أثارت الانتقادات التي وجهها السفير الروسي لدى روما، في شهر سبتمبر الماضي، إلى سياسات إيطاليا بشأن الحرب الأوكرانية تساؤلات متعددة حول حدود الدور الإيطالي في الحرب؛ فقبل انتخاب رئيسة الوزراء الإيطالية "جورجيا ميلوني" في سبتمبر 2022، كان هناك تخوف كبير لدى العواصم الغربية من تأثير خلفيتها اليمينية المتطرفة على موقف إيطاليا من أوكرانيا وروسيا، خاصة أنها كانت قد تعهدت بكبح جماح الهجرة، وعارضت فرض عقوبات على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا، بيد أن "ميلوني" – على غير المتوقع – قد أظهرت حرصاً خلال الفترة الماضية على دعم أوكرانيا، خاصة في إعادة إعمارها، إلا أن ذلك تقابله ضغوط عديدة في الداخل الإيطالي.
إذ تقف إيطاليا في الوقت الراهن في مقابل تحديات جمة، فيما يخص موقفها من الأزمة الروسية الأوكرانية، خاصة في ظل تزايد حضور التيار اليميني المتطرف المنحاز إلى روسيا، وهيمنة الخطاب الروسي على الإعلام الإيطالي بما يضعها تحت ضغط التضليل المعلوماتي في كثير من الأحيان، فضلاً عن الوضع الاقتصادي المتراجع في إيطاليا في ظل تفاقم الدين العام، وهي جميعها بمنزلة قيود من شأنها تقويض الموقف الإيطالي الرسمي الداعم لأوكرانيا.
أبعاد الموقف
يستند الموقف الرسمي الإيطالي في عهد رئيسة الوزراء "ميلوني" إزاء الحرب الأوكرانية إلى عدد من الأبعاد الرئيسية، وهو ما يتضح جلياً من خلال ما يأتي:
1- دعم أوكرانيا ركيزة أساسية للسياسة الخارجية الإيطالية: تتخذ زعيمة اليمين المتطرف "جورجيا ميلوني" وجهة نظر مختلفة بشأن روسيا عن وجهة نظر شركائها في الائتلاف الحاكم؛ إذ بات دعم أوكرانيا يمثل ركيزة أساسية للسياسة الخارجية الإيطالية. وفي سياق دعمها لأوكرانيا، عقدت رئيسة الوزراء عدة اجتماعات وتبادلات مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إلا أن اتخاذ ذلك الموقف في ظل وجود حزبين متشككين في دعم أوكرانيا داخل الحكومة، يخلق بدوره توتراً متأصلاً ومصدراً محتملاً لعدم الاستقرار الذي قد يقوض موقف إيطاليا إزاء أوكرانيا.
2- إعداد حزمة مساعدات عسكرية لكييف: في إطار الدعم الرسمي الإيطالي لأوكرانيا، أعلن وزير الخارجية أنطونيو تاجاني خلال لقاء له مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يوم 2 أكتوبر الجاري، عن عمل إيطاليا على حزمة مساعدات عسكرية أخرى، تنوي من خلالها الاستعداد لتوفير الحماية للبنية التحتية خلال فصل الشتاء المقبل، وهو ما يشير إلى نية إيطاليا الاستمرار في تقديم دعمها المادي لأوكرانيا، والذي يشمل الأسلحة، وبخاصة الأنظمة المتقدمة المضادة للطائرات والمواد المدنية بما في ذلك مجموعات المولدات والخيام والملابس.
3- المساهمة في إعادة إعمار أوكرانيا: تمثل إعادة إعمار أوكرانيا أولوية بالنسبة إلى إيطاليا، وعلى خلفية ذلك، كانت إيطاليا قد استضافت مؤتمراً ثنائياً حول إعادة إعمار أوكرانيا في قصر الكونجرس بروما في 26 أبريل 2023، وقد أكدت خلاله ميلوني مصلحة إيطاليا القوية في متابعة علاقات اقتصادية أوثق مع كييف، ووقعت خلاله اتفاقاً مع كييف لترميم كاتدرائية التجلي في أوديسا، على اعتبار ذلك "رسالة سياسية وثقافية لأوكرانيا".
وفي إطار ذلك، افتتحت إيطاليا في سبتمبر الماضي أول قنصلية فخرية لها في أوديسا مع ولاية قضائية على مناطق أوديسا وخيرسون وكيروفوهراد وميكولايف وزابوريزهيا وجمهورية القرم المتمتعة بالحكم الذاتي، وسيلةً لتعزيز شبكتها القنصلية في ضوء تسهيل جهود إعادة الإعمار.
4- توسيع مجال التقارب الأمريكي الإيطالي في الملف الأوكراني: بحسب وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني زعيم حزب فورزا إيطاليا المنتمي إلى يمين الوسط، فإن حرب أوكرانيا عززت علاقة إيطاليا بالولايات المتحدة، وإن دوائر اهتمام حكومة ميلوني في الوقت الحالي هي الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي، مؤكداً كون إيطاليا جزءاً من التحالف الغربي، وأنها ترغب جدياً في أن تكون طرفاً رئيسياً فيه، وخاصةً فيما يتعلق بتحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم المخاوف العميقة داخل البيت الأبيض من تولي ميلوني السلطة، ظناً بأنها قد تُحطم دعم مجموعة السبع لأوكرانيا، فإنها فاجأت المسؤولين الأمريكيين في قمة مجموعة السبع في هيروشيما اليابانية في مايو 2023؛ حيث أثبتت حرصها على بناء علاقات قوية مع بايدن. وخلال قمة الناتو في يوليو 2023 في العاصمة الليتوانية-فيلنيوس، انضمت ميلوني إلى إعلان دول مجموعة السبع عن ضمانات أمنية إضافية لكييف، وهي جميعها دلالات تشير إلى اتجاه الموقف الرسمي في إيطاليا نحو مزيد من الدعم لأوكرانيا.
محددات حاكمة
رغم محاولات الحكومة الإيطالية ممثلة في رئيسة وزرائها للتقارب مع الرؤى الأمريكية في التصدي لروسيا، واستمرار دعم أوكرانيا وإعادة إعمارها، فإن هناك عدداً من المحددات التي قد تعيق إحراز تقدم ملحوظ في سياسة إيطاليا الخارجية تجاه أوكرانيا:
1- رغبة المواطنين الإيطاليين في إنهاء الحرب: بحسب موجز السياسات الصادر عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في يونيو 2022 بعنوان "السلام مقابل العدالة: الانقسام الأوروبي القادم بشأن الحرب في أوكرانيا"، كان هناك 37% من الإيطاليين قلقين بشأن الانكماش الاقتصادي الناجم عن الحرب في أوكرانيا، وهي بذلك جاءت مقاربة لإسبانيا؛ حيث قدرت نسبة المواطنين الذين اتخذوا ذات الموقف بنحو 40% وفي البرتغال بنسبة 38%، غير أن المعدل الإيطالي ظل أعلى من متوسط الاتحاد الأوروبي البالغ 28%.
كذلك أيد ما نسبته 41% من الإيطاليين إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن، حتى لو كان ذلك فيه خسارة إقليمية لأوكرانيا. ووفقاً للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن الإيطاليين كانوا الأكثر تعاطفاً مع روسيا من بين الدول الأوروبية الأعضاء الذين شملهم الاستطلاع؛ حيث ألقى 27% منهم اللوم على أوكرانيا والولايات المتحدة في الحرب.
ولعل ذلك يمثل – وفقاً لماتيو بوليسي الباحث الإيطالي في مجال الأمن والإرهاب في جامعة برشلونة – ارتباكاً كبيراً في الرأي العام الإيطالي، الذي يتصارع حول من يتحمل المسؤولية عن الحرب ويلقي باللوم على روسيا وأوكرانيا بالتساوي، وهو ما يعتبره "بوليسي" نجاحاً لصالح دعاية الكرملين في إيطاليا.
2- تآكل الاقتصاد الإيطالي: تعاني إيطاليا من أعباء اقتصادية لا تتقاسمها مع أغلب الدول الغربية؛ وتتبدى جلياً في الدين العام الذي يعادل ضعف الناتج المحلي الإجمالي مرة ونصفاً، والحاجة الملحة إلى الحفاظ على المصداقية في أعين المستثمرين الدوليين، والركود الاقتصادي المستمر منذ نحو عشرين عاماً، بفعل تراجع نمو الإنتاجية.
وفي ضوء تلك المعطيات الاقتصادية، تتزايد المخاوف في أرجاء الدولة بشأن حالة الاقتصاد الإيطالي، الذي يعاني فعلياً من انكماش الطلب الخارجي، بما يجعل استمرار إيطاليا في تقديم الدعم المادي لأوكرانيا محل شك، خاصة أن المواطن الإيطالي العادي يكابد من وراء الوضع الاقتصادي الراهن. ويترافق ذلك مع انشغال حكومة مليوني بإنفاق المزيد مع اقتراب الانتخابات الأوروبية، التي تُجرى كل خمس سنوات بالاقتراع العام، لاختيار رؤساء المؤسسات الأوروبية الرئيسية.
3- تشابك المصالح الروسية الإيطالية: اكتسبت إيطاليا على مدار عقود سمعة طيبة باعتبارها أهم المتفاهمين مع روسيا في أوروبا، وقد ظل رئيس الوزراء الإيطالي السابق سيلفيو برلسكوني، لسنوات عديدة مؤيداً لإقامة علاقات وثيقة مع روسيا، وكان من أقوى المدافعين عن عضوية روسيا في مجموعة الثمانية، وهو منتدى يضم القوى الصناعية الكبرى في العالم، وانضمامها إلى النظام الغربي ونظام حلف شمال الأطلسي. ورغم الصدمة التي تعرضت لها السياسة الخارجية الإيطالية من جراء الهجوم الروسي على أوكرانيا، فإنه يظل هناك حتى الوقت الراهن علاقة قوية نسبياً بين بعض الساسة والشركات الإيطالية ونظرائهم الروس، وكذلك علاقات اقتصادية قائمة بين روسيا وإيطاليا.
4- بروز الأحزاب السياسية الرافضة للضغوطات على روسيا: تتسم البيئة السياسية داخل إيطاليا بقدر من التحيز نحو روسيا؛ حيث يميل نحو زعماء أربعة من أكبر خمسة أحزاب في البرلمان إلى دعم الحوار المؤيد لروسيا والداعي إلى السلام؛ وهذا على النقيض من العديد من الدول الأوروبية الأخرى؛ فمنذ الانتخابات العامة التي جرت في سبتمبر 2022، برزت عدد من الأحزاب السياسية الكبرى المُشككة صراحةً والرافضة لكافة التدابير التي تهدف إلى الحد من قدرة روسيا على الاستمرار في مهاجمة أوكرانيا، فيما تم الترويج لفكرة أن العقوبات تضر بأوروبا أكثر من روسيا، والمطالبة بالحوار مع روسيا.
وفي هذا الصدد، تشمل الشخصيات التي تدعم علناً الخطابات المؤيدة للكرملين؛ عضوة البرلمان الأوروبي السابقة عن حزب الرابطة فرانشيسكا دوناتو، التي كانت في مارس 2022 من بين 13 ممثلاً منتخباً في البرلمان الأوروبي، ممن صوتوا ضد إدانة روسيا باعتبارها المعتدي.
على صعيد آخر، فإن نحو ثلث المقاعد في البرلمان، تشغلها أحزاب متعاطفة مع روسيا؛ منها حزب إخوة إيطاليا وحركة النجوم الخمسة. وإن كان الميل والتأييد لروسيا قد انخفض من جراء الحرب الروسية في البرلمان الإيطالي إلى النصف مقارنة بنتائج انتخابات عام 2018، غير أن الديناميكيات الحالية داخل الحكومة والضغوط المحتملة في البرلمان، تجعل إيطاليا الأكثر حساسية في أوروبا تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية، خاصة أن الانقسامات في الوقت الراهن قد تؤدي إلى إضعاف الحكومة سياسياً، وهو ما يمكن أن يؤثر بدوره على الموقف الرسمي لإيطاليا في دعم أوكرانيا.
5- تزايد تضامن الدعاية والإعلام الإيطالي مع موسكو: رغم كون الحكومة اليمينية المتطرفة في إيطاليا حالياً هي واحدة من أقوى المؤيدين الأوروبيين لأوكرانيا، كما تحافظ على موقف متشدد تجاه الهجوم الروسي على أوكرانيا، فإن الدعاية الروسية باتت متغلغلة في وسائل الإعلام الإيطالية؛ حيث تتم دعوة ضيوف موالين لروسيا صراحةً إلى البرامج الحوارية الأكثر شعبية في إيطاليا. وبحسب ماتيو بوليسي الباحث الإيطالي في مجال الأمن والإرهاب، فإنه بتتبع مواقف المسؤولين الحكوميين والأيديولوجيين والإعلاميين الروس الذين استضافتهم شبكات التلفزيون الإيطالية منذ الهجوم الروسي، يظهر حجم الانحياز في الإعلام الإيطالي نحو روسيا.
وفي إطار ذلك،أطلقت اللجنة البرلمانية لأمن إيطاليا "كوباسير" العام الماضي تحقيقاً وسط مخاوف واسعة النطاق بشأن ظهور المعلقين الروس المرتبطين بالكرملين على القنوات الإخبارية الإيطالية؛ ولهذا السبب رفض العديد من الصحفيين الأوكرانيين قبول الدعوات لحضور البرامج التلفزيونية الإيطالية.
6- اجتذاب القومية الروسية قوى سياسية إيطالية: تجتذب القومية الروسيةالمتطرفين اليمينيين، وكذلك تضم في صفوفها اليسار المتطرف، ولعل ذلك يرتبط جزئياً بإرث الحزب الشيوعي الإيطالي في فترة ما بعد الحرب الباردة، وهو الفكر القائم على الصراع مع "الإمبريالية الأمريكية"، ولا تزال تلك الرؤية مثيرة لحماسة مؤيدي اليسار المتطرف الإيطالي الذين يرون في روسيا حصناً ضد الولايات المتحدة، ويروجون لفكر بوتين بشأن "النازيين الأوكرانيين". وهو ما يعني تنامي قدرة تأثير روسيا على أطياف سياسية مختلفة داخل إيطاليا، بما يدفع نحو افتراضية تأثير هذه العوامل مجتمعة على الموقف الإيطالي الرسمي إزاء الحرب الأوكرانية ودعم كييف.
ختاماً، خلال السنوات القليلة، أظهرت إيطاليا قدراً من الواقعية السياسية في سياستها الخارجية، وأضحت أكثر مرونة مع الولايات المتحدة، رغم علاقاتها المتينة مع روسيا. ولعل الحرب الأوكرانية قد ساهمت على الجانب الآخر في التأثير على علاقة روما الوطيدة بموسكو؛ حيث يُظهر الموقف الإيطالي الرسمي انحيازاً في دعم أوكرانيا مقابل روسيا، ونزعة نحو أن تصبح إيطاليا محركاً رئيسياً في إعادة إعمارها من خلال مؤسساتها الصغيرة والمتوسطة، التي تتمتع بقدر من الخبرة والمرونة اللازمة للعمل في السياق الأوكراني. لكن بالرغم من ذلك، ثمة تحديات في الداخل الإيطالي قد تدفع نحو تقويض ذلك الدور الداعم لأوكرانيا، وخاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتراجع في إيطاليا، الذي يفرض قيوداً على تمويل إيطاليا لإعادة إعمار أوكرانيا، والرأي العام الإيطالي السائد الذي يتجه بشكل كبير نحو الرغبة في إنهاء الحرب حتى لو كان ذلك على حساب خسائر إقليمية لأوكرانيا؛ هذا فضلاً عن تبني جانب كبير من الإيطاليين موقفاً متراجعاً إزاء دعم أوكرانيا، وهو ما تروج له أطياف سياسية واسعة في إيطاليا، وهي جميعها محددات قد تضغط على الموقف الإيطالي الرسمي، بما يشير إلى احتمالية عرقلة جهود إيطاليا الحالية والرامية إلى دعم أوكرانيا والمساهمة في إعادة إعمارها.