د. محمود زكريا

شهدت أوغندا الواقعة في إطار إقليم شرق أفريقيا تصاعداً في وتيرة الاضطرابات الداخلية خلال شهر يوليو 2024، ويرتبط ذلك بشكل مباشر بتدشين حملة على مواقع التواصل الاجتماعي قادتها مجموعات شبابية للدعوة إلى النزول في مسيرات شعبية والتحرك نحو مقر البرلمان في 23 يوليو 2024؛ وذلك احتجاجاً على اتساع نطاق الفساد واستشرائه في الدولة. وعلى الرغم من رفض السلطات الرسمية في الدولة إعطاء تصريح رسمي للمتظاهرين، فإن ذلك لم يَثنِهم عن قرارهم بالنزول إلى الشارع؛ ما أسفر عن إلقاء القبض على نحو (104) أشخاص بتهمة ارتكاب جرائم تتعلق بالنظام العام؛ وذلك وفقاً لبيان رسمي صادر عن الشرطة الأوغندية في 27 يوليو 2024. وبالرغم من التهدئة النسبية في حدة التظاهرات، فإن ما جرى خلَّف تداعيات عميقة على المشهد الأوغندي ستستمر خلال الفترة القادمة.ملامح مؤثرةثمَّة جملة من الملامح الرئيسية المرتبطة بالاحتجاجات الشعبية التي شهدتها أوغندا في أواخر يوليو 2023، وهي الملامح المتمثلة فيما يلي:1– تزايد معدلات الفساد في مؤسسات الدولة: شكلت معدلات الفساد المحرك الرئيسي لتدشين دعوات من القطاعات الشبابية عبر مواقع التواصل الاجتماعي للقيام بمسيرات واحتجاجات شعبية في 23 يوليو 2024 ضد النظام الحاكم بقيادة الرئيس "يوري موسيفيني"؛ حيث تعاني أوغندا من استشراء الفساد في مؤسسات وأجهزة الدولة بشكل كبير، كما أن العديد من المسؤولين العموميين متورطون في قضايا في هذا الشأن، ولعل هذا ما أسفر عن وجود أوغندا في الترتيب الـ(142) من بين (180) دولة في مؤشر مدركات الفساد لعام 2023 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية. ونتيجةً لما سبق، ظهرت حملة مكافحة الفساد لأول مرة على وسائل التواصل الاجتماعي في أواخر عام 2023، ولكن لم تكترث بها السلطات الأوغندية بسبب توقعها أنها ستكون قصيرة الأجل ومحدودة التأثير.2– تحذير النظام الحاكم من تدشين مظاهرات شعبية: تبلور ذلك من خلال خطاب متلفز للرئيس الأوغندي "يوري موسيفيني" في 23 يوليو 2024، حذر من خلاله المتظاهرين من مواصلة مساعيهم لتنظيم مسيرة احتجاجية إلى البرلمان لمكافحة الفساد، واصفاً ذلك بأنه "لعب بالنار"، كما أكد أنه لن يتم التسامح مع هذه الاحتجاجات المخطط لها على الإطلاق، وأشار إلى أن ذلك سيعيق تحركات الدولة بشأن إنتاج الثروة، وكذلك اتهم بعض منظمي هذه الاحتجاجات الشعبية بعملهم مع أطراف خارجية "أجنبية" من أجل التسبب في إحداث فوضى في الدولة.3– تعزيز الضغوط على المعارضة السياسية: تجلى ذلك من خلال قيام القوات الأمنية بغلق مقر أكبر حزب معارض "منصة الوحدة الوطنية" في 22 يوليو 2024؛ حيث أعلنت أن هذه الخطوة تشكل إجراءً احترازياً ضد التعبئة الشعبية؛ وذلك قبل اندلاع الاحتجاجات المخطط لها، وهو ما رفضه رئيس الحزب "روبرت كياجولاني"، الذي أصدر منشوراً على منصة التواصل الاجتماعي "إكس" أكد من خلاله محاصرة ومداهمة القوات الأمنية مقر الحزب، مع الإشارة إلى اعتقال العديد من قياداته بشكل عنيف، وكذلك ذكر أن الحزب ليس جزءاً من تنظيم المسيرات الاحتجاجية التي وقعت في 23 يوليو 2024، لكنه يقدم الدعم والمساندة لها.4– اتباع الشرطة الأوغندية إجراءات مشددة ضد الاحتجاجات: تبلور ذلك من خلال عدم إصدار الأجهزة المعنية في الدولة تصريحاً أو أذناً مسبقاً بتنفيذ المسيرات والاحتجاجات الشعبية، ومع حدوثها بالفعل على أرضية الواقع قام النظام الحاكم بنشر عناصر الشرطة والجيش في العاصمة "كمبالا" للسيطرة على الأحداث المتأججة، بيد أن ذلك لم يمنع المتظاهرين من الشروع في المسيرات والاحتجاجات، وقد أسفر ذلك عن إلقاء القبض على نحو (104) أشخاص بتهمة الإخلال بالنظام العام وتهديده؛ وذلك وفقاً لبيان صادر عن الشرطة الأوغندية في 27 يوليو 2024. والجدير بالذكر أن هذه المرة هي الأولى التي تعلن فيها الشرطة عن عدد المحتجين الذين ألقت القبض عليهم خلال تظاهرات أو حركات احتجاجية.5– انتقال عدوى الاحتجاجات من كينيا إلى أوغندا: يشكل بَدء تظاهرات احتجاجية في كينيا الواقعة على الحدود الشرقية لأوغندا منذ 18 يونيو 2024 عاملاً محفزاً لحدوث مسيرات شعبية في أوغندا؛ علماً بأن هذه التظاهرات تعد هي الأكبر في كينيا منذ تولي الرئيس الحالي "ويليام روتو" منصبه بعد فوزه في الانتخابات في عام 2022. وقد بدأت الاحتجاجات معارضةً لمشروع قانون المالية لعام 2024 الذي يتضمن فرض زيادات ضريبية، والذي أقره البرلمان في 25 يونيو 2024؛ ما أدى إلى تصاعد وتيرة الاحتجاجات التي بلورت من خلالها دعوات داعمة لقضايا الإصلاح والمساءلة، والتي وصلت فيما بعد إلى المطالبة باستقالة النظام الحاكم بالكامل. وأسفرت هذه التظاهرات عن سقوط ما لا يقل عن نحو (50) شخصاً وإصابة نحو (413) شخصاً واعتقال نحو (682) شخصاً بشكل تعسفي؛ وذلك وفقاً لتقديرات اللجنة الوطنية الكينية لحقوق الإنسان. وقد دفعت هذه الاحتجاجات الرئيس الكيني إلى الإعلان عن سحب قانون المالية الجديد في أواخر يونيو 2024 وتشكيل حكومة جديدة في 20 يوليو 2024.تداعيات محتملةثمَّة جملة من التداعيات المحتملة على تصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية في أوغندا خلال الآونة الأخيرة، وتتمثل فيما يلي:1– احتمالية اتساع نطاق الاحتجاجات الشعبية ضد النظام الحاكم: يرتبط ذلك باحتمالية لجوء النظام الحاكم إلى تبني بعض الإصلاحات غير الهيكلية التي من شأنها امتصاص غضب المتظاهرين؛ وذلك على نحو ما حدث في كينيا، من قبيل محاسبة المسؤولين الفاسدين، وخفض عدد وأجور البرلمانيين. ويأتي ذلك في إطار الخشية من اتساع نطاق الاحتجاجات لتشمل المزيد من الفئات السكانية، ولا سيما في ضوء تمكُّن الناشطين الناطقين باللغة الإنجليزية الذين ينتمون في الغالب إلى الطبقة المتوسطة من حشد الأوغنديين الأكثر فقراً عبر اللغات المحلية.2– توسع الحكومة في تقييد أدوات التعبئة السياسية: ويدعم ذلك الاتجاهُ المُرجَّح المتعلق بتحرُّك النظام الحاكم خلال الآونة المقبلة نحو فرض مزيد من القيود على وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبار أنها كانت نقطة الانطلاق الرئيسية في تحريك المسيرات والتظاهرات الشعبية التي بدأت في 23 يوليو 2024، كما قد يتم تبني إجراءات أخرى لتقييد أنشطة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ذات التوجهات المعارضة للنظام الحاكم انطلاقاً من كونها قد تُستخدَم كأدوات مؤثرة في عمليات التعبئة والحشد الجماهيري؛ نظراً إلى ما قد تمتلكه من رأسمال بشري واجتماعي.3– استمرار تراجع الشرعية السياسية للنظام الحاكم: يدعم ذلك استمرارُ الرئيس الحالي "يوري موسيفني" في السلطة السياسية لفترة زمنية طويلة منذ عام 1986، وهي الفترة التي تعد واحدة من أطول فترات بقاء الرؤساء في الحكم في القارة الأفريقية. ويرتبط بذلك سيطرة حزب سياسي واحد "حركة المقاومة الوطنية" على مقاليد الحياة السياسية، وهو ما أفسح معه المجال أمام تصاعد وتيرة الانتقادات الشعبية، ولا سيما في أوساط قطاعات الشباب خلال السنوات الأخيرة، بفعل إساءة استخدام الأموال الحكومية على نطاق واسع في البلاد، والتقاعس عن محاكمة المسؤولين الفاسدين؛ علماً بأن وتيرة الاحتجاجات بدأت تُوظَّف كآلية ضد النظام الحاكم لأول مرة في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ وذلك تحت مسمى احتجاجات "المشي إلى العمل" في عام 2011 للاعتراض على ارتفاع أسعار الوقود. وأصبحت الاحتجاجات سمة أساسية في السياسة الأوغندية منذ عام 2017 فصاعداً، وهو ما استمر في ضوء قيام الموسيقي الشعبي "بوبي واين" بتشكيل حركته "قوة الشعب قوتنا" في عام 2018.4– تنامي الضغوط الدولية المطالِبة بمحاربة الفساد: يعزز من ذلك اتخاذُ بعض القوى الكبرى إجراءاتٍ فعليةً ضد أوغندا في هذا الشأن؛ حيث قامت الحكومة الأمريكية بفرض عقوبات ضد رئيسة البرلمان "أنيتا أنيت" وخمسة مسؤولين أوغنديين آخرين بفعل اتهامات تتعلق بالفساد، ومرتبطة بسرقة الآلاف من صفائح تسقيف المعادن التي كانت مخصصة للمجتمعات الضعيفة في منطقة "كاراموجا" الواقعة في شمال شرق البلاد، كما فرضت الحكومة البريطانية عقوبات على رئيسة البرلمان واثنين من المشرعين الأوغنديين البارزين، وهما: "زائد ماري كيتوتو" و"أجنيس ناندوتو"، وقد شملت هذه العقوبات حظر السفر وتجميد الأصول بموجب نظام العقوبات العالمي لمكافحة الفساد في المملكة المتحدة.5– تصاعد الانتقادات الخارجية للنظام الحاكم لتقييد حرية التجمع: فعلى سبيل المثال، أصدرت منظمة العفو الدولية بياناً في 25 يوليو 2024، انتقدت من خلاله "الأساليب القاسية التي اتبعتها الحكومة الأوغندية ضد المتظاهرين خلال المسيرات التي حدثت في 23 يوليو 2024"، كما طالبت السلطات الأوغندية بضرورة الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع من تم إلقاء القبض عليهم من جراء ممارسة حقهم في التجمع السلمي. وكذلك اتهمت منظمة "هيومن رايتس ووتش" (HRW) الحكومة الأوغندية بممارسة "العنف الصارخ ضد الحق في التجمع السلمي وحرية التعبير المكفولة في دستور أوغندا والقانون الدولي"، كما أكدت ضرورة استماع السلطات الرسمية إلى مخاوف ومطالب المحتجين.وختاماً، يمكن القول إن الاحتجاجات التي تشهدها أوغندا خلال الآونة الأخيرة تشير إلى تنامي الفجوة القائمة بين النظام الحاكم بقيادة الرئيس "يوري موسيفيني" من جانب والقطاعات الشعبية، ولا سيما فئة الشباب من جانب آخر، التي ترتبط بوجود إشكاليات هيكلية خلال السنوات الأخيرة، والتي تتعلق في الأساس باستشراء الفساد وسوء الإدارة والحكم وغياب العدالة الاجتماعية والمحاسبية وغيرها، وهو ما سيشكل بدوره عاملاً مؤثراً على استقرار وتيرة الحياة السياسية بشكل كبير في المدى المنظور على الأقل، وخاصة في ضوء اللجوء المحتمل من قِبل الإدارة السياسية إلى إحداث إصلاحات شكلية "غير مؤثرة" كما حدث في كينيا، التي تفتقد في جوهرها إلى إيجاد حلول جذرية للتحديات القائمة على مختلف الأصعدة.

كيف تصاعدت الاضطرابات الداخلية في أوغندا؟