خطة "فوكوشيما":

أعلنت الحكومة اليابانية، في خطوة وصفت بالمثيرة للجدل، عن بدء عملية تصريف أكثر من مليون طن من المياه المعالجة الخاصة بمحطة "فوكوشيما" النووية في المحيط الهادئ؛ وذلك بعد معالجتها وتخفيف كثافتها؛ ففي عام 2011، تسبب زلزال بقوة 9.0 ضرب الساحل الشمالي الشرقي لجزيرة "هونشو" اليابانية، في انقطاع امتدادات الكهرباء الاحتياطية بمحطة "فوكوشيما" النووية، وهو ما أدى في النهاية إلى انهيار ثلاثة من مفاعلاتها، ووقوع إحدى أسوأ الكوارث النووية عبر التاريخ. ومنذ ذلك الوقت استخدمت اليابان المياه لتبريد المفاعلات المتضررة، ولكن بسبب احتوائها على العديد من العناصر المشعة، تلوثت مياه التبريد، وتراكمت بداخل أكثر من 1000 خزان فولاذي في محطة الكهرباء.  وبفعل قرب نفاد مساحة التخزين في "فوكوشيما" واحتمالية حدوث انهيارات في الخزانات الداخلية، أعلنت اليابان عن خطة لتصريف هذه المياه بقلب المحيط. وقد مضت اليابان قدماً في تنفيذ هذه الخطة في الرابع والعشرين من أغسطس الماضي، وهو الأمر الذي أثار حالة من الجدل الواسع محلياً وعالمياً. 

تصريف المياه

تدرس الحكومة اليابانية منذ سنوات آليات التخلص من المياه المعالجة لمحطة "فوكوشيما" بأقل ضرر ممكن، وقد لجأت الحكومة في النهاية، بالتشاور مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى التخلص من هذه المياه في المحيط الهادئ. وبوجه عام ارتبطت خطة الحكومة اليابانية لتصريف مياه محطة "فوكوشيما" بعدد من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:   

1- تجاوز مياه خزانات محطة "فوكوشيما" القدرة الاستيعابية: أقدمت الحكومة اليابانية على تجميع المياه المعالجة وتخزينها في موقع محطة "فوكوشيما" النووية؛ وذلك عقب وقوع كارثة فوكوشيما خلال عام 2011، إلا أن المياه قد وصلت إلى الحد الأقصى من القدرة الاستيعابية لهذه الخزانات، عند 1.34 مليون طن؛ أي ما يعادل حجم المياه الموجودة في 540 حوض سباحة أوليمبياً، وهو الأمر الذي دفع الحكومة اليابانية إلى التفكير بجدية في التعامل مع هذه القنبلة الموقوتة من المياه المشعة. وفي أعقاب سنوات من التخزين، قررت اليابان في 2021 حل المشكلة عبر تصريف المياه على بعد كيلومتر واحد من سواحلها البحرية، عبر قناة تربط بين سواحلها ومياه المحيط. وسوف تستمر عملية التصريف حتى عام 2050؛ وذلك تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بمعدل 500 ألف لتر بحد أقصى يومياً. 

2- طرح الحكومة اليابانية مجموعة من المبررات لدعم الخطة: بجانب تجاوز المياه المعالجة سعة الخزانات التي تضمها في الوقت الحالي، بررت الحكومة اليابانية إقدامها على هذه الخطوة، بتأكيد حاجتها إلى الأراضي التي تشغلها الخزانات في الوقت الحالي لبناء منشآت جديدة، بالإضافة إلى تجنب بعض المخاطر مثل انهيار هذه الخزانات في حالة حدوث أي كوارث طبيعية. وقد صرحت حكومة طوكيو في وقت سابقاً أيضاً بأن المياه التي ستُصرف في المحيط، تحتوي على مستويات معقولة من التريتيوم والكربون، بما يتوافق مع معايير السلامة النووية العالمية التي وضعتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية. 

3- دور شركة "تيبكو" في عملية التصريف: تعمل شركة "تيبكو" المشغلة لمحطة "فوكوشيما" على إزالة أكثر من 60 مادة مشعة، بالإضافة إلى تصميم نظام صمامات الطوارئ الذي سيضمن منع أي عملية تصريف للمياه غير المخففة عن طريق الخطأ، كما يمكن للموظفين إيقاف عملية التصريف يدوياً بسرعة في حالة حدوث تسونامي أو زلزال. وقد أكدت الشركة أن خطة التصريف سوف تتم خلال فترة زمنية طويلة تصل إلى ثلاثين عاماً؛ وذلك مع استمرار عملية التتبع والاختبار لتأثير هذه المياه المصرفة على المياه والحياة البيولوجية في المحيط.   

4- دعم الوكالة الدولية للطاقة الذرية للخطة: صرحت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي أصدرت الموافقة على مشروع الصرف في يوليو 2023، بأن الموافقة قد جاءت بعد مراقبة ودراسة للمياه المعالجة لما يقارب عامين من قبل فريق عمل تابع للوكالة. وقد ضم هذا الفريق كبار المتخصصين لديها من خبراء السلامة النووية، الممثلين لإحدى عشرة دولة. وقد أجرى الفريق خمس زيارات مراجعة دورية باليابان، كما أقدم على نشر ستة تقارير فنية لمتابعة الوضع الراهن؛ هذا بجانب عقد الفريق اجتماعات دورية مع مسؤولين من الحكومة اليابانية وشركة طوكيو للطاقة الكهربائية (تيبكو) المشغلة للمحطة النووية للوقوف على أبرز تطورات الوضع الراهن للمياه المعالجة، وإعطاء الموافقة النهائية لخطة التصريف. 

تداعيات رئيسية 

على الرغم من تأكيد للحكومة اليابانية باستمرار أن عملية التصريف آمنة ولا يجب القلق منها، وأنها ستتم خلال عدد طويل من السنوات – قرابة 30 عاماً – حتى تكتمل العملية في مجملها، فإن العديد من الدول قد انتقدت هذه الخطوة؛  هذا بالرغم أيضًا من موافقة الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة على هذه العملية في مايو 2023، واعتبارها غير مضرة للبيئة. وقد أثار هذا القرار على وجه التحديد الصين، وبعض المجموعات العاملة في صيد الأسماك، وامتد تأثيره السلبي حتى على الداخل الياباني. وبوجه عام، يمكن القول إن الخطة اليابانية أثارت عدداً من التداعيات الرئيسية المتمثلة فيما يلي: 

1- الدفع بمخاطر مرتبطة بخطة تصريف مياه المحطة النووية: بالرغم من تأكيد الحكومة اليابانية أن الخطة لن تؤدي إلى مخاطر كبيرة، فإن ثمة فريقاً يدفع بوجود مخاطر كبيرة؛ حيث لن تصبح المياه خالية تماماً من المواد المشعة؛ فإزالة مادة التريتيوم من الماء – وهو أحد أشكال المواد المشعة التي تتكون بصورة أساسية من الهيدروجين – تعتبر أمراً صعباً للغاية. فعلى الرغم من تحلل هذه المادة، بمرور الوقت، إلى عنصر الهيليوم الأقل ضرراً، فإن عملية التحلل تتم على مدار زمني طويل للغاية.

وما يضاعف أيضاً من خطورة مادة التريتيوم هو كونها سريعة الانتشار؛ لذلك فإن من المتوقع أن تستغرق المادة مائة عام حتى تتحلل وينخفض نشاطها الإشعاعي؛ ما يجعل هذه العملية مصدر قلق للعديد من العلماء. وقد حذر خبراء البيئة من خطورة الخطوة التي اتخذتها اليابان، وطالبوا صناع القرار في طوكيو باتخاذ الإجراءات اللازمة للاحتفاظ بهذه المياه في الوقت الحالي حتى تتوافر مع الوقت التقنيات المتطورة الحديثة، التي من شأنها أن تقلل أي نشاط إشعاعي متبقٍّ من المعالجة بشكل طبيعي.   

2- انقسام في الداخل الياباني حول الخطة: أثارت الخطة أيضاً جدلاً واسعاً على مستوى الرأي العام الياباني؛ فقد أظهر استطلاع أجرته صحيفة "أساهي" في أغسطس 2023 أن نحو 53% فقط من اليابانيين يؤيدون هذه الخطة بينما عبر 41% عن رفضهم القاطع لها. كما تخشى الفئة العاملة في صيد الأسماك من أن يؤثر تصريف المياه على سبل عيشهم؛ فقد نظم حشد من الصيادين وقفة احتجاجية أمام مقر الإقامة الرئيسي لرئيس الوزراء الياباني في الخامس عشر من أغسطس الماضي، لحث حكومته على إعادة النظر في الخطة ووقف عملية التصريف. 

3- انتقادات علمية واسعة للخطوة اليابانية: فمع استمرار تدفق المياه المشعة داخل المحيط الهادئ، انهالت الانتقادات الدولية على الحكومة اليابانية بسبب تصرفاتها التي وصفها البعض بـ"غير المسؤولة وغير القانونية وغير الأخلاقية"؛ فبعض العلماء لا يشعرون بارتياح لتنفيذ الخطة الآن، ويشيرون إلى أن الأمر يتطلب المزيد من الدراسات حول كيفية تأثير المياه المصرفة من المحطة النووية على قاع المحيط والحياة البحرية بوجه عام، وأضافوا أن التقييم الذي أجرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية ليس بالكافي لاعتماد الخطة والموافقة عليها، وضمان سلامة الكائنات الحيوية الموجودة في المحيط؛ هذا بجانب المخاطر التي تشير الى احتمالية تسرب المياه الملوثة بشكل عرضي إلى مسطحات مائية أخرى. 

4- تصاعد هجوم المجموعات الحقوقية على القرار : أعرب عدد من النشطاء الحقوقيين عن أسفهم لذلك القرار، قائلين إن هذا التصريف قد يؤثر على حياة الملايين وسبل عيشهم في منطقة المحيط الهادئ. وقال الخبراء المستقلون الذين عينهم مجلس حقوق الإنسان: "إن إطلاق مليون طن من المياه الملوثة في البيئة البحرية يفرض مخاطر كبيرة على تمتع مواطني المنطقة بكامل حقوقهم الإنسانية". وقد أصدرت منظمة "السلام الأخضر" تقارير تنتقد عملية المعالجة التي تقوم بها شركة "تيبكو"، زاعمة أن الشركة لم تتخذ الخطوات اللازمة بعد لإزالة المواد المشعة بصورة كاملة. 

5- توظيف الصين الخطة في الضغط على طوكيو: فقد تصدرت الصين قائمة الدول المنتقدة للخطة اليابانية؛ حيث اتهمت اليابان بانتهاك "الالتزامات الأخلاقية والقانونية الدولية" و"وضع مصالحها الخاصة فوق رفاهية البشرية جمعاء على المدى الطويل"، وصرحت أيضاً بأن اليابان تعامل المحيط كأنه ملكية خاصة، كما أكد المتحدث باسم وزير الخارجية الصيني "وانج إن" أن المحيط ملك عام للبشر وليس لليابان فقط لكي تتصرف فيه بصورة أنانية وتلوثه بالإشعاعات النووية، مضيفاً أن بكين ستتخذ كل ما هو ضروري لضمان البيئة البحرية وسلامة الغذاء والصحة العامة. 

وبعد وقت قصير من تنفيذ اليابان خطة التصريف، قامت الصين بتوسيع الحظر المفروض على المأكولات اليابانية المستوردة من "فوكوشيما" وبعض المحافظات لتشمل اليابان بأكملها، في الوقت الذي تُعد فيه الصين أكبر مستورد للأسماك من اليابان.

ويزداد الأمر تعقيداً، في ظل توتر العلاقات بين البلدين مع تعزيز طوكيو من تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة وإعلان دعمها الصريح لتايوان. وقد طالبت طوكيو الحكومة الصينية برفع الحظر عن المستوردات على الفور، وقال رئيس الوزراء الياباني "فوميو كيشيدا"، في مؤتمر صحفي، إن اليابان تشجع بقوة النقاش بين الخبراء على أساس علمي، وإن الصين تنشر ادعاءات لا أساس لها من الصحة، كما طالبت بكين بحماية البعثة الدبلوماسية اليابانية وضمان سلامتهم، عقب تعرضهم لعدد من السلوكيات غير المقبولة من قبل بعض المواطنين الصينيين.  

6- توافق كوري ياباني حول الخطة: على النقيض من الموقف الصيني، أيدت حكومة كوريا الجنوبية الخطة اليابانية، وقالت إنها تحترم النتائج التي توصلت إليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واتهمت المحتجين بإثارة الذعر والبلبلة، بدون أي أساس علمي يدعم مثل هذه الادعاءات.

ولكن هذه النهج قد أثار موجة من الغضب الشعبي في سيول؛ حيث شارك الآلاف في احتجاجات للمطالبة باتخاذ إجراءات حكومية صارمة للتعامل مع هذا الموقف، كما أعرب 80% من سكان كوريا الجنوبية عن قلقهم بشأن تسرب المياه وفقاً لاستطلاع للرأي أجري مؤخراً. ولتهدئة مخاوف الجمهور، أكد رئيس الوزراء الكوري الجنوبي "هان داك سو" استعداده للشرب من مياه فوكوشيما لتأكيد كونها آمنة، في حين قال أحد المسؤولين إن جزءاً صغيراً فقط من التصريف سيصل إلى المياه الكورية. 

في النهاية، عملت اليابان على تخفيف حدة الانتقادات الموجهة إليها داخلياً وخارجياً؛ وذلك عن طريق إطلاق حملات تثقيفية واسعة على مستوى البلاد، كما وعدت شركة "تيبكو" بنشر بيانات فورية عبر شبكة الإنترنت حول مستويات النشاط الإشعاعي للمياه، على بوابة إلكترونية مخصصة لشرح عمليات المعالجة والتفريغ بلغات متعددة. وقد تمت دعوة الوفود الأجنبية ووسائل الإعلام، بما في ذلك هيئة الإذاعة البريطانية، لإجراء جولات في مرافق المعالجة. كما انخرطت الحكومة اليابانية في محادثات دبلوماسية متنوعة مع دول الجوار لإبقائها على اطلاع بأبرز التطورات، وتأكيد التزام طوكيو بأقصى درجات السلامة والأمان للخروج من هذه المعضلة بأقل أضرار ممكنة. وعلى الرغم من ذلك، فإن الخطوة اليابانية ما زالت ستجلب العديد من الانتقادات، خاصة مع اتضاح نتائج هذه الخطوة خلال السنوات القادمة.