ربما تكون عملية طوفان الأقصى، التي بدأتها حركة حماس في 7 أكتوبر 2023، واحدة من أكبر المواجهات العسكرية التي تقع بين إسرائيل والحركات الفلسطينية؛ فالعملية التي بدت مباغتةً بشكل كبير، قد عكست عدداً من التحولات، سواء على الصعيد الإسرائيلي أو الفلسطيني؛ فعلى الصعيد الإسرائيلي بدا أن ثمة إخفاقاً استخباراتياً وعسكرياً حاداً حال دون استباق العملية والاستعداد المبكر لها، كما بدا أن الصراع السياسي المحتدم في إسرائيل منذ شهور على خلفية أزمة الإصلاحات القضائية، التي أدت إلى انقسامات داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وامتناع البعض عن الخدمة العسكرية اعتراضاً على سياسات نتنياهو؛ ساهمت في تزايد ارتباك المؤسسات السياسية والعسكرية داخل إسرائيل إزاء تطورات عملية طوفان الأقصى. أضف إلى ذلك التكلفة الهائلة للعملية بالنسبة إلى إسرائيل، سواء مادياً أو بشرياً.
وعلى الجانب الفلسطيني، تكشف العملية عن تطور ملحوظ في قدرات الحركات الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص حركة حماس وجناحها العسكري كتائب القسام؛ فالعملية شهدت اختراقاً من جانب عناصر الحركة لعدد من المناطق الإسرائيلية خارج قطاع غزة وصلت إلى نحو 22 منطقة بمسافة تبعد عن القطاع بنحو 15 ميلاً، كما أن الهجوم الفلسطيني شهد تسلل عناصر حماس إلى داخل مناطق إسرائيلية براً وجواً بواسطة الطائرات الشراعية، وكذلك بحراً بالقوارب. هذا التطور أثار تساؤلات عديدة حول الكيفية التي نجحت من خلالها الحركة في تطوير قدراتها العسكرية، وطبيعة القوى الإقليمية الداعمة للحركة، وحدود دورها في تطوير قدراتها العسكرية.
صراع مفتوح
دخل الصراع العسكري بين حركة حماس وبين إسرائيل يومه الثالث بعد إعلان حركة حماس إطلاق عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر الجاري، وهي العملية التي كشفت عن عدد من الدلالات الجوهرية المتمثلة فيما يلي:
1- التطور في التكتيكات العسكرية لحركة حماس: أحدثت العملية العسكرية التي شنتها حركة حماس صدمة لتل أبيب، حتى إن موقع تايمز أوف إسرائيل وصف الأمر بقوله: "إسرائيل تتعرض للمباغتة مرةً أخرى، بعد مضي 50 عاماً على حرب عام 1973، وهذه المرة على يد حماس"؛ فقد نجحت حماس خلال هذه العملية في التعبير عن تحولات كبيرة في تكتيكاتها العسكرية، سواء من حيث عامل توقيت العملية – وهو يوم عطلة عيد "بهجة التوراة" اليهودي في إسرائيل، الذي يكون في الغالب يوم تراخٍ بالنسبة إلى القوات الإسرائيلية – كما وظفت حماس تكتيكات الخداع في تنفيذ العملية؛ إذ بدأت العملية فجر يوم 7 أكتوبر 2023 بعد إطلاق حركة حماس آلاف الصواريخ على جنوب إسرائيل.
كانت عملية إطلاق الصواريخ تجاه إسرائيل بمنزلة غطاء لعملية التسلل التي نفَّذتها عناصر حركة حماس، التي تمكَّنت من تدمير أجزاء من الجدار العازل والعبور من قطاع غزة إلى داخل الأراضي الإسرائيلية. واخترقت عناصر الحركة المناطق الإسرائيلية، في نحو 22 منطقة تَبعُد عن قطاع غزة بنحو 15 ميلاً، عبر البر والجو بواسطة الطائرات الشراعية، وكذلك بحراً باستخدام قوارب، كما كشفت كتائب القسام أن "سلاحها الجوي شارك بـ35 مُسيَّرة انتحارية من طراز الزواري في جميع محاور القتال في الساعات الأولى من عملية طوفان الأقصى". وتضمَّنت الهجمات استيلاء عناصر حماس على بعض المعدات والآليات العسكرية الإسرائيلية، ناهيك عن أسر أعداد كبيرة، وكذلك السيطرة المؤقتة على بعض القواعد العسكرية الإسرائيلية، على غرار قاعدة "رعيم" العسكرية، وهي مقر فرقة غزة في الجيش الإسرائيلي؛ وذلك قبل أن تستعيدها القوات الإسرائيلية مساء يوم 7 أكتوبر الجاري.
فالمُلاحَظ خلال العملية العسكرية لحماس أن الحركة باتت تُنفِّذ هجماتها على عدة مستويات دون الاقتصار على الهجمات الصاروخية. علاوةً على ذلك، أصبحت الحركة تبتكر أساليب جديدة في الهجمات، مثل استخدام الطائرات الشراعية، والمُسيَّرات الانتحارية، واستخدام الدراجات النارية في انتقال المقاتلين من قطاع غزة إلى داخل المناطق الإسرائيلية، ناهيك عن الاتجاه نحو نقل القتال إلى داخل المستوطنات الإسرائيلية، وهو الأمر الذي ساهم في تحييد سلاح الجو الإسرائيلي.
2- تصاعد تكلفة العملية البشرية بالنسبة إلى إسرائيل: تضمَّنت العملية العسكرية خسائر هائلة بالنسبة إلى الطرف الإسرائيلي، وهي خسائر ربما تكون غير مسبوقة في تاريخ المواجهات بين إسرائيل والحركات الفلسطينية؛ فحتى الوقت الراهن تشير التقديرات إلى وصول عدد القتلى الإسرائيليين إلى نحو 800 قتيل، وتجاوُز المصابين 2000 شخص. هذه الحصيلة تضمَّنت مقتل بعض القادة العسكريين الإسرائيليين. ووفقاً لإذاعة الجيش الإسرائيلي، قُتل في العملية قائد لواء ناحل، ونائب قائد وحدة ماجلان، وقائد كتيبة تكشوف، وكذلك قائد كتيبة الاتصالات، إضافة إلى قائد سرية، وقائد فصيل في قيادة الجبهة الداخلية.
اللافت أيضاً أن عناصر حماس حرصوا خلال العملية على أسر العديد من الإسرائيليين، مدنيين وعسكريين؛ حيث صرحت الحركة بأن لديها "عدداً كبيراً من الأسرى الإسرائيليين؛ بينهم ضباط كبار"، كما خرج "أبو عبيدة" المتحدث باسم كتائب القسام الجناح المسلح لحركة حماس في تسجيل صوتي، ليؤكد "أن العدد الإجمالي للإسرائيليين الذين أسرتهم الحركة في عملية طوفان الأقصى أكثر مما يعتقد بنيامين نتنياهو بأضعاف مضاعفة"، وأضاف محذراً الحكومة الإسرائيلية من استمرار الاستهداف الجوي لقطاع غزة، وأن "الأسرى موجودون بكل المحاور في قطاع غزة، وسيجري عليهم ما يجري على أهالي قطاع غزة". وبالرغم من عدم الإعلان بصورة نهائية عن عدد الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس، فإن بعض التقديرات ذهبت إلى أن عدد الأسرى قد يصل إلى 100.
3- إعلان إسرائيل حالة الحرب: خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي، بعد ساعات قليلة من هجوم حماس، ليعلن أن إسرائيل في حالة حرب، وطالب المواطنين بالانصياع لأوامر الجيش وقوات الأمن الإسرائيلية. وفي يوم 8 أكتوبر الجاري، أفاد مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" بأن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر اعتمد حالة الحرب رسمياً على الحركات الفلسطينية. وتُعَد هذه المرة هي الأولى منذ 50 عاماً – أي منذ حرب 6 أكتوبر 1973 – التي تعلن فيها إسرائيل "حالة الحرب" الكاملة. وتعني حالة الحرب استدعاء قوات الاحتياط، ووضع جميع الموارد تحت تصرُّف الجيش الإسرائيلي، كما يرتبط بهذه الحالة انتشار عسكري واسع النطاق لقوات الاحتياط قرب مناطق الاشتباكات على حدود قطاع غزة، وإعلان حالة الطوارئ في نطاق 80 كم من قطاع غزة، وتقييد التجمُّعات، ووضع ضوابط على الحركة.
كما أعلنت إسرائيل عن إطلاق عملية "السيوف الحديدية" لاستهداف قطاع غزة؛ حيث توعَّد نتنياهو بالقضاء على كافة المقاتلين التابعين لحماس، وتوعَّد بتحويل قطاع غزة إلى "جزر خَرِبة"، داعياً الفلسطينيين في غزة إلى الخروج منها. وقال نتنياهو إنه سيستخدم كافة قدرات الجيش الإسرائيلي للقضاء على حركة حماس، مبيناً أن الحرب "ستكون طويلة"> وقال نتنياهو إن الجيش الإسرائيلي "على وشك استخدام كل قوته للقضاء على حماس"، مضيفاً: "سنضربهم حتى النهاية، وننتقم بقوة لهذا اليوم الأسود الذي ألحقوه بإسرائيل وشعبها". وهكذا نفَّذت إسرائيل على مدار ثلاثة أيام العديد من الغارات الجوية ضد أهداف في قطاع غزة.
4- تأكيد الإخفاق الاستخباراتي الإسرائيلي: تعكس العملية العسكرية لحماس حالة التأزم في المؤسسات الاستخباراتية الإسرائيلية؛ حيث نجحت حركة حماس في مباغتة إسرائيل وتنفيذ هجوم مفاجئ على عدة محاور دون أن تتنبه الاستخبارات الإسرائيلية إلى تخطيط الحركة لهذه العملية الضخمة، ودون أن تُوجِّه الحكومة للاستعداد عسكرياً للعملية. وفي هذا الصدد، تعرَّضت أجهزة الاستخبارات لانتقادات حادة في الساعات التي تلت عملية طوفان الأقصى؛ فبالرغم مما تمتلكه هذه الأجهزة من موارد، لم تكن قادرة على اكتشاف خطط حركة حماس، وتحييد آثار العملية قبل تنفيذها.
لقد عبَّرت بعض التقارير عن معضلة الاستخبارات الإسرائيلية في هذا الصدد؛ حيث كشفت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، في تقرير لها يوم 7 أكتوبر الجاري، عن أن كبار ضباط جيش الدفاع الإسرائيلي ومسؤولين في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، أصدروا تقييماً خلال الأيام القليلة التي سبقت العملية، توقعوا فيه أن حركة حماس ترغب في تجنب حرب شاملة مع إسرائيل. وبحسب الصحيفة، أكد المسؤولون الكبار أن حماس لا ترغب في تعريض الإنجازات السابقة التي أدت إلى تحسين حياة سكان القطاع للخطر.
5- إخفاق الدفاعات الجوية الإسرائيلية: كانت إسرائيل على مدار السنوات الماضية، تروج لقدرات الدفاع الجوي الخاص بها، وما تُعرَف بالقبة الحديدية، وتصورها بأنها قادرة على تأمين إسرائيل، ولكن جاء الهجوم الأخير لحركة حماس ليعكس إشكاليات حادة بشأن الدفاع الجوي الإسرائيلي؛ فالدفاعات الإسرائيلية عجزت عن اكتشاف الطائرات الشراعية التي استخدمها مقاتلو الحركة في الوصول إلى عمق بعض المناطق الإسرائيلية.
كما أن موجات الضرب الصاروخي التي استخدمتها حماس دللت على معضلات جوهرية في القبة الحديدية الإسرائيلية؛ فبحسب بعض التقديرات، أطلقت حماس أكثر من 5000 صاروخ في 20 دقيقة تقريباً، وهو ما أدى إلى إرهاق نظام القبة الحديدية بعد إفراغ صواريخه الأولية وترك دفاعاته مفتوحة عندما يبدأ في إعادة التحميل. وخلال تلك الفترة، يصبح المجال الجوي لإسرائيل مفتوحاً أمام الصواريخ الفلسطينية، وهكذا فإن العدد الكبير من الصواريخ التي استخدمتها حماس، كان أكبر من قدرة القبة الحديدية على المواجهة، كما أشارت تقارير إلى أن استخدام صواريخ على ارتفاعات متباينة يؤدي إلى تشتيت القبة الحديدية التي لا تكون حينها قادرة على مواجهة كافة الصواريخ؛ بحيث تعطي الأفضلية لمواجهة بعض الصواريخ على حساب غيرها.
وفي هذا الصدد، كشفت بعض التقارير أن رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" طلب من الرئيس الأمريكي "جو بايدن"، خلال مكالمة هاتفية مساء يوم 7 أكتوبر الجاري، الحصول على تمويل أمريكي طارئ لتعزيز القبة الحديدية.
6- تزايد إنهاك القوات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية: تدلل عملية طوفان الأقصى، في جانب أساسي منها، على تزايد معدلات إنهاك القوات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية؛ فخلال الشهور الماضية تعرضت هذه القوات لأزمات حادة على خلفية التظاهرات المستمرة ضد خطة التعديلات القضائية لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وسرعان ما تسرَّبت الانقسامات إلى داخل المؤسسة العسكرية؛ حيث أعلن البعض رفضه الخدمة العسكرية في الجيش؛ فقد كشفت تقارير وسائل إعلام إسرائيلية، في الشهور الماضية، أن 161 من جنود وضباط سلاح الجو الإسرائيلي أعلنوا التوقف عن الخدمة؛ وذلك احتجاجاً على مشروع الإصلاح القضائي الذي تدعمه الحكومة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن القوات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية كانت منشغلة، خلال الشهور الماضية، في التعامل مع الاحتجاجات الفلسطينية المتصاعدة في مناطق الضفة الغربية والقدس تجاه السياسات الإسرائيلية، وكذلك مواجهة الهجمات المسلحة العديدة التي شهدتها مناطق إسرائيلية مثل تل أبيب والقدس، فضلاً عن المواجهات مع بعض المجموعات، مثل مجموعة عرين الأسود في الضفة الغربية. ولا يمكن إغفال أن هذه المعطيات ساهمت في تراجع أداء المؤسسة العسكرية في الصراع الرهن مع حركة حماس.
7- الصدمة الأمريكية من القدرات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية: لم تتوقف حدود الصدمة من عملية طوفان الأقصى عند الداخل الإسرائيلي، بل امتدت إلى حلفاء تل أبيب، وخاصةً الولايات المتحدة التي رأت الأداء العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي مخيباً للآمال. وفي هذا الصدد، نقلت "سي إن إن" يوم 8 أكتوبر 2023، عن مسؤول كبير في الاستخبارات الأمريكية، أن "قدرة حماس على تنسيق الهجمات على البلدات الإسرائيلية دون اكتشافها، أثارت مخاوف بشأن التكنولوجيا العمياء لجمع المعلومات بالنسبة إلى مسؤولي الاستخبارات الأمريكية".
وفي هذا الصدد، أكد الرئيس الأمريكي "بايدن" تقديم الدعم لإسرائيل في عمليتها العسكرية، كما قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن، يوم 8 أكتوبر الجاري: "ننظر في الطلبات الإضافية المحددة التي قدمها الإسرائيليون"، وتابع: "أعتقد أن من المرجح أن تسمعوا المزيد عن ذلك في وقت لاحق اليوم". وأكد بلينكن أن توجيهات الرئيس جو بايدن كانت "التأكد من أننا نقدم لإسرائيل كل ما تحتاجه في هذه اللحظة للتعامل مع هجمات حماس".
8- تنامي الشكوك بشأن دعم إيران ووكلائها لحماس: أثارت العملية العسكرية لحماس، والتطور النوعي في قدرات الحركة، شكوكاً كبيرةً بشأن إمكانية تلقي حماس دعماً خارجياً، وخصوصاً من إيران وحزب الله؛ فخلال السنوات الماضية، توطدت العلاقات بين حماس وطهران وحزب الله، وربما تكون طهران لعبت دوراً في تطوير قدرات حماس التسليحية. وصحيح أن الرئيس الإسرائيلي "إسحاق هرتسوج" ذكر أن "الهجوم الذي نفذته حركة حماس جاء بدعم وتوجيه من إيران"، بيد أن ما عزز الشكوك بشأن الدعم الإيراني لحماس، التصريحات التي صدرت عن طهران دعماً لعملية طوفان الأقصى؛ فقد ذكر يحيى رحيم صفوي مستشار المرشد الإيراني علي خامنئي، يوم 7 أكتوبر الجاري: "ندعم عملية طوفان الأقصى، ولدينا يقين أن جبهة المقاومة تدعمها أيضاً". وفي يوم 8 أكتوبر الجاري، أجرى الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" اتصالاً هاتفياً بقادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
9- حسابات حماس السياسية من اختيار توقيت العملية: يثير توقيت إطلاق عملية طوفان الأقصى بعض التساؤلات حول حسابات حماس السياسية من اختيار ذلك التوقيت بالتحديد؛ فالأمر اللافت هنا أن اختيار العملية جاء في شهر أكتوبر، وهو ما قد يرتبط في الذاكرة العربية بحرب أكتوبر 1973، وهو أمر قد تستهدف من خلاله حماس التأكيد مسار المواجهة العسكرية التاريخية مع إسرائيل. وفي السياق ذاته، تم تنفيذ العملية في الوقت الذي تشهد فيه العلاقات العربية الإسرائيلية تحولات تدفع نحو المزيد من الانفتاح. ومن ثم، قد تكون حماس نفذت هذه العملية لعرقلة هذه التحولات، وهي رغبة قد تتقاطع أيضاً مع إيران التي لا تريد هي الأخرى المزيد من الانفتاح في العلاقات العربية الإسرائيلية.
تداعيات رئيسية
سيكون لعملية طوفان الأقصى عدد من التداعيات الرئيسية التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- ترجيح استمرار الصراع العسكري مدة أطول: من المرجح ألا يتوقف الصراع والمواجهات الراهنة بين حماس وإسرائيل عند حدود الأيام الثلاثة، لكنها قد تمتد لعدة أيام أخرى؛ فالتصريحات الصادرة من "تل أبيب" تشير إلى أن الحرب ستمتد لفترة أطول، كما تشير بعض المصادر إلى أن إسرائيل تسعى إلى السيطرة على قطاع غزة، والتأكد من تحييد قدرات الحركات المسلحة الفلسطينية.
ويُلاحَظ هنا أن شعور إسرائيل بـ"الإهانة والإذلال" سيُشكِّل الدافع الأهم لتل أبيب من أجل مواصلة العمليات العسكرية ضد قطاع غزة خلال الأيام القادمة؛ فعلى حد تعبير "توماس فريدمان" تبدو "عملية طوفان الأقصى أسوأ من حرب أكتوبر بالنسبة إلى إسرائيل؛ فقد تسببت في إذلال الجيش الإسرائيلي من قِبل مجموعة صغيرة من الفلسطينيين، كما تغلبت على قوات حرس الحدود الإسرائيلية، وأعادت رهائن إسرائيليين إلى غزة عبر الحدود نفسها، رغم إنفاق إسرائيل ما يقرب من مليار دولار لإقامة جدار كان من المفترض أن يكون غير قابل للاختراق فعلياً".
أضف إلى ذلك حالة الارتباك التي سيطرت على الجيش الإسرائيلي لمدة يومين، حتى إن بعض المناطق الإسرائيلية كانت تشهد على مدار اليومين اشتباكات مسلحة مع عناصر حماس، ناهيك عن العدد الكبير في الضحايا والمصابين الإسرائيليين. وكذلك الدعم الأمريكي لإسرائيل؛ كل هذه المعطيات ترجح استمرار المواجهات العسكرية لفترة أطول.
2- تزايد الضغوط على حكومة نتنياهو: صحيح أن حالة الحرب الراهنة – بحسب تعبير الحكومة الإسرائيلية – وفرت لنتنياهو مخرجاً من أزمته السياسية التي عاشها خلال الشهور الماضية على خلفية خطة الإصلاح القضائي، لا سيما أن واشنطن طرحت جانباً خلافاتها مع نتنياهو وأعلنت وقوفها بجانب إسرائيل بكامل إمكاناتها، بيد أن عملية طوفان الأقصى، وما نجم عنها من تكلفة بشرية هائلة، تفرض ضغوطاً هائلة على حكومة نتنياهو وتضعف موقفه أمام الرأي العام.
فخلال الساعات الماضية، تصاعدت الانتقادات في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي لنتنياهو واعتبرت أنه يتحمل المسؤولية عما يجري، في ظل تسبُّبه خلال الشهور الماضية في انقسامات حادة داخل إسرائيل عبر تمسُّكه بمشروع الإصلاح القضائي، وهي الانقسامات التي أرهقت المؤسسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.
3- احتمالية تكثيف التدخل الأمريكي في الصراع العسكري: عقب انطلاق عملية طوفان الأقصى، أعلنت واشنطن عن تكثيف دعمها الاستخباراتي والعسكري لإسرائيل، كما أشارت تقارير إلى أن "هجوم حماس على إسرائيل كان مفاجئاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة؛ ما دفع واشنطن إلى دراسة تعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية مع إسرائيل". وتم الإعلان أيضاً عن تحريك الولايات المتحدة حاملة طائرات تابعة للبحرية الأمريكية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لإظهار الدعم لإسرائيل، ناهيك عن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي "بلينكن"، يوم 8 أكتوبر الجاري، عن امتلاكه "تقارير عن مقتل وفقدان عدد من الأمريكيين في الهجمات في إسرائيل"، لتشير فيما بعد وزارة الخارجية الأمريكية، يوم 9 أكتوبر الجاري، إلى مقتل 9 أمريكيين خلال الهجمات في إسرائيل.
بالرغم من أن هذه المعطيات تدعم احتمالية تزايد الانخراط الأمريكي في الصراع المسلح، فإن حدود هذا الانخراط تظل غير معروفة حتى اللحظة الراهنة، لا سيما أن التدخل المباشر بحجة الدفاع عن الرعايا الأمريكيين سيكون له عواقب وخيمة، وقد يكبد واشنطن تكلفة سياسية باهظة على أقل تقدير في منطقة الشرق الأوسط.
4- التوسع المحتمل في جبهات المواجهة العسكرية: ثمَّة تخوف يهيمن على إسرائيل في اللحظة الراهنة من أن تتوسع جبهات المواجهة العسكرية وألا تقتصر على المواجهة مع حركة حماس في غزة فقط، وخاصةً إذا طالت مدة العملية العسكرية الإسرائيلية لفترة أطول؛ فهناك احتمالية أن تتصاعد الأحداث في الضفة الغربية والقدس؛ فعلى سبيل المثال، دعت مجموعة "عرين الأسود" الفلسطينية المسلحة، يوم 7 أكتوبر الجاري، الفلسطينيين في الضفة الغربية، إلى التوجه إلى نقاط التماس ودخول المستوطنات وخوض مواجهات مع المستوطنين، كما شهدت الضفة الغربية يوم 8 أكتوبر الجاري إضراباً شمل كافة مناحي الحياة في الضفة الغربية؛ تنديداً بالعمليات الإسرائيلية في قطاع غزة.
علاوة على ذلك، فإن ثمة احتمالية أن يتوسع الصراع نحو لبنان في ظل تأكيد حزب الله اللبناني وقوفه بجانب حركة حماس، كما تبنى الحزب هجوماً بالقذائف، يوم 8 أكتوبر الجاري، باتجاه مركز عسكري إسرائيلي قرب مزارع "شبعا"، وهو الهجوم الذي أعقبه إطلاق إسرائيل وابلاً من المدفعية على جنوب لبنان؛ حيث قال الجيش الإسرائيلي إن إحدى طائراته بدون طيار قصفت موقعاً لحزب الله في منطقة "هار دوف" في شبعا. وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي "دانييل هاغاري" في تصريحات متلفزة: "في هذه المرحلة، لا يوجد أي تهديد آخر في هار دوف أو الساحة الشمالية".
5- استهداف المصالح الإسرائيلية في الخارج: قد تشهد الفترة القادمة تزايد استهداف المصالح الإسرائيلية في الخارج، وخاصةً في منطقة الشرق الأوسط؛ وذلك في ظل حالة الاستقطاب والشحن الإعلامي القائم في المنطقة، في ضوء الهجمات الإسرائيلية المكثفة على قطاع غزة؛ لذا أعلنت إسرائيل حالة التأهب القصوى في جميع السفارات الإسرائيلية في العالم. ووجهت تل أبيب تعليمات إلى جميع السفراء الإسرائيليين في العالم بعدم الخروج من المنزل، كما دعت الحكومة الإسرائيليين إلى عدم السفر إلى الدول التي تحذر منها السفارات الإسرائيلية.
6- حرص حركة حماس على توظيف ورقة الأسرى: ستعمل حركة حماس، خلال الأيام القادمة، على توظيف ورقة الأسرى الإسرائيليين لديها من أجل الضغط على تل أبيب، وجعلها أكثر تردداً في تنفيذ أي توغل عسكري بري في قطاع غزة. وبوجه عام ستُساوِم حماس إسرائيل للإفراج عن الأسرى الفلسطينيين لديها.
فالأمر المؤكد أن حصول حماس على أعداد كبيرة من الرهائن، سيكون مشكلة كبيرة بالنسبة إلى إسرائيل؛ ففي عام 2011، على سبيل المثال، قام رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" بمقايضة 1027 سجيناً فلسطينياً، مقابل استعادة جندي إسرائيلي واحد "جلعاد شاليط" من حماس. وهكذا يرجح أن تطلب حماس من إسرائيل إخلاء كل السجون الإسرائيلية من الفلسطينيين، حتى تطلق حماس المُحتجزين لديها في غزة.
7- الانخراط الإيراني المتزايد في الملف الفلسطيني: يرجح أن تؤدي المواجهات بين حماس وإسرائيل إلى تزايد الانخراط الإيراني في الملف الفلسطيني؛ فحماس باتت في اللحظة الراهنة أحد الأوراق التي يمكن أن تستخدمها طهران في الضغط على إسرائيل وواشنطن، وربما أيضاً الرياض، كما أن حماس في الوقت ذاته، وفي ظل تراجع علاقاتها بالكثير من الدول العربية في ضوء علاقاتها بجماعة الإخوان، تحتاج إلى دعم إيران وحزب الله بصورة كبيرة.
وبطبيعة الحال، يثير هذا الأمر مخاوف الولايات المتحدة، حتى إن نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي "جون فاينر"، صرح يوم 8 أكتوبر الجاري، بأن "واشنطن تراقب عن كثب مدى تورط إيران في الهجوم على إسرائيل، أو ما يمكن أن تقوم به في المستقبل". وأضاف "فاينر" أن "أكثر ما يقلق الولايات المتحدة هو الدور الذي ستلعبه إيران أو وكلاؤها مثل (حزب الله) في المستقبل".
8- إمكانية حدوث تصعيد بين إيران وإسرائيل: ربما تدفع عملية طوفان الأقصى نحو المزيد من التصعيد بين إيران وإسرائيل؛ وذلك في ظل الاتهامات الإسرائيلية لإيران بالتورط في دعم حركة حماس، وهي الاتهامات التي ردت عليها طهران بالإنكار، كما نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال"، التي تبنَّت سردية الدعم الإيراني لحماس، عن مسؤول إيراني، في تقرير لها يوم 9 أكتوبر الجاري؛ ما يفيد بأن طهران سترد بضربات صاروخية على إسرائيل من سوريا واليمن ولبنان وإيران، وسترسل مقاتليها من سوريا إلى إسرائيل، إذا تعرضت إيران لهجوم.
9- الانعكاسات السلبية على صورة العرب في الغرب: تكشف متابعة ردود الفعل الغربية على تطورات الصدام العسكري بين حركة حماس وإسرائيل، عن الدعم والمساندة الهائلة من جانب الدول الغربية لإسرائيل، واتهام حركة حماس بتنفيذ عملية إرهابية استهدفت مدنيين، بما في ذلك مواطنون من دول غربية. هذا الموقف يتناقض مع الموقف السائد في العديد من المجتمعات العربية، سواء من خلال مسيرات أو حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذي بدا داعماً، بشكل أو بآخر، لهجوم حركة حماس. هذا التناقض في المواقف سيكون له انعكاسات سلبية على صورة العرب في المجتمعات الغربية. وعليه ستكون المجتمعات العربية، وخاصة في الدول الغربية، مطالبة بتدشين حملة لإعادة التعريف بأبعاد القضية الفلسطينية، ومحاولة تغيير السردية التي تتبناها الدعاية الغربية إزاء الصراع، وتطورات الحرب الراهنة بين حماس وإسرائيل.
10- التأثير السلبي على المشاريع الاقتصادية الإقليمية مع إسرائيل: يحتمل أن تؤثر عملية طوفان الأقصى بصورة ما على المشاريع الاقتصادية الإقليمية التي تشترك فيها إسرائيل مع أطراف أخرى بالمنطقة، التي كان آخرها وأبرزها مشروع الممر الاقتصادي الذي يربط بين الهند وأوروبا، المعلن عنه في شهر سبتمبر الماضي؛ فالعملية العسكرية الأخيرة والمواجهات بين إسرائيل وحماس تكشف عن أن إسرائيل منطقة غير آمنة لتنفيذ مشروعات كبرى، وهو الأمر الذي يجعل الأطراف الدولية والإقليمية مترددة في الدخول في مشروعات كبرى مع إسرائيل خشية تعرضها للاستهداف من قبل المجموعات المسلحة.
خلاصة القول أن استمرار عملية طوفان الأقصى لأيام أخرى سيكون له تكلفة باهظة مادياً وبشرياً بالنسبة إلى الطرفين، وأن الطرف الفلسطيني سيكون الطرف الأكثر تعرضاً للخسائر في ظل ما تتمتع به إسرائيل من قدرات جوية تسمح لها بتنفيذ غارات جوية موسعة ضد قطاع غزة. ولكن مع ذلك سيكون لحركة حماس أوراق للضغط وإدارة الصراع مع إسرائيل، وخاصةً ورقة الأسرى، وكذلك حالة الارتباك العسكري والأمني الإسرائيلي. وبين التصعيد الإسرائيلي وأوراق المساومة لدى حماس سيكون للصراع ارتدادات بالنسبة إلى دول المنطقة، لا سيما فيما يتعلق بملف الانفتاح العربي على إسرائيل، أو حتى على مستوى دور إيران ووكلائها في المنطقة.