تخيم المنافسة الاقتصادية والخلافات السياسية والمخاوف الأمنية على العلاقات الأمريكية–الصينية التي تنعكس على عدد من القطاعات الرئيسية، بما في ذلك التكنولوجيا، والتصنيع، والطاقة، والذكاء الاصطناعي؛ إذ تتحرك الصين والولايات المتحدة بسرعة لدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في جيوشهما في الوقت الذي تدرك فيه الولايات المتحدة أهمية وقف تقدم بكين في استخدام الذكاء الاصطناعي للأغراض العسكرية. ولا ينصرف التنافس بين الدولتين على الاستخدامات العسكرية للذكاء الاصطناعي بطبيعة الحال؛ إذ تنخرط كلتاهما في منافسة شرسة على صعيد الابتكار، وبراءات الاختراع، وتطوير التقنيات الرقمية. هذا التنافس التكنولوجي، والصراع حول توظيف الذكاء الاصطناعي، سيكون له تأثيرات ممتدة على ملامح النظام الدولي الراهن.
مؤشرات المنافسة
يمكن الدفع بأن التنافس بين الولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي، لا يعدو كونه تنافساً متعدد الأبعاد يضم أبعاداً تكنولوجية وعسكرية وسياسية، وهو التنافس الذي يبرز بالنظر إلى جملة من المؤشرات التي يمكن الوقوف على أهمها في النقاط التالية:
1– التوسع في التكنولوجيا العسكرية: تكثف الولايات المتحدة والصين استثماراتهما في مجال الأسلحة المُسيَّرة غير المأهولة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي؛ وذلك على شاكلة الغواصات، والسفن الحربية، والطائرات المقاتلة، والطائرات بدون طيار، والمركبات القتالية الأرضية، وغير ذلك، كما يبرز في هذا الصدد التنافس بين الدولتين في مجال الروبوتات المقاتلة المصممة للعمل مع السفن التقليدية والطائرات والقوات البرية، التي تبرز أهميتها لقدرتها على زيادة القوى النارية، وتغيير سبل خوض المعارك، وتحليل صور الاستطلاع والمراقبة، والاستهداف الجزئي (كاستهداف غير المقاتلين أو الذكور في سن الخدمة العسكرية أو جماعة عرقية بعينها).
2– صراع الشركات التكنولوجية الرائدة: تُعد الصين موطناً لبعض أكبر شركات الذكاء الاصطناعي وأكثرها ابتكاراً في العالم؛ حيث استثمرت بكين بكثافة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؛ ما أدى إلى ترسيخ مكانتها باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد للذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء العالم، كما تهدف الصين إلى أن تصبح رائدة على مستوى العالم بحلول عام 2030. ويبزغ في هذا الصدد عدد من الشركات التكنولوجية الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي؛ وذلك على غرار شركات "تنسينت"، و"بايدو" و"بينج أن" وشركة DJI المتخصصة في تكنولوجيا الطائرات بدون طيار، وشركة "يوبتيك" للروبوتات.
وبالرغم من ذلك، فإن ريادة بعض الشركات التكنولوجية الصينية، لا تخفى الفجوة الكبيرة بينها وبين بعض الشركات الأمريكية الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي؛ وذلك على شاكلة "أوبن إيه آي"، و"مايكروسوفت" و"ألفابيت" التي تقود الذكاء الاصطناعي، ولا سيما الذكاء الاصطناعي التوليدي عالمياً؛ إذ تعد تلك الشركات جزءاً لا يتجزأ من نظام أوسع للابتكار على نحو يسمح للابتكارات الجديدة بالازدهار والانتشار العالمي، كما يبرز في هذا الإطار عدد واسع من الشركات التكنولوجيا الأمريكية الناشئة التي تُقدر قيمتها بأكثر من مليار دولار، والتي تعمل جميعها في سوق مفتوحة مزدهرة، هي نتاج التزام الولايات المتحدة بمجتمع مفتوح يكفل التبادل الحر للأفكار وحماية الملكية الفكرية، في ظل روابط قوية بين الحكومة والجامعات والصناعة.
3– تباينات القدرة على الانتشار: ويشير ذلك إلى القدرة على نشر وتضمين التطورات التكنولوجية الجديدة عبر مجموعة واسعة من العمليات الإنتاجية في الاقتصاد القومي للدول؛ إذ تتمتع الصين بالقدرة على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحسين إنتاجياتها الاقتصادية، وإن أتت في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، التي تهيمن على بعض اللبنات الأساسية للذكاء الاصطناعي، مثل الأجهزة المستخدمة لتدريب وتشغيل الخوارزميات، وكذلك البرامج التأسيسية المفتوحة المصدر. وفي المقابل، يبرز في الصين البطء الشديد على صعيد انتشار التقنيات الرقمية بعيداً عن العاصمة والمدن الأكثر تطوراً، وتحديداً في مدن المستويَين الثالث والرابع، والمدن الساحلية.
4– الاهتمام بالقواعد المنظِّمة للذكاء الاصطناعي: اتسعت المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي لتنعكس بدورها على القواعد المنظِّمة له؛ فقد أصدرت الصين، في يوليو 2023، إرشاداتها الرسمية لخدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي، لتصبح بذلك واحدة من أولى الدول التي تُقنِّنه، بعد أن أقرت إدارة الفضاء الإلكتروني في الصين (CAC) جملة من القواعد الملزمة التي دخلت حيز التنفيذ في 15 أغسطس 2023، لتُلزِم مُقدِّمي خدمات الذكاء الاصطناعي بتسجيل خوارزمياتهم لدى الجهات الرسمية. وعليه تبرز رغبة الصين في ريادة حوكمة الذكاء الاصطناعي كي تتمكن من بلورة المعايير العالمية في ذلك المجال؛ ما يكفل لها جذب الاستثمارات العالمية، وتحفيز نموها الاقتصادي، والسيطرة على مختلف تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
أما على صعيد الولايات المتحدة، فقد استُدعِي رؤساء شركات التكنولوجيا إلى البيت الأبيض في 5 مايو 2023 تأكيداً لضرورة حماية مختلف المستخدمين من مخاطر الذكاء الاصطناعي، انطلاقاً من واجباتهم الأخلاقية ومسؤوليتهم المعنوية من ناحية، وضرورة تنظيم ذلك المجال من ناحية ثانية، وحتمية وضع الضوابط والآليات التي تكفل سلامة وأمن الشركات التكنولوجية على اختلاف منتجاتها من ناحية ثالثة. وفي سياق متصل، أعلن البيت الأبيض عن تخصيص 140 مليون دولار لإطلاق 7 معاهد بحثية جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي، كما أطلق "المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا" (NIST) مجموعة عمل عامة لتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي لتطوير الإرشادات الواجب اتباعها لمعالجة المخاطر التي قد تنجم عن تلك التقنيات. وقد طالب البيت الأبيض بضرورة سن قوانين تضع قيوداً صارمة على شركات التكنولوجيا الضخمة. وعلى تعدُّد تلك الجهود، فإن الولايات المتحدة لا تزال متأخرة دولياً في مجال تنظيم الذكاء الاصطناعي على عكس الصين.
5– التركيز على أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي: وفقاً لعدد كبير من المسؤولين التكنولوجيين التنفيذيين، فإن الولايات المتحدة تتمتع بمزايا هائلة على صعيد أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي القادرة على إتمام المهام المعرفية المعقدة بسرعة فائقة، استجابةً لأوامر بسيطة، وهو ما يمكن فهمه بالنظر إلى الجهود التي تبذلها واشنطن للحد من وصول الصين إلى الرقائق اللازمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الجديدة؛ رغبةً منها في القضاء على طموحات بكين في مهدها، وإن كشفت جميع الشركات التكنولوجية الصينية الكبرى، بدءاً من شركة "بايدو" و"بايت دانس" و"تينسنت" و"علي بابا"، عن خطط لتطوير نماذج عدة للذكاء الاصطناعي التوليدي.
وعليه، بدأت سلسلة من روبوتات الدردشة الجديدة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي في التدفق إلى السوق الصينية بموافقة الحكومة الصينية؛ ففي نهاية أغسطس 2023، تم إطلاق ثمانية روبوتات دردشة تعمل بالذكاء الاصطناعي، بما في ذلك (Ernie Bot) من "بايدو"، و(Doubao) من "بايت دانس"؛ وذلك على الرغم من صرامة تدابير الذكاء الاصطناعي التوليدي التي أقرتها الصين والتي دخلت حيز التنفيذ في 15 أغسطس 2023 كما سبق القول؛ إذ تنص على أن خدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي يجب ألا تولد محتوى يُقوِّض السيادة الوطنية، أو يقلب النظام الاشتراكي، أو يدعو إلى الإرهاب أو التطرف، أو يعزز الكراهية العرقية والتمييز العرقي والعنف.
6– السباق حول عدد براءات الاختراع: احتلت الصين المركز الأول عالمياً على صعيد براءات الاختراع في مجال الذكاء الاصطناعي. ووفقاً لبيانات الأكاديمية الصينية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الفترة بين 2013 ونوفمبر 2022، فقد بلغ إجمالي عدد براءات الاختراع في مجال الذكاء الاصطناعي في الصين فحسب 389 ألفاً، وهو ما يمثل 53.4% من إجمالي براءات الاختراعات على المستوى العالمي، كما أحرزت الصين تقدماً واعداً على صعيد بناء ناقلات الابتكار، بعد أن تمكنت بعض مؤسسات البحث والتطوير من تحقيق اختراقات تكنولوجية في نماذج الذكاء الاصطناعي ورقائق حوسبة الذكاء الاصطناعي من ناحية، وعقب إنشاء مركز البيانات الضخمة الوطني المتكامل من ناحية ثانية، وعقب نقل قاعدة الحوسبة من شرق الصين إلى غربها وإنشاء عدد من منصات الابتكار المفتوحة في مجال الذكاء الاصطناعي العام من ناحية ثالثة.
دلالات رئيسية
يثير التنافس بين الولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي جملة من الدلالات التي يمكن الوقوف على أبرزها من خلال النقاط التالية:
1– احتدام الاختلاف في رؤى الدولتين: تدعو استراتيجية الذكاء الاصطناعي الصينية الوطنية إلى التوسع بشكل كبير في توظيف الذكاء الاصطناعي في مجالات التصنيع والحوكمة والدفاع الوطني؛ كي تحقق الصين الريادة العالمية في ذلك المجال بحلول عام 2030 من خلال ابتكارات تكنولوجية جديدة ومراكز تدريب الموظفين، كما ترى بكين أن الذكاء الاصطناعي قد يلعب أدواراً متعددة في اقتصادها المدني، على نحوٍ يعزز النمو والابتكار، ويُجابِه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ويدعم سيطرة الحزب الشيوعي الصيني، كما يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً رئيسياً في طموحات الصين العسكرية، وبخاصة هدفها المتمثل في التحول إلى "جيش من الطراز العالمي" بحلول منتصف القرن الجاري، بل دمج الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة الأخرى في القوة المشتركة بهدف التفوق على الولايات المتحدة؛ إذ ترى الصين أن نموذج حكمها، بما في ذلك سياسة الدمج العسكري المدني، يمنحها ميزة تنافسية على واشنطن.
أما الولايات المتحدة، فترى أن الذكاء الاصطناعي العسكري يُعمِّق التنافس بينها وبين الصين، ويزيد المخاطر الاستراتيجية، وترى أيضاً أن خيارات الاستجابة المتاحة تشمل الحد من الذكاء الاصطناعي العسكري الصيني مع تعزيز قدراتها الوطنية، والانخراط في إدارة مسؤولة من جانب واحد للذكاء الاصطناعي العسكري، والسعي إلى الدبلوماسية الثنائية والمتعددة الأطراف للحد من المخاطر الاستراتيجية. وقد تبنت الولايات المتحدة الخيارات الثلاث مجتمعةً مع تعزيز قدراتها العسكرية؛ كي تحقق ريادة عالمية من خلال تطوير ونشر وتنفيذ أفضل الممارسات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي العسكري المسؤول، والانخراط بشكل استباقي مع الحلفاء والشركاء ذوي التفكير المماثل، وفي المؤسسات المتعددة الأطراف ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي العسكري، والتفاوض على تدابير الحد من المخاطر وبناء الثقة مع الصين، مع إعطاء الأولوية لجمع المعلومات الاستخباراتية عن قدرات الصين العسكرية في مجال الذكاء الاصطناعي.
2– تعدد أوجه التميز التكنولوجي: بينما ركزت شركات التكنولوجيا الصينية جهودها على تطوير بعض التقنيات، على شاكلة تقنيات المراقبة والتعرف على الوجه؛ ركزت الشركات الأمريكية على إنشاء روبوتات الدردشة وتوفير أدوات إبداعية للاستخدام العام، فيما تراجع اهتمامها بتطوير تقنيات المراقبة الجماعية التي صدَّرتها الصين إلى بعض الدول مثل سنغافورة وزيمبابوي وماليزيا والإكوادور وجنوب أفريقيا وبوليفيا ورواندا، كما صدَّرت الشركات الصينية أشكالاً واسعة من تكنولوجيا المراقبة شملت بطاقات الهوية الوطنية، وأجهزة الاستشعار البيومترية، وبرامج مراقبة الإنترنت. وقد دفعت بعض التحليلات الأمريكية بأن انتشار تكنولوجيا المراقبة الصينية التي تُوظِّف الذكاء الاصطناعي في أيدي بعض الحكومات المعادية للولايات المتحدة أو المتحالفة مع الصين، إنما يقوض المصالح الأمريكية من ناحية، ويتناقض مع القيم الليبرالية والمبادئ الديمقراطية من ناحية ثانية.
3– تزايد احتمالات الصدام بين الدولتين: مع اتجاه الصين والولايات المتحدة إلى دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في الجيشين الصيني والأمريكي من ناحية، وتعدد بؤر الصدام والتوتر بين الدولتين، لا سيما في بحر الصين الجنوبي وبسبب تايوان من ناحية ثانية، وتزايد احتمالات حسم الصين سباق الذكاء الاصطناعي مع الولايات المتحدة من ناحية ثالثة؛ يزداد خطر نشوب نزاع مسلح مع الولايات المتحدة في المدى المتوسط، وحدوث تغيرات ثورية بسبب الذكاء الاصطناعي في المدى الطويل؛ وذلك بالنظر إلى قدرة الذكاء الاصطناعي على تعزيز الإنتاجية والقدرة التنافسية لكلا البلدين، وتغيُّر موازين التوازنات الجيوسياسية والعسكرية.
4– التأثير في مسار تحولات القوة العالمية: ترغب الولايات المتحدة وحلفاؤها في الحفاظ على النظام العالمي الذي شكَّلته الهيمنة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية لفترة طويلة، وفي المقابل يحتدم الصراع التكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة بالتوازي مع صراع آخر في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهو الصراع الذي يؤججه استخدام أوكرانيا التكنولوجيا العسكرية لمجابهة روسيا. وفي ظل تلك المنافسة التقنية المحتدمة، قد يسهم الذكاء الاصطناعي والأسلحة المستقلة مثل (Ghost Shark)، في تحديد مخرجات المنافسة الدولية. ووفقاً للتقرير المعنون (Offset–X) الصادر عن مشروع الدراسات التنافسية الخاصة – وهي لجنة أمريكية غير حزبية من الخبراء؛ يرأسها مدير جوجل السابق "إريك شميدت") – فإن فشل جهود الولايات المتحدة في حسم السباق التكنولوجي لصالحها، يُنذِر بتحوُّل ميزان القوى عالمياً على نحو يهدد السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على أقل تقدير.
ختاماً، يحتدم التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين في الوقت الذي تشهد فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي – بما في ذلك التطبيقات العسكرية – تطورات متسارعة. ومع ذلك، لا يمكن التقليل من شأن بعض العقبات التي قد تواجهها الصين، مثل الضوابط التكنولوجية التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وتحديداً الحظر المفروض على بعض الصادرات التقنية إليها من ناحية، وطول الأمد الذي قد تستغرقه الصين لتحقيق الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي العسكري من ناحية ثانية. وعلى تعدُّد تلك العقبات، قد يكون من المبكر حسم مخرجات ذلك السباق المحتدم الذي ستؤثر مخرجاته في التوازنات الدولية.