عقد "إنترريجونال" للتحليلات الاستراتيجية، في 14 سبتمبر 2023، حلقة نقاشية بعنوان "تحالفات الاستدامة: مستقبل التعاون الخليجي–الأوروبي في مواجهة تغير المناخ"، استضاف خلالها د. "سينزيا بيانكو" زميل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في إيطاليا؛ وذلك بحضور باحثي المركز بأبوظبي. وقد دارت حلقة النقاش في الأساس حول الدوافع المعززة لفرص التعاون الخليجي–الأوروبي في مجال مكافحة التغير المناخي من وجهة نظر أوروبية، وكذلك تسليط الضوء على فرص التعاون بين الجانبين في ذلك المضمار، مع استعراض أهم وأبرز التحديات الراهنة، التي ربما تُسهم في عرقلة فرص التعاون الخليجي–الأوروبي في مجال مكافحة التغير المناخي.
مصالح محفزة
وفقاً لـ"د. بيانكو"، فإن العمل المناخي أضحى – من وجهة نظر أوروبية – من أهم البنود الرئيسية في الأجندة السياسية في أوروبا، وربما يصبح جزءاً لا يتجزأ من السياسة الاقتصادية والدفاعية الأوروبية في القريب العاجل. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل رئيسية، تعد بمنزلة دوافع نحو تعزيز التقارب مع الخليج العربي في مجال مكافحة التغير المناخي. ويتضح ذلك عبر ما يلي:
1– تهديدات التغيرات المناخية لقطاع الصناعة الأوروبي: يمثل التغير المناخي في الوقت الحاضر، تحدياً حقيقياً أمام الجهات الصناعية والمصنعين والقطاع الخاص في أوروبا، كما هو الحال في مختلف دول العالم، بما في ذلك منطقة الخليج العربي، خاصةً أن هناك معضلة رئيسية تتمثل في مدى القدرة على تحقيق التوازن بين الوصول إلى طرق جديدة وابتكارية في الإنتاج والتصنيع بما يحقق النمو الاقتصادي المنشود، مع تحقيق أقصى احترام للمعايير البيئية ذات الصلة بالاستدامة وخفض انبعاثات الكربون.
2– تقاطع أزمة الطاقة الأوروبية مع تحديات التغير المناخي: رغم نجاح الاتحاد الأوروبي والحكومات الأوروبية في مواجهة أزمة الطاقة خلال عام 2022، على حد قول د. "بيانكو"، فإن أوروبا من جراء ذلك دفعت الثمن باهظاً، من الناحية المالية. وإن كان الارتفاع في فواتير الطاقة، وتضاعفها في بعض الحالات، مثلما حدث في ألمانيا لأشهر عدة، قد دفع الحكومات الأوروبية نحو اللجوء إلى عدد من الحلول الطارئة، كاضطرار ألمانيا إلى استئناف حرق الفحم لإنتاج الطاقة، إلا أنه على الجانب الآخر، شكَّل حافزاً قوياً نحو مضاعفة الدول الأوروبية قدراتها في مجال الطاقة المتجددة، فيما عزز ذلك الحاجة الملحة إلى تنويع الواردات، من خلال التواصل والشراكة مع المنتجين الخليجيين.
3– تداعيات الحرب الأوكرانية على أمن الطاقة الأوروبي: كانت الحرب الروسية–الأوكرانية في عام 2022، وما ترتب عليها من أزمة طاقة طاحنة في أوروبا، بمنزلة صدمة من وجهة نظر أوروبية، أثرت بدورها على طبيعة الاتفاقيات السياسية التي يتم التوقيع عليها في أوروبا؛ إذ بات نوع وشكل الاستثمارات التي يتطلع إليها الأوروبيون، تتخذ اتجاهات أساسية ذات صلة وثيقة وتماسٍّ مباشر بعلاقات الطاقة، ولعل ذلك ما يفسر التقارب الأوروبي–الخليجي، على اعتبار منطقة الخليج العربي المنتج الرئيسي للطاقة عالمياً.
4– وجود فرص لتعزيز التعاون التكنولوجي بمجال المناخ: على خلفية الاهتمام الخليجي الواسع بالإبداع والابتكار والتكنولوجيا وتوظيف التقنيات الحديثة في مكافحة التغير المناخي، فإن ذلك يتيح فرصاً عديدة للتعاون الأوروبي–الخليجي في مجال البحث والتقدم التكنولوجي، وكذلك تعزيز التعاون العلمي، بما يفتح فرصاً عديدة أمام القطاع الخاص الأوروبي والخليجي للتعاون معاً، وتمويل البحوث التكنولوجية، وتعزيز تطبيق التقنيات والبنى التحتية الجديدة في العمل المناخي.
5– توقعات أوروبية بتزايد النشاط الخليجي بمجال المناخ: ثمة توقعات أوروبية بأن تصبح دول الخليج العربي نشطة للغاية في العمل المناخي خلال الفترة المقبلة، ومن ثم تُحقق الكثير من الأهداف المناخية؛ وذلك في إطار تكثيف دول الخليج العربي التزامها بخفض انبعاثات الكربون أثناء إنتاج الوقود الأحفوري. ولعل ذلك يرتبط بدرجة كبيرة بمفهوم المملكة العربية السعودية للاقتصاد الدائري للكربون، الذي أطلقته عند استضافتها مجموعة العشرين في عام 2020؛ حيث أعلنت المملكة أنها تريد بناء محطات جديدة أكبر بكثير لاحتجاز الكربون، يكون بإمكانها خدمة البنية التحتية للسعودية، وغيرها من الدول الأخرى.
6– ريادة الخليج العربي في مجال كفاءة استخدام الطاقة: بحسب د. "بيانكو"، اتجهت جميع دول مجلس التعاون الخليجي في مواقف عديدة نحو التعاون مع شركات أوروبية لتنفيذ تدابير كفاءة الطاقة بعدة طرق عند إنتاج الوقود الأحفوري، ولعل ثمرة ذلك التعاون تلعب دوراً مهماً في دفع الاتحاد الأوروبي نحو تعزيز وتسريع فرص التعاون مع منطقة الخليج العربي في مجال كفاءة استخدام الطاقة.
آليات التعاون
بحسب د. "بيانكو"، فإنه في ضوء الدوافع الملحة من جانب أوروبا نحو تعزيز التعاون مع منطقة الخليج العربي في مجال مكافحة التغير المناخي والطاقة في آن واحد، فإن ثمة فرصاً واعدة يمكن في حال استثمارها أن تسفر عن فوائد واسعة تنعكس بدورها على مستوى التعاون الأوروبي–الخليجي في ذلك المجال، وهو ما يمكن تسليط الضوء عليه عبر آليات مختلفة، تتضح عبر ما يلي:
1– الممر الاقتصادي الرابط بين الهند والشرق الأوسط: مثل توقيع كل من الإمارات والسعودية على مذكرة التفاهم الخاصة بإنشاء ممر اقتصادي يربط الهند بأوروبا، عبر الشرق الأوسط خلال قمة العشرين التي انعقدت في التاسع والعاشر من سبتمبر 2023 – وهو مشروع ربط من خلال بناء السكك الحديدية بغية تعزيز الطرق بين القارة الآسيوية والأوروبية للتصدير والتجارة – فرصة إيجابية نحو إبرام مزيد من الصفقات الخاصة بتعزيز تصدير الهيدروجين النظيف إلى أوروبا من شبه الجزيرة العربية. ويوجد بمذكرة التفاهم الموقعة ملحق شديدة الأهمية بالنسبة إلى أوروبا، يتعلق ببناء كابلات الكهرباء والكابلات الرقمية وخط أنابيب الهيدروجين النظيف، وهو مشروع كبير للبنية التحتية يمكن من خلاله تعزيز ذلك النوع من الاتصال بين الهند أو آسيا وشبه الجزيرة العربية مع أوروبا.
2– المشاريع الخليجية الواعدة بمجال الطاقة النظيفة: في ضوء خطط الإمارات والسعودية الطموحة في مجال تصدير الطاقة النظيفة – حيث تخطط أبوظبي لتصدير الهيدروجين الأخضر بحلول عام 2031، فيما تسعى الرياض إلى تصديره عبر مدينة نيوم، التي تعد الأقرب إلى البحر الأبيض المتوسط؛ وذلك بحلول 2036 – فإن ذلك يعد فرصة كبيرة بالنسبة إلى أوروبا؛ إذ إنه من ناحية، يتطلب تحول الطاقة ووقف استخدام الوقود الأحفوري بالفعل، الكثير من المشاريع والاختبارات التجريبية لاستخدام الهيدروجين وهو ما تفعله فعلياً دول الخليج العربي، ومن ناحية أخرى فإن الهيدروجين الأخضر يكتسب أهمية متزايدة في أوروبا.
3– فرص التعاون الناتجة عن الاتفاق الأخضر الأوروبي: على خلفية الاتفاق الأخضر الذي أطلقته أوروبا في عام 2021، الذي يرتكز على فكرة شمولية للتحول إلى اقتصاد أخضر في جميع القطاعات؛ بما في ذلك الزراعة والطيران والأمن المائي، والسلوك الفردي وترشيد الطاقة، والأبنية الخضراء، ليصبح بمنزلة إطار شامل لكيفية تحقيق التحول نحو اقتصاد أخضر، فإن ذلك يتلاقى بشكل كبير مع تطلعات دول الخليج العربي للنمو الاقتصادي عبر قطاعات جديدة، وهو ما يظهر بصورة جلية على سبيل المثال، في الزيادة في عدد الأبنية والمشاريع العقارية في الإمارات، بما يوفر ذلك فرصاً جذابة لأن تكون تلك المباني الجديدة مبنية بطريقة مستدامة، بما يسهم في ترشيد استهلاك الطاقة.
4– تقنيات تعزيز التعاون والاستثمار بمجال إزالة الكربون: ثمة تقنيات جديدة يمكن أن تساعد في تعزيز التعاون الخليجي–الأوروبي في العمل المناخي، كتلك التقنية التي مثلت جوهر الاتفاقية الجديدة التي وقعتها مدينة نيوم في السعودية مع شركة "فيوليا "Veolia الفرنسية بشأن تطوير أول محطة تحلية مياه تعتمد على الطاقة المتجددة بنسبة 100% في يونيو 2022، وهي المحطة التي تستهدف ضمان فصل جميع الرواسب والأملاح للحصول على أعلى درجة نقاء للمياه، وتحويلها إلى منتج صناعي من خلال إعادة استثمار تلك المخلفات الناتجة عن عملية الفصل في العمليات الصناعية الأخرى، وهو ما يعتبر تتويجاً لنهج الاقتصاد الدائري. وإن كانت تلك التقنية مكلفة للغاية، إلا أن د. "بيانكو" رأت فيها فرصة إيجابية لمزيد من التعاون الخليجي–الأوروبي؛ نظراً إلى ما تتيحه من فرص أمام الشركات الأوروبية العاملة في قطاع الطاقة في الخليج العربي.
تحديات معرقلة
طبقاً لـ"د. بيانكو"، فإنه مع اقتراب مؤتمر كوب– 28 المزمع عقده في الثلاثين من نوفمبر من العام الجاري، فإن ثمة تحديات قد تعيق فرص التعاون الأوروبي–الخليجي في مجال العمل المناخي، يمكن استعراضها فيما يأتي:
1– إشكالية آلية تعديل حدود الكربون في دول الخليج: تعد آلية تعديل حدود الكربون (Carbon Border Adjustment Mechanism)، المعروفة اختصاراً بـ"سي بام"، تحدياً مهماً أمام فرص التعاون الخليجي–الأوروبي في مجال مكافحة التغير المناخي؛ حيث يتأثر به جميع من هم خارج الاتحاد الأوروبي، وليس المصنعون الخليجيون فقط. وبدرجة أشد حدةً، يمكن أن يمس الدول النفطية على وجه الخصوص، بما يضر فرص التعاون الأوروبي–الخليجي؛ وذلك إذا لم تتجه دول الخليج العربي فعلياً إلى خفض انبعاثاتها الكربونية، واهتمت بتطوير معاييرها البيئية، على حد قول "بيانكو".
إذ بموجب تلك الآلية، فإنه تُفرَض ضرائب على السلع المستوردة التي تُباع في أسواق الاتحاد الأوروبي على أساس محتواها من الكربون، ومن ثم، فإنه في اعتقاد "بيانكو"، إذا تم اتباع المعايير البيئية نفسها في الخليج العربي كما في أوروبا، فلن يكون لتطبيق تلك الضريبة ضرورة أو جدوى، ومن ثم تصبح المنافسة عادلة.
2– الجدل الأوروبي حول إنتاج الخليج للوقود الأحفوري: يضع الغرب توقعات وآمالاً عريضةً على دولة الإمارات لأن تكون وسيطاً بين الهيئات المختلفة – باعتبارها رئيساً للدورة الثامنة والعشرين من مؤتمر المناخ – بغية إيجاد حل وسط قابل للتحقق، لكن يظل الخوف – من وجهة نظر "بيانكو" – من ضياع الوقت في الجدال حول الوقود الأحفوري، ليأتي ذلك على حساب الوقت الكافي لمناقشة الخطوات الملموسة التي يمكن اتخاذها في إطار خفض الاعتماد على الوقود الأحفوري، عبر مضاعفة قدرة الطاقة المتجددة على مستوى العالم ثلاث مرات، وتمويل التقنيات المبتكرة التي تعمل على إزالة وإعادة استخدام ثاني أكسيد الكربون واحتجاز الكربون.
وربما يعيق الجدل المتصاعد في الاتحاد الأوروبي حول دول الخليج العربي باعتبارها مصدراً رئيسياً لإنتاج الوقود الأحفوري، فرص التعاون الأوروبي–الخليجي في مجال مكافحة التغير المناخي. وبحسب "بيانكو"، فإن ذلك الأمر يكتنفه الكثير من الحساسية لكلا الطرفين، وإن كان على مستوى الاتحاد الأوروبي هناك تقبُّل أوسع لفكرة أن التفاعل مع دول الخليج العربي أمر في غاية الأهمية بالنسبة إلى مجال الطاقة وأهداف العمل المناخي. ودللت الضيفة على ذلك بزيارة المدير العام للمفوضية الأوروبية "يورجنسن" إلى الإمارات في سبتمبر 2023، وعَقْده عدة اجتماعات رفيعة المستوى، وهي الاجتماعات التي اعتبرتها علامة إيجابية على التقارب الأوروبي–الخليجي.
3– تأثير التقارب الروسي–الخليجي على فرص التعاون: على الجانب السياسي، يمكن أن يؤثر مزيد من التقارب الروسي–الخليجي على فرص التعاون الخليجي–الأوروبي في مجال العمل المناخي. وقد بررت "بيانكو" وجهة نظرها بأن التدخل العسكري الروسي شكل تهديداً وجودياً لبعض دول شرق أوروبا؛ لذا فإن من الصعب للغاية أن تكون تلك الدول صديقة لأصدقاء روسيا، خاصةً أن بعض الحكومات الأوروبية قد قطعت كافة روابطها مع روسيا. ولعل تغيير سياسة الاتحاد الأوروبي جذرياً تجاه إيران لمجرد عقدها صفقة عسكرية مع روسيا يدلل على ذلك.
4– ضعف البنية التحتية لنقل الطاقة الخليجية إلى أوروبا: يُعَد من البنود المدرجة على جدول أعمال المناقشة بين الأوروبيين والخليجيين هو كيفية التأكد من أن الدول في الجوار تشارك بشكل شامل في تعزيز أطر التعاون الأوروبي–الخليجي في مجال مكافحة التغير المناخي، والاستفادة منها في النقل. وللقيام بذلك، ترى "بيانكو" أن هناك حاجة إلى إنشاء بنية تحتية وموانئ على طول الطريق، مثل إنشائها على طول ساحل البحر الأحمر المصري، أو على طول البحر الأبيض المتوسط في تونس والمغرب، وربما في ليبيا؛ إذ من شأن خلق بنية تحتية قادرة على نقل الطاقة النظيفة من الخليج العربي إلى أوروبا، في وقت أقل، أن يعزز فرص التعاون بين الجانبين؛ إذ يمثل نقل الهيدروجين أمراً شديد الحساسية، خاصةً أنه غاز غير مستقر، وهو ما يحتاج إيجاد حلول عملية لتأمين نقله إلى أوروبا.
إجمالاً، ترى "بيانكو" أن جميع الفرص أمام تعزيز التعاون الأوروبي–الخليجي، تحتاج إلى قدر كبير من الالتزام المالي والالتزام السياسي، الذي يُعِين على استكشاف مزيد من الفرص في مجال التحول الأخضر. وفي ضوء ذلك، أكدت "بيانكو" أنه يقع على عاتق دولة الإمارات في مؤتمر كوب–28، مسؤولية كبيرة تتمثل في السعي إلى إيجاد حلول لكيفية توزيع التمويل المناخي، والتفكير في طرق إبداعية يمكن من خلالها، عقد شراكات بين القطاع الخاص والدول والمستثمرين الدوليين، لإيصال ذلك التمويل إلى مستحقيه.
كما توقعت "بيانكو" التوصل خلال كوب–28، إلى اتفاق حول تسريع التحول إلى الطاقة المتجددة؛ ليس فقط في دول الخليج العربي، بل أيضاً في دول شمال أفريقيا والشام، من خلال إيجاد سبل وأطر تعاون جديدة تتعلق بمشاركة التمويل، وتعزيز التكنولوجيا من خلال تطبيق وتبادل التقنيات الحديثة في مجال مكافحة التغير المناخي في أسرع توقيت.