة الأمور بشكل صحيح بعد مقتل صامويل باتي، وبأن 80% منهم باتوا يخشون الدخول في نقاشات مع الطلاب المتأثرين بأيديولوجية دينية، كما تُظهِر الدراسة أن 50 % من المدرسين بوجه عام (تصل هذه النسبة إلى 66% لدى مدرسي التاريخ ) صرَّحوا بأنهم أخضعوا أنفسهم للرقابة الذاتية خوفاً من الانتقام داخل المؤسسة أو خارجها.


2– تصاعد التخوف من عمليات إرهابية واسعة: بموازاة عودة الجرائم ذات الدوافع الدينية، فإن الأيام الماضية شهدت تصاعد التخوف من وقوع عمليات إرهابية واسعة في فرنسا، ولعل هذا ما اتضح يوم 18 أكتوبر الجاري؛ حين تم إخلاء 8 مطارات في مختلف أنحاء فرنسا، بعد تلقيها عبر البريد ‏الإلكتروني "تهديدات باعتداءات"، كما أعلن مطار ليل في شمال فرنسا، أنه يجري ‏إخلاؤه بسبب مخاوف من "وجود قنبلة".‏ اللافت أنه قبل أيام من تصاعد الأحداث بين إسرائيل وحماس، تصاعدت التحذيرات من تعرض فرنسا لعدد من الهجمات الإرهابية؛ فعلى سبيل المثال، حذر وزير الداخلية جيرالد دارمانين، يوم 19 سبتمبر 2023 من أن "التهديد المستورد" القادم من بعض المناطق الخارجية، على غرار "الساحل الأفريقي، والشام، وأفغانستان" ينمو مع مرور الوقت.


3– توجيه انتقادات لباريس بسبب تحجيم الآراء المعارضة لإسرائيل: استغربت العديد من الآراء التدابير الفرنسية حيال المواطنين الذين يرغبون في إعلان دعمهم لفلسطين، على اعتبار أن هذا يعتبر نوعاً من أنواع تقييد حرية التعبير في بلد فولتير الذي تُنسَب إليه هذه الجملة: "لا أتفق مع ما تقوله، لكنني سأقاتل حتى الموت حتى يكون لك الحق في أن تقوله". ويلفت منتقدو هذه الخطوة النظر إلى أن هذه التدابير ليست حادثة منفردة، بل يمكن ضمها الى سلسلة سابقة من التدابير تم انتقاد فرنسا عليها من قِبَل الأمم المتحدة ومن مجلس حقوق الإنسان التابع لها في مايو 2023. وتتراوح هذه التدابير بين التضييق على حرية التعبير والتمييز العنصري والاستخدام المفرط للعنف ضد المتظاهرين، بالإضافة إلى ضلوع الشرطة بحوادث قتل عنصرية.


4– تزايد الانقسامات داخل جبهة اليسار: دخلت مكونات تحالف جبهة اليسار في فرنسا (Nupes) في صراع داخلي بعد رفض قادة حزب فرنسا غير الخاضعة تصنيف حماس حركةً إرهابيةً. ولقد قرر الحزب الاشتراكي في 18 أكتوبر 2023 تجميد مشاركته في (Nupes)، داعياً إلى بناء إطار مشترك جديد لليسار؛ لأن زعيم حزب فرنسا غير الخاضعة "جان لوك ميلونشون" أصبح عقبة أمام وحدة اليسار بسبب استراتيجية الصراع الدائم التي ينتهجها.


وفي المقابل، اتهم "جان لوك ميلونشون" رئيس الحزب الاشتراكي "أوليفييه فور" بتفكيك جبهة (Nupes)، مستغلاً التباينات في المواقف بشأن الصراع بين إسرائيل وحماس. ولقد عبر "ميلونشون" صراحةً عن هذا الخلاف في تغريدة نشرها على حسابه في منصة (X) بتاريخ 17 أكتوبر 2023 قائلاً: "لا يسعني إلا أن أكرر الشعارات التي تبنيتُها، والتي يختلف معي فيها أوليفييه فور والحزب الاشتراكي: وقف إطلاق النار، وإطلاق سراح الرهائن، وفتح ممر إنساني، وإنهاء الحصار على غزة، وإدانة جميع جرائم الحرب، ومحاكمة المجرمين أمام المحكمة الجنائية الدولية، والحل السياسي الذي تتبناه الأمم المتحدة مع دولتَين قابلتَين للحياة بحدود آمنة، بالإضافة إلى فرنسا غير منحازة".


ختاماً، ثمة مقاربتان داخل فرنسا للتعامل مع الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحماس: المقاربة الخاصة بالحكومة الحالية وأحزاب اليمين وأقصى اليمين (مع محاولة الحكومة الفرنسية التخفيف من مبالغات أحزاب اليمين)، التي تحرص على اعتبار أنه يحق لإسرائيل استعمال جميع الوسائل العسكرية من أجل الحفاظ على أمنها، مع إغفال العوامل المؤثرة الأخرى في انعدام الأمن، كمسألة الاحتلال والاستيطان والانقسام الداخلي حول بعض خطوات "نتنياهو"، والمقاربة الخاصة بأحزاب اليسار التي إن اختلفت على مسألة تصنيف حركة حماس، فإنها ما زالت تعتبر أنه يتم تجاهل الجذور العميقة لهذا الصراع، وهي عدم التمكن حتى الآن من إنجاز الحل السياسي القائم على وجود دولتين، وهو الحل المرتكز على قرارات الأمم المتحدة واحترام القانون الدولي.