رؤية "سوليفان":

عرض: عبد المجيد أبو العلا


"لا شيء مطلق في السياسة العالمية".. تُشكِّل تلك المقولة الركيزة والمفتاح لرؤية مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، لأهمية ومحاور تجديد إدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، التي نشرتها مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية في صدر عددها الجديد (نوفمبر/ديسمبر 2023) موضوعاً رئيسياً للعدد؛ حيث ينطلق "سوليفان" في مقاله من اعتبار أن العناصر الأساسية للقوة الوطنية – مثل الديموغرافيا والجغرافيا والموارد الطبيعية – على أهميتها الكبيرة، ليست كافية لتحديد أي البلدان سوف تشكل المستقبل، بل إن القرارات الاستراتيجية التي تتخذها الدول هي الأكثر أهميةً، وعلى رأسها القرارات التي تُجيب في مضمونها على أسئلة من قبيل "كيف تنظم الدولة نفسها داخلياً؟ وما الذي تستثمر فيه؟ ومن تختار أن تصطف معه؟ ومن يريد أن يتحالف معها؟ وما الحروب التي تخوضها؟ وأيها تردعها؟ وأيها تتجنبها؟".


وهي الأسئلة التي حاول "جيك سوليفان" في مقاله الإجابة عليها من منظورة إدارة الرئيس "جو بايدن"؛ ما يُعزز أهمية هذا المقال، باعتبار أن كاتبه من أبرز المسؤولين الحاليين وصُناع السياسات الرفيعي المستوى في الإدارة الأمريكية؛ ما يجعله مُعبِّراً عن رؤية الإدارة الأمريكية لنفسها وللعالم، وتحديد سياستها في المرحلة المقبلة، وكشف توجهات إدارة "بايدن" إذا ما استطاعت الاستمرار في قيادة البيت الأبيض لفترة رئاسية أخرى، في الانتخابات التي ستُجرى العام القادم. ويروج "سوليفان" في مقاله لإدراك إدارة بايدن الحقائق الجديدة للسلطة والتحولات العالمية؛ ما يجعلها قادرة أن "تترك الولايات المتحدة أقوى مما وجدتها".


ضرورة التحديث

يبدأ مستشار الأمن القومي الأمريكي مقاله من تأكيد ضرورة تحديث السياسة الخارجية الأمريكية، من خلال تقديم استعراض عام يؤسس لتلك الفكرة، وهو الاستعراض الذي تتمثَّل أبرز نقاطه فيما يلي:


1– وصول السياسة الخارجية الأمريكية إلى "نقطة انعطاف": عندما تولَّى الرئيس "جو بايدن" منصبه، أدرك أن السياسة الخارجية الأمريكية وصلت إلى نقطة انعطاف؛ حيث سيكون للقرارات التي يتخذها الأمريكيون الآن تأثير كبير على المستقبل. ورغم نقاط القوة الأساسية التي تتمتَّع بها الولايات المتحدة، سواء من حيث القيمة المطلقة أو مقارنةً بالدول الأخرى؛ تدفع الأمريكيين إلى التفاؤل بشأن المستقبل، مثل تمتُّعها بعدد متزايد من السكان، وموارد وفيرة، ومجتمع مفتوح يجذب المواهب والاستثمار ويُحفِّز الابتكار. لكن في الوقت نفسه، ثمَّة انعطافة كبيرة لسياسة الخارجية الأمريكية للتغيُّر والتحوُّل من تلك السياسة التي تشكَّلت لعصر "يتحوَّل بسرعة إلى ذكرى". ومن ثم يطرح "سوليفان" تساؤلاً حول إذا ما كانت البلاد قادرة على التكيُّف مع التحدي الرئيسي الذي تواجهه، وهو المنافسة في عصر الاعتماد المتبادل.


2– انتهاء حقبة ما بعد الحرب الباردة نهائياً: كانت فترة ما بعد الحرب الباردة فترة تغيرات كبيرة، لكن القاسم المشترك طوال التسعينيات والسنوات التي تلت أحداث 11 سبتمبر، هو غياب المنافسة الشديدة بين القوى العظمى، نتيجةً للتفوق العسكري والاقتصادي الأمريكي بشكل رئيسي على الرغم من تفسيره على نطاق واسع باعتباره دليلاً على اتفاق العالم على الاتجاه الأساسي للنظام الدولي. ولكن يعترف مستشار الأمن القومي الأمريكي بانتهاء حقبة ما بعد الحرب الباردة نهائياً، واشتداد المنافسة الاستراتيجية التي أصبحت تمس كل جانب من جوانب السياسة الدولية تقريباً، وليس المجال العسكري فقط، فضلاً عن تعقُّد الاقتصاد العالمي، وتغيير كيفية تعامل الدول مع المشاكل المشتركة، مثل تغير المناخ والأوبئة، وطرح أسئلة جوهرية حول ما سيأتي بعد ذلك.


3– إحجام الإدارات الأمريكية عن معالجة الإخفاقات: في هذا السياق، يجب تكييف الافتراضات والهياكل القديمة لمواجهة التحديات التي ستواجهها الولايات المتحدة من الآن حتى عام 2050. وقد شهدت الحقبة السابقة إحجاماً عن معالجة إخفاقات السوق الواضحة التي هدَّدت مرونة الاقتصاد الأمريكي، وتركيزاً من قِبل واشنطن على الجهات الفاعلة غير الحكومية و"الدول المارقة"؛ نظراً إلى عدم وجود نظير للجيش الأمريكي، وباعتبار ذلك رد فعل على أحداث 11 سبتمبر. وكذلك لم تُركِّز الولايات المتحدة على تحسين موقعها الاستراتيجي والاستعداد لعصر جديد يسعى فيه المنافسون إلى تكرار تفوقها العسكري.


كما افترض المسؤولون، إلى حد كبير، أن العالم سوف يتوحد لمعالجة الأزمات المشتركة، كما فعل في عام 2008 مع الأزمة المالية، بدلاً من التفتُّت، كما جرى في مواجهة جائحة لا تحدث إلا مرة واحدة كل قرن، بل في كثير من الأحيان، تعاملت واشنطن مع المؤسسات الدولية على أنها مؤسسات جامدة دون معالجة الأسباب التي جعلتها قاصرة ولا تمثل المجتمع الدولي الأوسع.


4– ضمور "عضلات" الولايات المتحدة ومصادر قوتها الخارجية: كان التأثير الإجمالي لذلك أنه على الرغم من أن الولايات المتحدة ظلت القوة المتفوقة في العالم، فإن بعض عضلاتها الأكثر حيويةً قد ضمرت. علاوةً على ذلك، فإنه مع انتخاب دونالد ترامب، أصبح للولايات المتحدة رئيس يعتقد أن تحالفاتها كانت شكلاً من أشكال الرفاهية الجيوسياسية. وقد احتفلت بكين وموسكو بالخطوات التي اتخذها، والتي أضرت بتلك التحالفات؛ حيث رأتا أن التحالفات الأمريكية مصدر للقوة الأمريكية وليست عائقاً. وبدلاً من العمل على تشكيل النظام الدولي، انسحب ترامب منه.


5– رؤية الرئيس "بايدن" بشأن إصلاح السياسة الخارجية: عندما تولى الرئيس "بايدن" منصبه، كان مصمماً على إصلاح الضرر المباشر الذي لحق بتحالفات الولايات المتحدة وقيادتها "للعالم الحر"، بل أيضاً على متابعة المشروع الطويل الأمد لتحديث السياسة الخارجية الأمريكية لمواجهة تحديات اليوم. وقد برزت هذه المهمة بشكل صارخ مع "الغزو الروسي غير المبرر" لأوكرانيا في فبراير 2022، فضلاً عن "عدوانية الصين المتزايدة" في بحر الصين الجنوبي وعبر مضيق تايوان.


6– أهمية تغيير المنظور الأمريكي للقوة: على المستوى الأساسي، يتطلَّب "هدف بايدن" تغيير الطريقة التي تفكر بها الولايات المتحدة بشأن القوة؛ فقد تولت هذه الإدارة السلطة وهي تعتقد أن القوة الدولية تعتمد على اقتصاد محلي قوي، وأن قوة الاقتصاد لا تُقَاس بحجمه أو كفاءته فحسب، بل أيضاً بمدى نجاحه لصالح جميع الأمريكيين، وخلوه من التبعيات الخطيرة، وفهمت أن القوة الأمريكية تعتمد أيضاً على تحالفاتها، لكن هذه العلاقات – التي يعود تاريخ الكثير منها إلى أكثر من سبعة عقود – كان لا بد من تحديثها وتنشيطها لمواجهة تحديات اليوم؛ فقد أدركت إدارة "بايدن" أن الولايات المتحدة تصبح أقوى عندما يكون شركاؤها كذلك أيضاً، كما أدركت أنها لم تَعُد قادرة على تحمل نهج غير منضبط في استخدام القوة العسكرية، حتى حين قامت بحشد جهود هائلة للدفاع عن أوكرانيا ووقف "العدوان" الروسي.


7– كشف الأزمات الكبرى أهمية القيادة الأمريكية للعالم: يرى الكاتب أن السنة الأولى لجائحة كوفيد–19 أظهرت أنه إذا كانت الولايات المتحدة غير راغبة في قيادة الجهود الرامية إلى حل المشاكل العالمية، فلن يتدخَّل أحد لحلها؛ ففي عام 2020، كان العديد من قادة العالم "يتحدَّثون بالكاد". وكافحت مجموعة السبع من أجل الاندماج عندما انتشر فيروس كورونا، وبدلاً من التنسيق الوثيق، بذلت البلدان جهوداً متباينة جعلت الوباء أكثر خطورةً مما كان يمكن أن يكون عليه لولا ذلك. وهكذا أدركت إدارة "بايدن" ضرورة استعادة القيادة الأمريكية.


8– رغبة دول العالم في دور أمريكي أكبر تجاه التحديات: إن قسماً كبيراً من العالم ليس منشغلاً بالمسابقات الجيوسياسية؛ فمعظم البلدان تريد أن تعرف أن لديها شركاء يمكنهم مساعدتها في معالجة المشاكل التي تواجهها، والتي يبدو بعضها وجودياً. وبالنسبة إلى هذه البلدان، فإن الشكوى ليست أن هناك الكثير الذي تفعله الولايات المتحدة، بل أنها تفعل أقل مما ينبغي، ومع اعترافهم بمخاطر التقرب من "القوى الاستبدادية الكبرى، لكن لا يجدون بديلاً لذلك"، وهو ما أدركه الرئيس بايدن. وفي حين كانت الولايات المتحدة غائبةً، أصبحت الآن قادرةً على المنافسة، ورائدةً بإلحاح وتصميم، وهي تفعل ذلك بالشراكة مع بلدان أخرى، وتتوصَّل إلى كيفية حل المشاكل الملحة معاً.


الجبهة الداخلية

حدد "جيك سوليفان" عدداً من المحاور التي تعمل عبرها الإدارة الأمريكية على تعزيز الجبهة الداخلية وتقويتها في مواجهة التحديات، ومنها:


1– إدراك الخلل الذي سبَّبه تراجع الاهتمام بالحيوية الاقتصادية بعد الحرب الباردة: بعدما اتبعت الولايات، في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، سياسة الاستثمار العام الجريء، بما تضمَّن القطاعات الاستراتيجية والبحث والتطوير؛ ما عزز نجاحها اقتصادي؛ ابتعدت الولايات المتحدة عن تلك الاستراتيجية، فصمَّمت الحكومة الأمريكية سياسات تجارية وقانوناً ضريبياً لم يركز بشكل كافٍ على العمال الأمريكيين. وقلَّلت الولايات المتحدة، بعد الحرب الباردة، من أهمية الاستثمار في الحيوية الاقتصادية في الداخل. وفي خضم الوفرة التي شهدتها المرحلة التي أُطلق عليها "نهاية التاريخ"، أكد العديد من المراقبين أن المنافسات الجيوسياسية من شأنها أن تفسح المجال أمام التكامل الاقتصادي.


ونتيجةً لذلك، أصبح الاقتصاد الأمريكي يعاني من نقاط ضعف مثيرة للقلق. وبينما بدا الازدهار على المستوى الكلي، فإنه تحت السطح كان هناك مجتمعات وقطاعات بأكملها يتم تجويفها. وتخلَّت الولايات المتحدة عن زمام المبادرة في قطاعات التصنيع الحيوية، وفشلت في القيام بالاستثمارات اللازمة في بنيتها التحتية، وتلقَّت الطبقة الوسطى ضربة قوية.


2– إعطاء سياسات "بايدن" الاقتصادية الأولوية لاستثمارات الابتكار والتصنيع: وفقاً للكاتب، أعطى الرئيس "بايدن" الأولوية للاستثمار في الابتكار والقوة الصناعية في الداخل، في إطار سياسته الاقتصادية التي أُطلِق عليها تسمية "بايدنوميكس"، والتي تعمل على تمكين الاستثمار الخاص بدلاً من الحلول محله. وتعزز قدرة الولايات المتحدة على تحقيق النمو الشامل، وبناء القدرة على الصمود، وحماية الأمن القومي.


وفي هذا الإطار، أصدرت إدارة بايدن قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف، وقانون أشباه الموصلات والعلوم، وقانون الحد من التضخُّم، وعملت على تعزيز الابتكارات في مجالات الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والتكنولوجيا الحيوية، والطاقة النظيفة، وأشباه الموصلات، مع حماية مزايا الولايات المتحدة وأمنها من خلال ضوابط التصدير الجديدة وقواعد الاستثمار بالشراكة مع الحلفاء.


وهي السياسات التي يرى "سوليفان" أنها أحدثت فرقاً؛ فقد زادت الاستثمارات الواسعة النطاق في إنتاج أشباه الموصلات والطاقة النظيفة بمقدار 20 ضعفاً منذ عام 2019. وتشير تقديرات الإدارة الأمريكية إلى أن إجمالي الاستثمار العام والخاص في هذه القطاعات سيبلغ 3.5 تريليون دولار على مدى العقد المقبل.


3– بناء سلاسل توريد مرنة ومتينة في المجالات الحيوية: في العقود الأخيرة، أصبحت سلاسل التوريد الخاصة بالمعادن الحيوية في الولايات المتحدة تعتمد بشكل كبير على الأسواق الخارجية التي لا يمكن التنبؤ بها، والتي تُهيمِن الصين على الكثير منها؛ ولهذا السبب تعمل الإدارة الأمريكية على بناء سلاسل توريد مرنة ومتينة مع الشركاء والحلفاء في المجالات الحيوية، وبخاصة قطاعات أشباه الموصلات، والطب والتكنولوجيا الحيوية، والمعادن الحيوية، والبطاريات؛ حتى لا تكون الولايات المتحدة عُرضةً لانقطاع الإمدادات أو ارتفاع الأسعار. وتشمل تلك السياسة بوجه خاص المعادن المهمة للأمن القومي، مع إدراك أن قطاعات الاتصالات والطاقة والحوسبة لا تقل أهميةً عن قطاع الدفاع التقليدي.


4– إعادة بناء القاعدة الصناعية للجيش الأمريكي: يذكر مستشار الأمن القومي الأمريكي أن إدارة الرئيس بايدن، عند توليها السلطة، وجدت أنه رغم كون الجيش الأمريكي الأقوى عالمياً، فإن قاعدته الصناعية عانت من نقاط ضعف لم تُعالَج. وبعد سنوات من نقص الاستثمار، وشيخوخة القوى العاملة، وتعطُّل سلسلة التوريد، أصبحت قطاعات الدفاع المهمة أضعف وأقل ديناميكيةً.


وفي ظل هذا الوضع، تعمل إدارة بايدن على إعادة بناء تلك القطاعات، بدءاً من الاستثمار في القاعدة الصناعية للغواصات حتى إنتاج ذخائر أكثر أهميةً؛ حتى تتمكن الولايات المتحدة من صنع ما هو ضروري للحفاظ على الردع في المناطق التنافسية، مع الاستثمار في الردع النووي الأمريكي؛ لضمان استمرار فاعليته، بينما يقوم المنافسون ببناء ترساناتهم، مع الإشارة إلى الانفتاح على مفاوضات الحد من الأسلحة المستقبلية إذا كان المنافسون مُهتمَّين بذلك؛ وذلك فضلاً عن عقد شراكات مع المختبرات والشركات الأكثر ابتكاراً لضمان استفادة القدرات التقليدية المتفوقة للولايات المتحدة من أحدث التقنيات.


5– إنهاء الفصل بين السياستَين الداخلية والخارجية: يلفت مستشار الأمن القومي في إدارة "بايدن" إلى أن الإدارات المستقبلية قد تختلف عن تلك الإدارة في تفاصيل كيفية تسخير المصادر المحلية للقوة الوطنية والاستفادة منها، لكنه يؤكد أن واشنطن بحاجة إلى كسر الحاجز بين السياستين الداخلية والخارجية في ظل عالم أكثر تنافسيةً، وأن الاستثمارات العامة الكبرى تُشكِّل عنصراً أساسياً في السياسة الخارجية. ومثلما فعل الرئيس دوايت أيزنهاور ذلك في الخمسينيات، تحتاجه واشنطن مرة أخرى اليوم، ولكن بالشراكة مع القطاع الخاص، وبالتنسيق مع الحلفاء، ومع التركيز على التكنولوجيات المتطورة.


التحالفات الدولية

تُولِي الإدارة الأمريكية أهميةً كبيرةً للتحالفات الدولية؛ لاعتبارات سياسية واقتصادية وعسكرية، ناهيك عن مساهمتها في أكبر قدر من تقاسم الأعباء التي يمكن أن تتحمَّلها واشنطن. ويبلور المقال التوجُّهات الأمريكية تجاه التحالفات على النحو التالي:


1– اهتمام "بايدن" بالتحالفات الأمريكية بعد تشكيك "ترامب": كان الرئيس "بايدن" واضحاً منذ لحظة توليه منصبه بشأن الأهمية التي يُولِيها للتحالفات الأمريكية، خاصةً في ضوء تشكيك سلفه "ترامب" فيها، لكنه أدرك أنه حتى أولئك الذين دعموا هذه التحالفات على مدى العقود الثلاثة الماضية، غالباً ما يتجاهلون الحاجة إلى تحديثها من أجل المنافسة في عصر الاعتماد المتبادل. وبناءً على ذلك، عززت الإدارة الأمريكية هذه التحالفات والشراكات بطرق مادية تعمل على تحسين الموقع الاستراتيجي للولايات المتحدة وقدرتها على التعامل مع التحديات المشتركة.


2– تعميق التعاون مع أوروبا وشركاء الناتو: يدلل الكاتب على اهتمام بايدن التحالفات في القارة الأوروبية عبر الإشارة إلى حرب أوكرانيا وحلف الناتو، مشيراً إلى حشد واشنطن تحالفاً عالمياً من الدول لدعم أوكرانيا في دفاعها عن نفسها ضد "حرب عدوانية غير مبررة" وفرض التكاليف على روسيا. وتوسَّع الناتو ليشمل فنلندا، "وسرعان ما ستتبعها السويد"، وهما دولتان من دول "الحياد"، كما قام الناتو بتعديل موقفه على جناحه الشرقي، مع تعزيز القدرة على الرد على الهجمات السيبرانية ضد أعضائه، والاستثمار في دفاعاته الجوية والصاروخية، كما عملت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على تعميق التعاون بشكل كبير في مجالات الاقتصاد والطاقة والتكنولوجيا والأمن القومي.


3– تعزيز الشراكات مع دول "الهندوباسيفيك": من خلال AUKUS (الشراكة الأمنية الثلاثية بين الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة) يجري دمج القواعد الصناعية الدفاعية للدول الثلاث لإنتاج غواصات مسلحة تقليدياً تعمل بالطاقة النووية، وزيادة التعاون في القدرات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والغواصات المستقلة والحرب الإلكترونية، كما يعزز الوصولُ إلى مواقع جديدة، من خلال اتفاقية التعاون الدفاعي مع الفلبين، الموقفَ الاستراتيجي للولايات المتحدة في منطقة الهندوباسيفيك.


فيما أطلقت المجموعة الرباعية، التي تضم الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان، العنان لأشكال جديدة من التعاون الإقليمي في مجالات التكنولوجيا والمناخ والصحة والأمن البحري. ويشير "سوليفان" إلى استثمار إدارته في "شراكة القرن الحادي والعشرين" بين الولايات المتحدة والهند، عبر أُطر منها المبادرة الأمريكية الهندية بشأن التكنولوجيا الحرجة والناشئة.


4– محاولة تشبيك تحالفات الهندوباسيفيك وأوروبا: يؤكد مستشار الأمن القومي الأمريكي عمل بلاده على تنمية النسيج والعلاقات بين تحالفات الولايات المتحدة في الهندوباسيفيك وأوروبا، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة أقوى في كل منطقة بسبب تحالفاتها في المنطقة الأخرى؛ فالحلفاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من أشد المؤيدين لأوكرانيا، في حين يساعد الحلفاء في أوروبا الولايات المتحدة في دعم السلام والاستقرار بمضيق تايوان.


5– إطلاق شراكات عالمية ذات طابع اقتصادي: تعمل الإدارة الأمريكية على تعزيز الشراكات الأمريكية خارج آسيا وعبر الروابط الإقليمية التقليدية؛ فعلى سبيل المثال، في ديسمبر 2022، في أول قمة لزعماء الولايات المتحدة وأفريقيا منذ عام 2014، قدَّمت الولايات المتحدة سلسلة من الالتزامات "التاريخية"، بما في ذلك دعم عضوية الاتحاد الأفريقي في مجموعة العشرين، وتوقيع مذكرة تفاهم مع أمانة منطقة التجارة الحرة الأفريقية، بالإضافة إلى تحفيز العمل في نصف الكرة الغربي بشأن الهجرة، من خلال إعلان لوس أنجلوس بشأن الهجرة والحماية، وإطلاق "شراكة الأمريكتين من أجل الرخاء الاقتصادي"، وهي مبادرة لدفع التعافي الاقتصادي في نصف الكرة الغربي.


كما يشير "سوليفان" إلى تشكيل تحالف جديد يجمع الهند وإسرائيل والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة، يُعرف باسم I2U2، ويجمع بين جنوب آسيا والشرق الأوسط والولايات المتحدة، من خلال مبادرات مشتركة بشأن المياه والطاقة والنقل والفضاء والصحة والأمن الغذائي.


هذا فضلاً عن انضمام الولايات المتحدة، في سبتمبر 2023، إلى 31 دولة أخرى في مختلف أنحاء أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأفريقيا وأوروبا لإنشاء شراكة التعاون الأطلسي للاستثمار في العلوم والتكنولوجيا، وتعزيز الاستخدام المستدام للمحيطات، ووقف تغير المناخ، وكذلك تشكيل شراكة إلكترونية عالمية جديدة، تضم 47 دولة ومنظمة دولية لمواجهة آفة برامج الفدية.


6– تأكيد البعد الديمقراطي محدداً لأطراف الشراكات الأمريكية: يؤكد "جيك سوليفان" أن كل تلك الشراكات ليست جهوداً معزولة، وإنما جزء من شبكة تعاون ذاتية التعزيز، ويشير إلى أن أقرب شركاء الولايات المتحدة ديمقراطيون، وسيعملون معاً بقوة للدفاع عن الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، ويذكِّر في هذا الإطار بقمة الديمقراطية، التي دعا إليها الرئيس لأول مرة في عام 2021، معتبراً أنها خلقت أساساً مؤسسياً لتعميق الديمقراطية وتعزيز الحكم ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان، مؤكداً أن الإدارة الأمريكية ستعمل مع أي دولة مستعدة للدفاع عن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، مع دعم الحكم الشفاف والخاضع للمساءلة، ودعم الإصلاحيين الديمقراطيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.


الشرق الأوسط

في إطار إدراك الإدارة الأمريكية تغيُّر الأولويات والتهديدات، فإن "سوليفان" يدعو الولايات المتحدة إلى اختيار معاركها برشد أكبر، بحيث تختار المعارك التي يجب أن تنخرط فيها، ودرجة وحدود هذا الانخراط، وخاصةً في منطقة الشرق الأوسط؛ وذلك على النحو التالي:


1– بُعد نظر الانسحاب من أفغانستان لمواجهة التحديات الجديدة: منذ توليه الحكم، كان الرئيس بايدن مصمماً على التكيف، وأنهى مشاركة الولايات المتحدة في الحرب في أفغانستان، وهي أطول حرب في التاريخ الأمريكي، وحرَّر الولايات المتحدة من الحفاظ على القوات العسكرية في "الأعمال العدائية النشطة" لأول مرة منذ عقدين. كان هذا التحول مؤلماً، خاصةً بالنسبة إلى شعب أفغانستان والقوات الأمريكية والموظفين الآخرين الذين خدموا هناك، لكنه كان ضرورياً لإعداد الجيش الأمريكي لمواجهة التحديات المقبلة. وجاء أحد هذه التحديات بسرعة أكبر من التوقعات، مع الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير 2022. وإذا كانت الولايات المتحدة لا تزال تقاتل في أفغانستان، فقد يكون من المحتمل جداً أن تفعل روسيا كل ما في وسعها لمساعدة طالبان وإشغال القوات الأمريكية هناك، ومنعها من تركيز اهتمامها على مساعدة أوكرانيا.


2– استمرار مواجهة خطر الإرهاب دون الانخراط في حروب طويلة الأمد: حتى مع تحول الأولويات الأمريكية بعيداً عن التدخلات العسكرية الكبرى، يؤكد "سوليفان" أن واشنطن ستظل على استعداد للتعامل مع التهديد الدائم المتمثل في الإرهاب الدولي، ويدلل على ذلك بالتحركات الأمريكية في أفغانستان، وعلى الأخص من خلال العملية التي قتلت زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، فضلاً عن تحركات أخرى في الصومال وسوريا وأماكن غيرهما، متعهداً بالاستمرار في القيام بذلك الدور، لكن مع تجنُّب الحروب الطويلة الأمد التي يمكن أن تُقيِّد القوات الأمريكية، والتي لا تفعل الكثير لتقليل التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة.


4– الإشادة بالجهود الأمريكية لدعم الاستقرار والتهدئة في العراق واليمن: فيما يتعلق بالشرق الأوسط، صعد "بايدن" إلى الرئاسة في وقت كانت فيه المنطقة تتعرض لضغوط شديدة؛ فقد كانت الحرب في اليمن تتصاعد، وكانت القوات الأمريكية تتعرض لهجوم منتظم في العراق وسوريا. وفي سبتمبر 2020، قبل شهرين من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، هدد وزير الخارجية مايك بومبيو بإغلاق السفارة الأمريكية في بغداد، بعد أن أُغلقت القنصلية الأمريكية في البصرة بالفعل. وبعد ذلك بوقت قصير، تعرضت السفارة لأكبر هجوم صاروخي على المنطقة الخضراء بالعاصمة منذ أكثر من عقد من الزمن.


ويُشير مستشار الأمن القومي الأمريكي إلى أنه في شهر أكتوبر، دخلت الحرب في اليمن الشهر الثامن عشر من الهدنة، بعد أن كانت سبباً لعدم الاستقرار الإقليمي والمعاناة الإنسانية الهائلة. ويرجع ذلك إلى "الدبلوماسية الأمريكية المستمرة والمبدئية". ويُجادِل "سوليفان" أنه على الرغم من أن الشرق الأوسط يظل محفوفاً بالتحديات الدائمة، فإن المنطقة أصبحت أكثر هدوءاً مما كانت عليه لعقود من الزمن.

ويُلاحَظ أن هذه الأطروحات لسوليفان لم تتفق كثيراً مع واقع المنطقة، وخصوصاً بعد عملية طوفان الأقصى التي نفَّذتها حركة حماس ضد إسرائيل، وما تلا ذلك من تصعيد إسرائيلي هائل ضد قطاع غزة، وكذلك استهداف القواعد والقوات الأمريكية في عدة مناطق بالشرق الأوسط.


5– الدفع نحو مشروعات اقتصادية لربط إسرائيل بالدول العربية: رغم الترويج لتلك "النجاحات" في الشرق الأوسط، يؤكد مستشار الرئيس الأمريكي أن التقدم هش، لكنه ليس صدفة، ويشير إلى اجتماع جدة الذي انعقد العام الماضي، وعرض فيه "بايدن" سياسته تجاه الشرق الأوسط في خطاب أمام زعماء دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن؛ حيث يعيد نهجُ الرئيس الأمريكي الانضباط إلى سياسة الولايات المتحدة، ويؤكد ردع العدوان، وتهدئة الصراعات، واندماج المنطقة من خلال مشاريع البنية التحتية المشتركة والشراكات الجديدة، بما في ذلك الشراكات بين إسرائيل والدول العربية، وهي السياسة التي تؤتي ثمارها، بحسب "سوليفان".


6– استمرار تحديات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني: في حين يرى "جيك سوليفان" أن هذا النهج المنضبط تجاه منطقة الشرق الأوسط يُحرِّر الموارد الأمريكية لأولويات عالمية أخرى، ويُقلِّل من خطر نشوب صراعات جديدة في المنطقة، ويضمن حماية مصالح الولايات المتحدة على أساس أكثر استدامةً بكثير، فإنه يعترف بوجود تحديات، منها استمرار توتر الوضع الإسرائيلي الفلسطيني، لا سيما في الضفة الغربية، ولكن يجادل مستشار الأمن القومي الأمريكي أنه "في مواجهة الاحتكاكات الخطيرة، قامت الإدارة الأمريكية بتهدئة الأزمات في غزة، واستعادت الدبلوماسية المباشرة بين الطرفين بعد سنوات من غيابها". وبالرغم من هذه الرؤية، فقد أثبتت التطورات في غزة عدم دقة التقييم.


7– التلويح بالاستعداد لاستخدام الحل العسكري ضد إيران: ومن جانب آخر، لا تزال لدى الولايات المتحدة قناعة بأن إيران تُشكِّل تهديداً، ويُشكِّل برنامجها النووي تحدياً عالمياً. وقد تصرَّفت واشنطن تصرفاً عسكرياً لحماية الأفراد الأمريكيين، وتعزيز الردع، جنباً إلى جنب مع الدبلوماسية؛ لتثبيط المزيد من "العدوان"، مع إعادة تأكيد الالتزام بضمان عدم حصول إيران أبداً على سلاح نووي. ومع أنه يشير إلى أنه يجب ألَّا تكون القوة العسكرية أبداً الملاذ الأول، فإنه يؤكد أن بلاده تقف على أهبة الاستعداد لاستخدامها عند الضرورة لحماية أفراد الولايات المتحدة ومصالحها في هذه المنطقة المهمة.


خصوم واشنطن

يرى "سوليفان" أن روسيا والصين تُشكِّلان تحديَين جوهريَّين بالنسبة إلى واشنطن، ومن ثم يتعيَّن على الولايات المتحدة التعامل معهما، وهو ما يتناوله المقال على النحو التالي:


1– الاستعداد لحقبة جديدة تتمحور حول "ردع عدوان القوى العظمى": مع انتهاء حقبةٍ ما، تحتاج الولايات المتحدة إلى الاستعداد للحقبة التالية، وعلى وجه الخصوص من خلال ردع "عدوان القوى العظمى" والرد عليه؛ فعندما اكتشفت الإدارة الأمريكية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستعد لغزو أوكرانيا، واجهت تحدياً يتمثل في أن الولايات المتحدة لم تكن ملتزمة بموجب معاهدة بالدفاع عن أوكرانيا، ولكن إذا لم يتم الرد على "العدوان" الروسي، فسوف تختفي دولة ذات سيادة، وستكون رسالة إلى "خصوم واشنطن" في جميع أنحاء العالم.


وقد سعت الولايات المتحدة إلى تجنب الأزمة من خلال توضيحها لروسيا أنها سوف ترد من خلال دعم أوكرانيا وإظهار الاستعداد للانخراط في محادثات حول الأمن الأوروبي، حتى برغم أن روسيا لم تكن جادة في القيام بذلك، كما استخدمت واشنطن النشر العلني المتعمد والمصرح به للمعلومات الاستخبارية لتحذير كييف، وحشد شركاء الولايات المتحدة، وحرمان روسيا من القدرة على خلق ذرائع كاذبة لغزوها.


2– مساعدة أوكرانيا دون إرسال قوات أمريكية إلى الحرب: عندما هاجمت روسيا أوكرانيا، طبَّقت الإدارة الأمريكية سياسة لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها دون إرسال قوات أمريكية إلى الحرب؛ حيث أرسلت الولايات المتحدة كميات هائلة من الأسلحة الدفاعية إلى الأوكرانيين، وحشدت الحلفاء والشركاء للقيام بالمثل، وقامت بتنسيق المهمة اللوجستية الهائلة لإيصال تلك المساعدات إلى ساحة المعركة، التي تم تقسيمها إلى 47 حزمة مختلفة من المساعدات العسكرية حتى الآن، وتم تصميمها للاستجابة لاحتياجات أوكرانيا مع تطورها على مدار الصراع. وتعاونت واشنطن بشكل وثيق مع الحكومة الأوكرانية بشأن متطلباتها، وعملت من خلال التفاصيل الفنية واللوجستية للتأكد من أن القوات الأوكرانية لديها ما تحتاجه؛ وذلك مع زيادة التعاون الاستخباراتي الأمريكي مع أوكرانيا، فضلاً عن جهود التدريب وفرض عقوبات بعيدة المدى على روسيا للحد من قدرتها الحربية.


3– الدور الرئيسي للاستخبارات الأمريكية في مواجهة المفاجآت: من الواضح أن العالم أصبح أكثر قدرةً على المنافسة، وأن التكنولوجيا سوف تشكل قوة تخريبية، وأن المشاكل المشتركة سوف تصبح أكثر حدةً بمرور الوقت، لكن ليس من الواضح على وجه التحديد كيف ستظهر هذه القوى. لقد فوجئت الولايات المتحدة في الماضي (مع أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962 وغزو العراق للكويت في عام 1990)، ومن المُرجَّح أن تُفاجَأ في المستقبل، بغض النظر عن مدى الجهود التي تبذلها الحكومة لتوقُّع ما هو آتٍ.


ومع ذلك، أصابت وكالات الاستخبارات الأمريكية كثيراً، بما في ذلك التحذير الدقيق من الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، وتصميم استراتيجية للعمل عبر مجموعة واسعة من السيناريوهات. ومن خلال الاستثمار في مصادر القوة الداخلية، وتعميق التحالفات والشراكات، وتحقيق نتائج في مواجهة التحديات العالمية، والانضباط في ممارسة القوة، ستكون الولايات المتحدة مستعدة لتعزيز رؤيتها لعالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن.


4– اختلاف المنافسة مع الصين عن المنافسات السابقة: سيكون عصر المنافسة القادم مختلفاً عن أي شيء جرى من قبل؛ فبعدما كانت المنافسة الأمنية الأوروبية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين منافسة إقليمية إلى حد كبير بين قوى متوسطة الحجم وقريبة، وانتهت في نهاية المطاف إلى كارثة؛ كانت الحرب الباردة – التي أعقبت الحرب الأكثر تدميراً في تاريخ البشرية – بين قوتين عظميين كانت مستويات الاعتماد المتبادل بينهما منخفضة للغاية، وانتهى ذلك بشكل حاسم لصالح القوة الأمريكية. أما المنافسة اليوم فمختلفة جذرياً؛ فالولايات المتحدة والصين مترابطتان اقتصادياً، ورغم التنافس العالمي الشديد بينهما، في ظل الاختلاف الجذري لمصالحهما، فإنه ليس تنافساً صفرياً، خاصةً أن التحديات المشتركة التي يواجهها الجانبان غير مسبوقة.


5– الدفاع عن قيود حماية التكنولوجيا الحساسة في مواجهة الصين: فيما لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بعلاقات تجارية واستثمارية كبيرة مع الصين، يشير المقال أيضاً إلى تعقُّد العلاقات الاقتصادية باعتبارها دولة منافسة، والحاجة إلى ردع "الممارسات التجارية غير العادلة التي تضر بالعمال الأمريكيين"؛ وذلك في ظل القلق من إمكانية استفادة الصين من الانفتاح الأمريكي لاستخدام التقنيات الأمريكية ضد الولايات المتحدة وحلفائها؛ حيث تسعى واشنطن إلى حماية التكنولوجيا الحساسة من خلال قيود مركزة انتقدتها جهات أخرى بوصفها "تجارية" أو "حمائية"، فيما يدافع عنها "سوليفان" باعتبارها خطوات تم اتخاذها بالشراكة مع الآخرين، وتركز على مجموعة ضيقة من التقنيات، وتحتاج الولايات المتحدة إلى اتخاذها لحماية أمنها القومي.


6– الحاجة إلى إدارة المنافسة مع الصين لتقليل التوترات: تحتاج واشنطن وبكين إلى معرفة كيفية إدارة المنافسة؛ لتقليل التوترات وإيجاد طريقة للمضي قدماً في مواجهة التحديات المشتركة؛ ولهذا السبب تعمل إدارة بايدن على تكثيف الدبلوماسية الأمريكية مع الصين، والحفاظ على قنوات الاتصال الحالية، وإنشاء قنوات جديدة؛ فقد استوعب الأمريكيون بعض الدروس المستفادة من أزمات العقود الماضية، وخاصةً احتمال الانزلاق إلى الصراع. ويُشكِّل التفاعل الرفيع المستوى والمتكرر أهمية بالغة لتوضيح الفهم الخاطئ، وتجنُّب سوء التواصل، وإرسال إشارات لا لبس فيها، ووقف الانحدار الذي قد يؤدي إلى أزمة كبرى.


7– إدراك توافق بعض ما تفعله الصين مع المصالح الأمريكية: يُذكِّر مستشار الأمن القومي الأمريكي بأنه ليس كل ما يفعله المنافسون يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة؛ فالاتفاق الذي توسَّطت فيه الصين هذا العام بين إيران والمملكة العربية السعودية أدى جزئياً إلى خفض التوترات بين هذين البلدين، وهو تطور تريد الولايات المتحدة تحقيقه أيضاً. وثمة مثال آخر يستعين به "سوليفان"، وهو أنه بينما تنخرط الولايات المتحدة والصين في منافسة تكنولوجية سريعة وعالية المخاطر، يتعين على الجانبين أن يكونا قادرين على العمل معاً في مواجهة المخاطر التي تنشأ عن الذكاء الاصطناعي.


8– تحفيز دول الجنوب على التصرف وفق المصالح الأمريكية: يدرك مستشار الأمن القومي الأمريكي أن من الطبيعي للدول المتحالفة مع الولايات المتحدة والصين ألَّا تتعامل مع كليهما، سعياً إلى الاستفادة من المنافسة وحماية مصالحها الخاصة من أي آثار غير مباشرة. وترى العديد من هذه الدول نفسها جزءاً من الجنوب العالمي، وهو التجمُّع الذي لديه منطق خاص به، ونقد متميز للغرب يعود تاريخه إلى الحرب الباردة وتأسيس حركة عدم الانحياز.


ولكن، خلافاً لما حدث خلال الحرب الباردة، سوف تتجنب الولايات المتحدة إغراءات رؤية العالم من خلال منظور المنافسة الجيوسياسية فقط أو التعامل مع هذه البلدان باعتبارها أماكن للتنافس بالوكالة، وبدلاً من ذلك، ستواصل التعامل معها وفقاً لشروطها الخاصة. وينبغي لواشنطن أن تكون واقعية بشأن توقعاتها عند التعامل مع هذه الدول، وأن تحترم سيادتها وحقها في اتخاذ القرارات التي تخدم مصالحها الخاصة، مع تحديد ما هو أكثر أهميةً بالنسبة إلى الولايات المتحدة بوضوح. وهذه هي الطريقة التي ستسعى من خلالها إدارة "بايدن" إلى تشكيل العلاقات معها؛ بحيث يكون لديها في المحصلة حوافز للتصرف بطرق تتفق مع المصالح الأمريكية.


9– بذل المزيد من الوقت في الحوار مع الدول المختلفة مع واشنطن: يرى "سوليفان" أنه خلال العقد المقبل، سوف ينفق المسؤولون الأمريكيون وقتاً أطول مما قضوه على مدى السنوات الثلاثين الماضية في التحدث مع البلدان التي يختلفون معها، وغالباً حول قضايا جوهرية؛ فقد أصبح العالم أكثر تنافسيةً، ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تتحدث إلا مع أولئك الذين يشاركونها رؤيتها أو قيمها، وستواصل العمل على تشكيل المشهد الدبلوماسي الشامل بطرق تعزز المصالح الأمريكية والمصالح المشتركة. وعلى سبيل المثال، عندما أعلنت الصين والبرازيل ومجموعة من سبع دول أفريقية أنها ستواصل جهود السلام لإنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا، لم ترفض واشنطن هذه المبادرات من حيث المبدأ، ولكن دعت هذه الدول إلى التحدث مع المسؤولين الأوكرانيين وتقديم ضمانات بأن مقترحاتهم للتسوية ستكون متسقة مع ميثاق الأمم المتحدة.


ختاماً، يؤكد مستشار الأمن القومي الأمريكي وصول الولايات المتحدة إلى مرحلة جديدة من الدور العالمي الذي تولته بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث تجد نفسها الآن في عصر تتأقلم فيه مع فترة جديدة من المنافسة في عصر الاعتماد المتبادل والتحديات العابرة للحدود الوطنية، وهو ما لا يعني القطيعة مع الماضي أو التنازل عن المكاسب التي تحقَّقت، لكنه يعني إرساء أسس جديدة للقوة الأمريكية؛ ما يتطلب إعادة النظر في الافتراضات الراسخة من أجل تحقيق وعد إدارة "بايدن" بجعل الولايات المتحدة أقوى وأفضل استعداداً لما ينتظرها في المستقبل.


المصدر:

Jake Sullivan, "The Sources of American Power: A Foreign Policy for a Changed World", Foreign Affairs, Volume 102, Number 6, November/December 2023, pp. 8 – 29.