في خطوة جديدة في سلسلة من التنافس الأمني الأوروبي–الأطلسي، أعلنت روسيا انسحابها رسمياً من "معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا" في 7 نوفمبر 2023، مؤكدة أن المعاهدة الآن أصبحت "من التاريخ"؛ وذلك بعد أن علقت مشاركتها في المعاهدة عام 2007، ثم أوقفت مشاركتها الفعالة فيها عام 2015. وبعد أكثر من عام من الحرب الروسية الأوكرانية، وقع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في مايو مرسوماً ببطلان المعاهدة.
ويعد الانسحاب من هذه المعاهدة خطوة إضافية تستكمل سلسلة انسحابات مماثلة من المعاهدات التي ضمنت الأمن في القارة الأوروبية، وكان البرلمان الروسي قد أقر قبل أسابيع قليلة قانوناً يقضي بالانسحاب من معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، ووقَّع بوتين مرسوماً بهذا الشأن يوم 2 نوفمبر الجاري.
وقد تم التوقيع على معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا لعام 1990 بعد عام من سقوط "حائط برلين"؛ لوضع قيود يمكن التحقق منها على فئات المعدات العسكرية التقليدية التي يمكن لحلف شمال الأطلسي "الناتو" وحلف "وارسو" آنذاك نشرها. وكانت المعاهدة تهدف إلى منع أي من طرفي الحرب الباردة من حشد قوات لشن هجوم سريع ضد الطرف الآخر في أوروبا، لكنها لم تحظَ بشعبية في موسكو؛ لأنها أضعفت تفوق الاتحاد السوفييتي في الأسلحة التقليدية.
أبعاد متعددة
على الرغم من إلقاء وزارة الخارجية الروسية باللوم على الولايات المتحدة في تقويض الأمن خلال فترة ما بعد الحرب الباردة من خلال توسيع حلف شمال الأطلسي العسكري "الناتو"، فإنه يمكن أن يُعزى انسحاب روسيا الرسمي من معاهدة القوات المسلحة الأوروبية، إلى عدة أسباب أخرى، أبرزها:
1- التأثير الواسع للتوترات الجيوسياسية: لعب تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا والتوترات الجيوسياسية الأوسع دوراً مهماً؛ حيث أدت الخلافات، بحسب تقرير لصحيفة الشرق الأوسط، حول قضايا مثل أوكرانيا، والعقوبات، ومزاعم التدخل في الانتخابات إلى توتر العلاقة؛ ما جعل اتفاقيات الحد من الأسلحة، مثل معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى أقل قابلية للتطبيق؛ إذ وصف المتحدث باسم الكرملين "ديمتري بيسكوف" العلاقات مع الولايات المتحدة بأنها "تحت الصفر"، وقال رئيس مجلس الدوما "فياتشيسلاف فولودين"، إن روسيا ألغت التصديق على المعاهدة بسبب موقف الولايات المتحدة غير المسؤول من الأمن العالمي ومعاييرها المزدوجة. وصحيح أن موسكو أعلنت أن انسحابها من تلك المعاهدة لا يعني تلقائياً استئناف التجارب النووية، لكنها ربطت هذا الموقف بتصرفات واشنطن.
2- المخاوف الأمنية بسبب توسع "الناتو": أشارت روسيا إلى المخاوف الأمنية كسبب لانسحابها، وقالت إن المعاهدة حدت من قدرتها على مواجهة التهديدات الناشئة الأخرى والخصوم الإقليميين، كما أعربت روسيا عن مخاوفها بشأن توسع حلف شمال الأطلسي العسكري "الناتو" شرقاً ونشر أنظمة الدفاع الصاروخي بالقرب من حدودها، معتبرة هذه التصرفات بمنزلة تهديدات أمنية وانتهاك لروح المعاهدة.
وهو ما أكدته وزارة الخارجية الروسية؛ حيث أشارت إلى أن الدفع الأمريكي لتوسيع حلف شمال الأطلسي أدى إلى قيام دول الحلف "بالتحايل علانية" على القيود التي تفرضها المعاهدة، وأضافت أن قبول فنلندا في الناتو وطلب السويد يعني أن المعاهدة "قد وافتها المنية".
كما أن الوجود العسكري الروسي المستمر في جورجيا ومولدوفا، وخاصة في المناطق الانفصالية في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وترانسنيستريا، نقطة خلاف أخرى. وتعتقد روسيا أن القيود التي تفرضها معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا على عمليات النشر تعيق قدرتها على حماية مصالحها في هذه المناطق.
3- فشل محاولات إصلاح المعاهدة: ساهم انهيار القنوات الدبلوماسية والحوار بين روسيا والولايات المتحدة في اتخاذ القرار الروسي بالانسحاب من معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا؛ حيث أدى غياب المفاوضات الهادفة والطريق المسدود في حل النزاعات المتعلقة بالمعاهدة إلى الانسحاب الرسمي.
كما أكدت وزارة الخارجية الروسية أنه حتى الحفاظ الرسمي على معاهدة القوات التقليدية في أوروبا أصبح – من وجهة نظر المصالح الأمنية الأساسية لروسيا – "غير مقبول"، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يصدقوا على معاهدة القوات التقليدية في أوروبا المحدثة لعام 1999.
4- التنفيذ غير المتكافئ للمعاهدة: أدت الخلافات بين روسيا ودول الناتو حول تنفيذ أحكام المراقبة والتفتيش في المعاهدة إلى زيادة التوترات والإحباطات. وقد ساهمت هذه الخلافات في أن يكون لروسيا تصور بعدم المساواة في تطبيق المعاهدة، فعادة ما تتهم روسيا الدول الغربية بعدم الالتزام بالمعاهدات، وهو الأمر ذاته الذي تروج له الدول الغربية في مواجهة موسكو. وفي وقت سابق، اتُّهمت روسيا بانتهاك المعاهدة من خلال تطوير ونشر صاروخ كروز جديد يُطلق من الأرض (SSC-8) وهو الصاروخ الذي تم حظره بموجب المعاهدة. واتهمت الولايات المتحدة روسيا رسمياً بعدم الامتثال؛ ما أدى إلى التوترات وفي نهاية المطاف قررت روسيا تعليق مشاركتها في المعاهدة ومن ثم الانسحاب الرسمي.
5- التأييد المحلي للانسحاب من المعاهدات: على الصعيد الداخلي، كان هناك – بحسب بعض التقارير – دعم داخل روسيا للخروج من بعض المعاهدات الخاصة بالتسليح؛ وذلك على غرار معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى؛ حيث جادل بعض المسؤولين وخبراء الدفاع الروس بأن المعاهدة حدت من القدرات العسكرية للبلاد واعتبروا الانسحاب وسيلة لتعزيز الموقف الدفاعي لروسيا؛ حيث أكدت روسيا رغبتها في الحفاظ على سيطرتها على قراراتها الدفاعية، مؤكدةً أن المعاهدة حدت من سيادتها الوطنية من خلال فرض قيود على نشر القوات والبنية التحتية العسكرية.
تداعيات حيوية
لا شك أن لانسحاب روسيا الرسمي من معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا آثاراً كبيرة على الأمن الأوروبي وجهود الحد من الأسلحة العالمية؛ حيث أثيرت مخاوف بشأن سباق تسلح محتمل وتآكل اتفاقيات حقبة الحرب الباردة، ومن ثم، يمكن تسليط الضوء على أبرز التداعيات المحتملة لمثل هذه الخطوة؛ وذلك على النحو التالي:
1- تقويض تدابير الشفافية العسكرية: قدمت معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا إطاراً لتدابير الشفافية والتحقق المتعلقة بالقوات العسكرية في أوروبا، ومن شأن انسحابها أن يؤدي إلى انخفاض الشفافية؛ ما يزيد من صعوبة قيام بعض الدول بمراقبة وتقييم الأنشطة العسكرية لبعض؛ ما قد يؤدي إلى الشكوك وسوء التقدير.
إذ ذكرت وزارة الخارجية الأمريكية أن انسحاب روسيا يشير إلى جهد إضافي من جانب موسكو لتقويض عقود من التقدم المحرز نحو بناء الشفافية والنهج التعاوني على الأمن في أوروبا.
2- تزايد المشكلات الأمنية داخل أوروبا: قد يفضي انسحاب موسكو من معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا إلى زيادة التوترات في أوروبا؛ حيث قد تشعر الدول بأنها أقل قيوداً فيما يتعلق بعمليات الانتشار العسكري. وقد يكون هذا مثيراً للقلق بوجه خاص بالنسبة إلى الدول المجاورة ودول حلف شمال الأطلسي، التي تعتمد على اتفاقيات الحد من الأسلحة لتحقيق الاستقرار.
3- تعزيز سباق التسلح: بدون القيود التي تفرضها معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، قد تشارك البلدان في أوروبا في تعزيز الأسلحة، بما في ذلك نشر القوات التقليدية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى تصعيد القدرات العسكرية وربما يؤدي إلى سباق التسلح.
كذلك سيساهم الانسحاب في تآكل نظام الحد من الأسلحة في أوروبا؛ لأنه يأتي في أعقاب انهيار اتفاقيات أخرى، مثل معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى، التي انهارت أيضاً في 2019، وتعليق مشاركة روسيا في معاهدة "نيو ستارت" في فبراير 2023، وهذا يثير المخاوف بشأن استقرار البيئة الأمنية الأوروبية وإمكانية التنبؤ بها.
4- تصاعد التوترات بين الناتو وروسيا: كانت معاهدة القوات التقليدية في أوروبا مهمة في سياق العلاقات بين جلف شمال الأطلسي "الناتو" وروسيا، ومن الممكن أن يؤدي انسحابها إلى المزيد من التوتر في هذه العلاقات؛ لأنه يزيل آلية رئيسية للثقة المتبادلة والشفافية.
وبالفعل، أعلن حلف شمال الأطلسي "الناتو" أن دول الحلفاء يعتزمون الانسحاب من معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا بعد أن أنهت روسيا انسحابها، كما أعلن الحلف اعتزام الدول المتحالفة تعليق عمل معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا لفترة طويلة، بينما كرر حلف الناتو التزامها المستمر بالحد من المخاطر العسكرية ومنع المفاهيم الخاطئة والصراعات.
5- تدهور إدارة الأزمات: تضمنت معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا أحكاماً لإدارة الأزمات وتدابير بناء الثقة، وقد يؤدي انسحاب موسكو إلى زيادة صعوبة إدارة الأزمات وتخفيف تصعيدها في أوروبا. علاوة على ذلك، قد تقوم بعض الدول بتعديل مواقفها واستراتيجياتها العسكرية رداً على زوال معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا؛ ما قد يؤثر على المشهد الأمني العام في أوروبا.
6- تأكيد حسابات الدول غير الموقِّعة: قد تشعر الدول غير الموقِّعة، التي لم تكن ملزَمة بمعاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا، بأنها مضطرة إلى تعديل مواقفها العسكرية استجابة للديناميكيات الأمنية المتغيرة؛ ما يساهم في زيادة عدم اليقين الإقليمي. وهكذا فإن انتهاء معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا قد يثبط الجهود المبذولة للتفاوض والحفاظ على اتفاقيات أخرى للحد من الأسلحة في المنطقة؛ ما قد يقوض الجهود الدبلوماسية المستقبلية.
وإجمالاً لما سبق.. فإن انسحاب روسيا من معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا يسدل الستار على آخر ضوابط التسلح ونشر القدرات الحربية في القارة الأوروبية، وهو ما من شأنه أن يتسبب في الافتقار إلى الشفافية في الأنشطة العسكرية، والمخاوف بشأن سباق التسلح المحتمل. وقد يؤدي ذلك إلى تآكل الثقة والتعاون بين روسيا والدول الغربية؛ ما يجعل إدارة الأزمات أكثر صعوبة. وقد أثار هذا الانسحاب أيضاً تساؤلات حول مستقبل الحد من الأسلحة في أوروبا، وكان له آثار جيوسياسية كبيرة، وخاصة في أوروبا الشرقية؛ حيث أعربت الدول المجاورة عن مخاوف أمنية متزايدة، وطلبت ضمانات من حلف شمال الأطلسي. وقد أدى غياب المعاهدة إلى زيادة الشكوك والتحديات في الجهود الأمنية والدبلوماسية الأوروبية.