خلال السنوات الأخيرة، اكتسب الذكاء الاصطناعي حضوراً واسعاً في العديد من القطاعات، بما في ذلك صناعة الطاقة؛ نظراً إلى قدرته الكبيرة على إحداث تحولات هائلة؛ لما يحظى به من إمكانات واسعة، وقد برز دوره الفائق في صناعة الطاقة في الآونة الأخيرة، في تحليل الطلب على الطاقة، وصيانة المعدات وتحليل كفاءة توليد الطاقة، وكمية النفايات الناتجة، وتحليل توافر مصادر الطاقة المتجددة وغير المتجددة، وتجارة الطاقة واتجاهات التسعير ومخاطر الصناعة، كسرقة الطاقة.
وبفضل تلك الأدوار تمكنت شركات الطاقة من ضمان إنتاج الطاقة بكفاءة، وتقليل البصمة الكربونية وخفض التكاليف، وخلق بيئة عمل أكثر أماناً، ومن ثم تحقيق جاذبية أفضل للعملاء. ولا يتوقف الأمر عند ذلك فحسب، بل للذكاء الاصطناعي دور مهم كذلك في تصميم المحطات وتشغيلها وصيانتها وإدارة الشبكة والاستخدام النهائي والسلامة والاستدامة البيئية. وعلى خلفية الدور الصاعد للذكاء الاصطناعي في ظل التسارع التكنولوجي المستمر، تحرص مختلف شركات الطاقة على توظيف الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المختلفة، بغية إحداث نقلات نوعية في الصناعة، وتقليل البصمة الكربونية لها لمواكبة الهدف العالمي الرامي إلى خفض الانبعاثات الكربونية إلى ما دون الصفر.
أدوار محورية
تمكن الذكاء الاصطناعي مؤخراً من لعب أدوار محورية في قطاع الطاقة، كان لها انعكاساتها الإيجابية على الصناعة بأكملها؛ نظرًا إلى توغله في العديد من المجالات ذات الصلة، وفيما يأتي يمكن استعراض أبرز هذه الأدوار:
1- زيادة كفاءة إنتاج الطاقة: يتمتعالذكاء الاصطناعي بقدرة كبيرة على معالجة الكثير من البيانات المتعلقة بالطاقة بسرعة وكفاءة، التي عادة ما تتضمن معلومات ذات صلة، بما في ذلك البيانات المتاحة حول استهلاك الطاقة، وحتى التقارير المتعلقة بانقطاع التيار الكهربائي والحمل الزائد على النظام. ومن ثم، يقوم الذكاء الاصطناعي بتحديد الأنماط والاتجاهات الخاصة بالاستخدامات، وتقديم استراتيجيات قابلة للتنفيذ، يمكن من خلالها تحسين إنتاج الطاقة والمساهمة في توزيعها بصورة جيدة على أساس ساعات ومواقع الطلب المرتفع والمنخفض.
2- دعم استخدامات الطاقة المتجددة: يُستفاد من قدرة الذكاء الاصطناعي على التنبؤ بالفترات التي تتوافر فيها مصادر الطاقة المتجددة، في الأيام المشمسة أو العاصفة على سبيل المثال، في دعم مقدمي الطاقة على تخطيط استراتيجية الإنتاج الخاصة بهم بشكل أفضل، باستخدام مصادر الطاقة المستدامة قدر الإمكان. أضف إلى ذلك القدرة على تحديد المواقع الأكثر ملاءمةً لمحطة طاقة الرياح أو الطاقة الشمسية، وإعطاء مؤشرات مفيدة – وحتى مستقبلية – حول الموارد المتاحة وكفاءة المحطة، وكذلك المخاطر المحتملة المتعلقة بخصائص التربة أو الأحداث الجوية المتطرفة.
3- المساهمة في تحليل وإدارة البيانات: بينما تولد العديد من شركات الطاقة كثيراً من البيانات القيمة، فإنه كثيراً ما تضيع قيمتها نتيجة سوء تنظيم وتخزين تلك البيانات، ومن هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي في تحليل كميات كبيرة من البيانات بسرعة، وتصنيفها، والعثور على الأنماط وشذوذات الاستخدام؛ ما يجعل من اليسير التوصل إلى رؤى قابلة للتنفيذ وتحسين سير العمل لموفري الطاقة، فضلاً عنتحسين الإنتاج، عند تحليل بيانات الأداء من أجهزة الاستشعار. وفي حالة الطاقة الكهرومائية، فإن التقديرات الأكثر موثوقيةً حول تدفقات المياه على سبيل المثال، تساهم في تقليل الهدر، وزيادة إنتاج الطاقة.
4- الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في إدارة المعدات: تستخدم شركات الطاقة الذكاء الاصطناعي في الصيانة التنبؤية للآلات؛ حيث تعتمد تلك الشركات على التكنولوجيا لتحسين ضبط المعدات؛ بغية تحقيق أفضل أداء ممكن. في هذا الصدد، يستطيع الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، أن يقترح الزاوية الأكثر كفاءة لشفرات توربينات الرياح بناءً على اتجاه الرياح وسرعتها.
5- المساعدة على خفض التكاليف: يتيح الذكاء الاصطناعي لشركات الطاقة الفرصة لخفض النفقات المستمرة، كاكتشاف الأعطال المحتملة ومعالجتها في وقت مبكر، ومن ثم تجنب الإصلاحات الباهظة الثمن وخسارة الأموال في حالة توقف التشغيل، كذلك انخفاض تكاليف الإنتاج والتوليد لشركات الطاقة، بما يعني المزيد من عروض الطاقة بأسعار معقولة للعملاء.
6- توفير بيئة عمل أكثر أماناً: غالباً ما يعمل متخصصو الطاقة في بيئات خطرة، كالعمل في منصات الحفر البحرية أو خطوط الكهرباء ذات الجهد العالي، ويتعرضون للمواد الخطرة ومخاطر الحوادث أو الانفجارات. في هذا الإطار، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقلل من تلك المخاطر عن طريق أتمتة المهام، كمراقبة أداء الآلات الموجودة في المناطق النائية أو الخطرة.
7- تطوير المرافق والتجهيزات: يمكن لشركات الطاقة الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في إنشاء توائم رقمية، وهي عبارة عن نماذج رقمية تفاعلية تتيح تخطيطاً وتصميماً أفضل للمرافق والآلات؛ ما يجعل من الممكن تقييم جدوى المشروع دون بناء نماذج أولية واقعية، ومن ثم إجراء تجارب مختلفة، ومعرفة كيف ستعمل المرافق والآليات المختلفة في ظل أعباء العمل والظروف المختلفة، بما في ذلك حالات الطوارئ.
8- تخزين النفايات والتخلص منها: تولد صناعة الطاقة كمية كبيرة من النفايات التي يمكن أن تؤثر بشكل كبير على البيئة إذا لم يتم تخزينها والتخلص منها بشكل صحيح. ويمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في معالجة هذه المشكلة من خلال اقتراح إجراءات أكثر أماناً لإدارة النفايات، كتحديد كيفية التخلص من المعدات المعطلة لشركات الطاقة المتجددة كالألواح الشمسية أو توربينات الرياح، وتحديد المواد الأكثر قيمة في تلك المكونات، واقتراح طرق لإعادة استخدامها أو إعادة تدويرها، وكذلك تحليل وتقييم التأثيرات القصيرة والطويلة المدى للمواد المشعة المختلفة، بالإضافة إلى قابليتها للتأثر بالظروف والمواد المختلفة، ومن ثم تحديد مستويات الأمان في مرافق تخزين المواد المشعة الحالية وتحديد طرق استدامتها وتحسينها.
اتجاهات رئيسية
في إطار الأدوار العديدة التي يضطلع بها الذكاء الاصطناعي في صناعة الطاقة، فإن كثيراً من شركات الطاقة الشهيرة عالمياً، تحرص على دمج الذكاء الاصطناعي في عملياتها، ويمكن استعراض أبرزها فيما يأتي:
1- توظيف شركة "شل" الذكاء الاصطناعي في عملياتها الإنتاجية: تعمل شركة شل إحدى كبريات شركات النفط والغاز في العالم، على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في عملياتها الإنتاجية المختلفة؛ إذ تمتلك الشركة حالياً أكثر من 100 تطبيق للذكاء الاصطناعي لدعمها في تحسين وتخطيط الطلب على المخزون، وتجنب إهدار المنتجات والمواد الخام، وتقليل وقت خمول الآلات، والصيانة التنبؤية لمرافق الشركة. وبحسب دان جيفونز نائب الرئيس لعلوم الحاسوب وتكنولوجيا الابتكار الرقمي في شركة شل، فإنه يتم حالياً مراقبة 10 آلاف قطعة من المعدات الخاصة بالشركة بواسطة الذكاء الاصطناعي.
2- بناء شركة شيفرون توائم رقمية لمنشآتها: تستخدم شركة "شيفرون" للطاقة الذكاء الاصطناعي لبناء توائم رقمية لمنشآتها، وهي التوائم التي من خلالها يمكن لموظفي شيفرون الوصول بسرعة إلى أي بيانات مطلوبة وإجراء صيانة تنبؤية للمعدات وتحسينها. كذلكتطبق الشركة الذكاء الاصطناعي لتسريع وتيرة الأبحاث، كتحديد عدد الآبار المطلوبة من خلال إجراء تنبؤات دقيقة حول الظروف تحت الأرض بناءً على البيانات التاريخية، دون الحاجة إلى حفر آبار متعددة من أجل جمع البيانات كما كان في السابق، بما يسهم في تبسيط سير العمل وكذلك تقليل البصمة البيئية لشركة شيفرون.
3- تبني أرامكو السعودية الذكاء الاصطناعي لزيادة كفاءة الطاقة: تحرص شركة أرامكو السعودية العاملة في مجال النفط والغاز الطبيعي، على بلوغ هدفها الرامي إلى أن تصبح شركة طاقة رقمية رائدة، وفي سبيل ذلك تعمل على التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي في عملياتها.ويظهر ذلك بوضوح في توظيف هذه التكنولوجيا في معمل بقيق التابع للشركة، الذي يعد أكبر منشأة لتكرير النفط، وأكبر مصنع لتثبيت النفط الخام في العالم؛ حيث تتيح إجراء تعديلات آلية على عملية تثبيت الزيت؛ ما يؤدي إلى زيادة أداء توليد الطاقة، وتحقيق انخفاض كبير في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وكذلك توظيف الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بانبعاث واحتراق الغاز الهيدروكربوني، بما يسمح لها بالبدء في اتخاذ إجراءات علاجية فورية.
4- دعم شركة هانيويل التحول الرقمي لشركة أدنوك الإماراتية: تدعم شركة هانيويل (Honeywell) الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تقدم مجموعة من الحلول الرقمية لشركات الطاقة، بما في ذلك التوائم الرقمية والرؤية السيبرانية والتكرير الذكي ومجموعات الأداء الأولية المصممة لتحسين وقت التشغيل وأداء العمليات؛ عملية التحول الرقمي في شركة بترول أبوظبي الوطنية "أدنوك"، كجزء من اتفاقية صيانة تنبؤية مدتها عشر سنوات، لمساعدة الشركة في زيادة وقت التشغيل والكفاءة والقدرة على التنبؤ وتحسين أداء العمليات.
5- تبني شركة كراكن نظام تشغيل عالمياً قائماً على البيانات: أظهرت مؤخراً شركة تكنولوجيا الطاقة كراكن (Kraken) زخماً كبيراً في صناعة الطاقة، باعتبارها منصة شاملة للطاقة المستقبلية ولمكانتها الرائدة كنظام تشغيل عالمي من خلال البيانات المتقدمة والتعلم الآلي؛ حيث تقدم للمرافق والموردين والتجار إدارة كاملة لسلسلة توريد الطاقة بأكملها؛ ما يعزز "الكفاءة وخدمة العملاء بصورة أفضل، ويوفر وظائف فريدة، وإمكانات توسع لا مثيل لها في عالم خالٍ من الكربون"، بحسب ما تروج الشركة عن نفسها.
6- استعراض أدوار التكنولوجيا في معرض أديبك بأبوظبي: على خلفية الاهتمام الواسع من قبل شركات الطاقة بتوظيف التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، فإن شركة بترول أبوظبي الوطنية أدنوك، استضافت معرض ومؤتمر أديبك 2023، خلال الفترة من 2 إلى 5 أكتوبر الجاري، بمشاركة قادة القطاع وصُناع السياسات والمبتكرين والعديد من شركات الطاقة من أنحاء العالم؛ من أجل تعزيز جهود خفض الانبعاثات من منظومة الطاقة الحالية، في دولة الإمارات، تحت شعار "إزالة الكربون أسرع معاً".
وتضمن الحدث برنامجاً لتغطية أحدث الابتكارات التكنولوجية والشراكات، واستعراض جهود التحول الرقمي المتعلق بالطاقة، لدعم مسيرة القطاع نحو تحقيق الحياد المناخي، بما في ذلك تقنية الالتقاط المباشر للهواء، والتقاط الكربون واستخدامه وتخزينه، فضلاً عن الأنظمة الخضراء للتحليل الكهربائي للهيدروجين، وتوظيف الطاقة المتجددة في إنتاج الكهرباء، والاستفادة من إمكانات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء في قطاع التصنيع.
تحديات راهنة
رغم الفوائد الكبيرة التي يجلبها اعتماد الذكاء الاصطناعي في صناعة الطاقة، واستخدامه فعلياً في جميع أنحاء القطاع، فإن شركات الطاقة يجب أن تظل حذرة إلى حد كبير من استخداماته الجديدة غير المثبتة، خاصة في ظل ما تتعرض له من تحديات عند رغبتها في تعزيز توظيفها الذكاء الاصطناعي، ومن بين تلك التحديات، المخاطر المرتبطة بعدم الإلمام التقني ونقص الموظفين الأكفاء القادرين على التنفيذ الناجح للذكاء الاصطناعي في شركات الطاقة، فضلاً عن البنية التحتية القديمة في بعض البلدان، التي قد تجعل عمليات جمع البيانات الشاملة مهمة صعبة.
وذلك علاوة على مخاطر الأمن السيبراني؛ حيث يعرض الذكاء الاصطناعي صناعة الطاقة لمخاطر قد تجعل من أنظمة الطاقة والبيانات الحساسة، عرضة للهجمات الإلكترونية. ويزداد خطورة ذلك التحدي مع تصاعد التوترات الجيوسياسية والاعتماد المتسارع للبنية التحتية المتصلة رقمياً؛ ما يثير القلق بشأن مدى صمود الصناعة أمام التهديدات السيبرانية.
أضف إلى ما سلف من تحديات، فإن استهلاك الذكاء الاصطناعي كميات كبيرة من الكهرباء عند معالجة كم ضخم من البيانات، يضع شركات الطاقة أمام تحدٍّ ممثلاً في كيفية تصميم مراكز للبيانات، موفرة للطاقة في ذاتها ومحايدة كربونياً. ومن بين الحلول التي تقدم لحل تلك المعضلة، القرب المادي من مراكز البيانات ومحطات توليد الطاقة المتجددة، أو تأجيل عمليات الحوسبة الكثيفة الاستهلاك للطاقة إلى الأوقات التي يتوافر فيها الكثير من الطاقة، أو توفير المزيد من أجهزة تكنولوجيا المعلومات الموفرة للطاقة، أو الاعتماد على البرمجة التي تتطلب القليل من الحوسبة قدر الإمكان.
وإجمالاً، لا يمكن التخلي عن الفوائد العديدة للذكاء الاصطناعي، في مقابل التحديات التي يحملها، وإنما يفترض ذلك من شركات الطاقة أن تكون على وعي بماهية تلك التحديات، ومن ثم إيجاد الحلول اللازمة لمجابهتها؛ من أجل تعظيم فرص الاستفادة من الإمكانات الكاملة للذكاء الاصطناعي، وتوفير الحماية لشركات الطاقة؛ بدءاً من تعزيز الأمن السيبراني ومكافحة الاحتيال والهجمات السيبرانية، وتوفير السلامة في العمل ومواقع البناء ومحطات الطاقة، التي تمثل أولوية قصوى بالنسبة إلى شركات الطاقة في ظل بيئة عملها الشديدة الخطورة.