بدا واضحاً اهتمام الصين ببلورة موقفها إزاء التصعيد العسكري الجاري بين إسرائيل و"حركة حماس"، وخصوصاً أنها كانت قد عينت مبعوثاً خاصاً للسلام إلى الشرق الأوسط منذ عام 2022 في دلالة على مدى الاهتمام بهذا الملف، وقام مبعوثها "تشاي جيون" بزيارة إلى المنطقة في الأسبوع الأخير من أكتوبر 2023؛ حيث تشاور مع عدد من المسؤولين في الإقليم بهدف التنسيق من أجل تطويق التصعيد والمساعدة على وقف العنف وخلق الظروف الملائمة التي تتطلبها التسوية السياسية. وتواكب ذلك مع زيارة وزير الخارجية الصيني "وانج يي" زيارة إلى واشنطن في 26 أكتوبر 2023 وعلى مدى ثلاثة أيام لإجراء مباحثات مع نظيره الأمريكي "أنتوني بلينكن" تتضمن مناقشة الوضع في قطاع غزة، وبعد اجتماعه بالممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية "جوزيب بوريل"، على هامش رئاستهما المشتركة للدورة الـ12 من الحوار الاستراتيجي الرفيع المستوى بين الصين والاتحاد الأوروبي في بكين، فضلاً عن اتصالاته ومشاوراته الدبلوماسية بخصوص تطورات الأوضاع في قطاع غزة وسبل تطويق التصعيد مع نظرائه في إسرائيل وفلسطين والمملكة السعودية وإيران وتركيا، وأيضاً مع وزير الخارجية الماليزي؛ حيث بلورت الخارجية الصينية خلال ذلك مواقف البلاد إزاء التصعيد الجاري بين إسرائيل و"حماس"، مع رفضها مشروع القرار الأمريكي في مجلس الأمن بشأن تطورات الأوضاع، الذي حمَّل الحركة وحدها مسؤولية التصعيد.
توازنات الصين
مع التصريحات والتحركات الدبلوماسية المشار إليها، جاءت مواقف بكين إزاء التصعيد الجاري بين إسرائيل و"حركة حماس" لتؤكد الآتي:
1- أولوية وقف القتال وضبط النفس: جاء أول مواقف الصين إثر اندلاع الصراع ليؤكد أولويات وقف القتال وإنهاء الأعمال العدائية في أسرع وقت ممكن، لحماية المدنيين وتجنب المزيد من تدهور الوضع، ولمنع الاقتتال من التوسع والانتشار إلى ما لا نهاية، مع ما يتطلبه الأمر من التزام طرفي الصراع بالهدوء وممارسة ضبط النفس؛ حيث أعربت الصين عن "قلقها العميق" من جراء تصعيد العنف الذي خلَّف مئات القتلى بين إسرائيل والفلسطينيين. وكان الرئيس الصيني "شي جين بينج" أعرب عن رغبة بكين في وقف الحرب بين إسرائيل و"حماس" في أسرع وقت ممكن، مضيفاً أن وقف إطلاق النار بات مُلحاً، ويجب إعلانه في أسرع وقت ممكن؛ لمنع اتساع نطاق الصراع أو خروجه عن السيطرة.
2- أهمية مراعاة القانون الدولي الإنساني: بالرغم من إقرار وزير خارجية الصين "وانج يي" لنظيره الإسرائيلي "إيلي كوهين" بأن "كل الدول لديها الحق في الدفاع عن النفس"، فإنه شدد في الوقت نفسه على أنه يتعين على هذه الدول "الالتزام بالقانون الإنساني الدولي وحماية سلامة المدنيين"؛ حيث اعتبر في سياقات أخرى أن ما تفعله إسرائيل يتجاوز حدود الدفاع عن النفس، وأنه يجب على قادتها التوقف عن "العقاب الجماعي لسكان غزة".
وقد ركز "وانج يي" في مشاوراته الدبلوماسية الواسعة على التدهور السريع في القطاع من جراء تطورات الصراع، الذي يتسبب في وقوع خسائر فادحة في صفوف المدنيين، مضيفاً أن الصين تشعر بالأسى إزاء العدد الكبير من الضحايا المدنيين بسبب الصراع، مع تشديدها على معارضتها أي انتهاك للقانون الدولي الإنساني وأهمية بذل كل جهد ممكن لضمان سلامة المدنيين، وفتح ممر الإنقاذ والمساعدات الإنسانية في أسرع وقت ممكن، ولمنع وقوع كارثة إنسانية خطيرة. وذلك ما يفسر أيضاً تأكيدات المبعوث الصيني للشرق الأوسط "تشاي جيون" أن الصين قدمت وستواصل تقديم المساعدات الإنسانية الطارئة للفلسطينيين من خلال الأمم المتحدة وعبر القنوات الثنائية للمساعدة في تخفيف الأزمة الإنسانية.
3- معالجة الصراع بناءً على حل الدولتين: مع استمرار تأزم الوضع بين إسرائيل والفلسطينيين، تشدد الصين دوماً على أن المخرج الأساسي يكمن في تنفيذ حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، معتبرة أن إهمال هذا الحل هو السبب الرئيسي لتطورات الصراع، والإخفاق في معالجة المظالم التاريخية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني. وبحسب وزير الخارجية الصيني، فإن لإسرائيل الحق في إقامة دولة، وكذلك الأمر للفلسطينيين، معتبراً أن الإسرائيليين حصلوا على ضمانات البقاء، ليكون من الواجب الآن الاهتمام ببقاء الفلسطينيين، وقال: "لم تعد الأمة اليهودية مشردة في العالم، ولكن متى تعود الأمة الفلسطينية إلى بيتها؟"، متحدثاً عن أن الظلم الواقع على الفلسطينيين مستمر منذ أكثر من نصف قرن، وهي المعاناة التي يجب العمل لمعالجتها من خلال حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. وبناءً على هذا الحل، يمكن أن ينعم الشرق الأوسط بالتعايش المتناغم بين الأمتين العربية واليهودية، مع تمتع إسرائيل بالأمن الدائم، بحسب وجهة النظر الصينية؛ حيث يمكن حينها معالجة المخاوف الأمنية المشروعة لجميع الأطراف بشكل حقيقي وشامل.
4- الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام: تعتبر الصين أن الاشتباكات المتكررة بين الفلسطينيين واسرائيل تُظهر على نحو مؤكد أن الركود الطويل الأمد في عملية السلام غير قابل للاستمرار، وأن التمسك بمفهوم الأمن المشترك هو وحده الذي يمكن أن يساعد في تحقيق الأمن المستدام، لتدعو بكين إلى عقد اجتماع سلام دولي "موسع وأكثر فاعلية" تحت رعاية الأمم المتحدة، وفي أقرب وقت ممكن، لاستئناف محادثات السلام المتوقفة بين الطرفين، ولبناء الإجماع الدولي اللازم، وللعمل من أجل إيجاد حل شامل وعادل ودائم للقضية الفلسطينية، ومعالجة المخاوف الأمنية لإسرائيل؛ وذلك على اعتبار أن استئناف محادثات السلام المجمدة بين طرفي الصراع هو الطريق الصحيح للدفع نحو حل الدولتين.
وفي هذا السياق، اعتبرت الصين أن هناك أولوية لوقف العنف ورفع الحصار، ومعالجة قضية السجناء الفلسطينيين، إضافة إلى وقف الاستيطان بما يمهد لتوفير الظروف اللازمة كي تستأنف المفاوضات. وأضافت الصين إلى كل ذلك ضرورة المصالحة الفلسطينية باعتبارها من عوامل المساعدة على استئناف محادثات السلام والدفع بها قدماً. وأعربت الصين خلال ذلك عن استعدادها للعب دور إيجابي في استئناف هذه المحادثات، وقد سبق أن قدمت مقترحاً لعقد مؤتمر دولي للسلام، على أن يكون ذلك بمشاركة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. وفي السابع والعشرين من سبتمبر 2023 – أي قبل عشرة أيام من اندلاع الأحداث الأخيرة – أعربت الصين في مجلس الأمن عن تأييدها دعوة الرئيس الفلسطيني "محمود عباس" إلى عقد مؤتمر دولي للسلام، وأن يقوم مجلس الأمن بإرسال بعثة إلى فلسطين وإسرائيل، جنباً إلى جنب مع تأكيد مواقفها المبدئية المشار إليها سابقاً.
5- التشديد على مسؤوليات المجتمع الدولي ومجلس الأمن: لم تغفل بكين في مواقفها تأكيد دور مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومسؤوليات المجتمع الدولي بحيث يتحرك سريعاً لحل الصراع، ويزيد من اهتماماته بالقضية الفلسطينية، ويسهل عملية المفاوضات، ويوجد السبل اللازمة لكي يتحقق السلام الدائم المنشود؛ وذلك على اعتبار أن المجتمع الدولي هو المنوط به توفير الضمانات الضرورية للتقدم في المفاوضات، خاصةً في ظل الوضع الملح على الأرض.
وما دامت الصين جزءاً من هذا المجتمع الدولي، فقد أكدت مواصلتها العمل مع أطراف هذا المجتمع من أجل تحقيق الأهداف المشار إليها، مؤكدة أنها ستشارك بنشاط في المشاورات الطارئة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومع التشديد كذلك على أهمية زيادة المساعدات المقدمة للفلسطينيين في إطار عملية التنمية الاقتصادية، على أن تكون هناك موضوعية وعدالة من جانب أطراف المجتمع الدولي وفي سياق جهودهم لحل الصراع.
6- رفض المشروع الأمريكي في مجلس الأمن: كان موقف الصين إزاء المشروع الذي قدمته واشنطن في مجلس الأمن حول تصاعد الوضع في غزة وإسرائيل سبباً رئيسياً في عدم تمكن المجلس من إقرار المشروع، وبعد أن استخدمت الصين مع روسيا والإمارات حق النقض ضد مشروع القرار الأمريكي، الذي لم تؤيده سوى 10 دول مع امتناع عضوين عن التصويت. وفي حين أعربت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة "ليندا توماس جرينفيلد" عن "خيبة أملها" بشأن استخدام كل من روسيا والصين حق النقض، ووصفت المشروع الذي قدمته بلادها بأنه كان "قوياً ومتوازناً وجاء نتاج مشاورات مع أعضاء مجلس الأمن"، فإن الممثل الدائم للصين لدى الأمم المتحدة "شانج جون" قال إن بلاده صوتت ضد مشروع القرار الذي قدمته واشنطن لأنه يشمل عناصر كثيرة "تفرق ولا تجمع، وتتجاوز البعد الإنساني"، وأضاف أن نص مشروع القرار "غير متوازن ويخلط بين الحق والباطل، وطُرح على عجالة ولم يحصل على التوافق المطلوب"، مؤكداً أن عدداً من أعضاء المجلس – ومنهم الصين وروسيا – اقترحوا تعديلات، لكن "تم إدخال تعديلات تجميلية فقط".
وكان مشروع القرار يرفض ويدين الهجمات التي شنتها "حماس" فقط وغيرها من الجماعات في إسرائيل، ولكن الصين اعتبرت أن مشروع القرار الأمريكي لا يعكس الدعوة القوية لوقف إطلاق النار وإنهاء العنف. وأوضح ممثل الصين كذلك أن مشروع القرار الأمريكي "انتقائي" في ذكر الأسباب الجذرية للأزمة الإنسانية في غزة، مضيفاً أن تبني ذلك المشروع يعني الإطاحة بأفق حل الدولتين، ويُدخل الطرفين في دائرة مفرغة من المواجهة والكراهية.
دلالات رئيسية
بناءً على ما سبق، فإن موقف الصين جاء مختلفاً تماماً عن الموقف الأمريكي ومجمل المواقف الغربية التي لم تكتف بإدانة ما قام به الفلسطينيون، بل دعمت إسرائيل بقوة، كما أنه يختلف عن موقف كل من اليابان وكوريا الجنوبية اللتين أدانتا أيضاً ما قام به المسلحون الفلسطينيون؛ ما يلقي الضوء على دلالات ومحددات الموقف الذي اتخذته الصين، والذي يتبلور في النقاط التالية:
1- حرص بكين على تبني موقف متوازن بين طرفي الصراع: ويُشار هنا إلى أن الصين كانت من أوائل الدول التي اعترفت بفلسطين بصفتها دولة في عام 1988؛ حيث أقام الطرفان رسمياً حينها العلاقات الدبلوماسية، وحافظت الصين في العقود التي تلت ذلك على علاقات ودية مع فلسطين، كما أنها أيدت في عام 2012 انضمامها إلى الأمم المتحدة عضواً مراقباً، بل كانت من الدول التي رعت مشروع القرار الذي قُدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بهذا الخصوص، وبالتبعية فإنها تدعم انضمام فلسطين إلى عضوية مختلف المنظمات الدولية.
وعلى مدى العقدين الماضيين، استقبلت الصين الرئيس الفلسطيني وزعيم السلطة الفلسطينية "محمود عباس" خمس مرات، كان آخرها في يونيو 2023؛ حيث تم خلال هذه الزيارة الإعلان عن إقامة شراكة استراتيجية بين السلطة والصين. وأقامت الصين أيضاً علاقات دبلوماسية مع إسرائيل منذ عام 1992، وسعت في الأعوام الأخيرة إلى تطوير العلاقات التجارية والاستثمارية الثنائية معها، وخاصة في مجالات التكنولوجيا الفائقة والزراعة والاقتصاد.
2- إبراز دور الصين في تحقيق الاستقرار والسلام بالإقليم: وذلك ما يفسر حرص الصين على إيجاد تفاهمات لتسوية الأزمة وإبراز دورها في التهدئة والسلام بالمنطقة وبما يعزز نفوذها الدولي عموماً، وفي منطقة الشرق الأوسط على نحو خاص، وهو ما قد يضعها في موقع الوسيط المحتمل في جهود السلام، وخاصةً في أعقاب وساطتها الناجحة التي أسفرت عن استعادة العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران في مارس 2023.
حيث سعت الصين إلى ترسيخ نفسها قوةً دبلوماسيةً ذات وزن ثقيل في الشرق الأوسط. ويتوافق هذا النهج مع رؤية الحكومة الصينية لوضع الدولة باعتبارها زعيماً عالمياً يسهم بنشاط في حل النزاعات الدولية، وخاصة من خلال الدعوة لعقد مؤتمر دولي للسلام لتسوية الأزمة بين إسرائيل والفلسطينيين، وبما قد يؤثر على تقليص نفوذ الولايات المتحدة الموسع في الإقليم.
والجدير بالذكر أن الصين كانت قد قدمت مقترحاً من أربع نقاط لتسوية القضية الفلسطينية في عام 2013. وكان جوهر المقترح إقامة دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، باعتبار ذلك حقاً ثابتاً للشعب الفلسطيني، وأساس تسوية القضية الفلسطينية. وفي المقابل، يقر المقترح بحق إسرائيل في الوجود مع احترام شواغلها الأمنية التي يراها مشروعة أيضاً. وكان الرئيس الفلسطيني "محمود عباس"، وخلال زيارته الأخيرة إلى بكين في يونيو 2023، قد حصل على وعود بدعم واسع النطاق من الصين للقضية الفلسطينية.
3- تبني موقف مناوئ لواشنطن: يشكل التنافس مع الولايات المتحدة محدداً رئيسياً للموقف الصيني إزاء التصعيد الراهن بين إسرائيل وحركة حماس؛ حيث حرصت الصين على إظهار تمايزها عن واشنطن، كما عملت على توظيف التفاعل الأمريكي مع الأحداث من أجل تقويض صورة الولايات المتحدة. ولعل هذا ما اتضح من خطاب بكين الرسمي الذي وجه، بصورة مبطنة، انتقاداً للموقف الأمريكي؛ فقد دعت الصين الولايات المتحدة الأمريكية على نحو خاص، للعب دور "بناء ومسؤول" فيما يخص الحرب التي اندلعت بين "حماس" وإسرائيل. وجاءت هذه الدعوة خلال اتصال هاتفي بين وزيري خارجية البلدين في 14 أكتوبر 2023، أكدت فيه بكين ضرورة "دفع القضية إلى مسار يوصل إلى تسوية سياسية في أقرب وقت ممكن".
4- العمل على تعزيز صورة الصين في المنطقة: ربما تستهدف الصين من خلال موقفها المتوازن تجاه التصعيد العسكري بين إسرائيل وحماس إلى تعزيز صورتها في المنطقة، وخاصة داخل صفوف الرأي العام، لا سيما مع تراجع صورة واشنطن بصورة حادة، ويعزز من ذلك تأكيد بكين ضرورة حل الدولتين باعتباره الحل الأهم للصراع، ناهيك عن تأكيدها أنه "عند التعامل مع القضايا الدولية الساخنة، على الدول الكبرى الالتزام بالموضوعية والنزاهة، والحفاظ على الهدوء وضبط النفس، وأخذ زمام المبادرة في الالتزام بالقانون الدولي". أضف إلى ذلك مهاجمة وسائل الإعلام الرسمية الصينية واشنطن بشأن الصراع الدائر في الشرق الأوسط، معتبرةً أن دعم الإدارة الأمريكية الأحادي الجانب لإسرائيل يؤجج التوترات ويزيد الأزمة الإنسانية في المنطقة.
5- استدعاء ملف تايوان إلى صراع الشرق الأوسط: اللافت أن موقف الصين من التصعيد بين إسرائيل وحماس استدعى معه تعقيدات الملف التايواني؛ فتايوان عملت خلال السنوات الماضية على تعزيز تحركاتها الدبلوماسية على الساحة الدولية بما في ذلك إسرائيل، التي تستضيف مكتباً اقتصادياً وثقافياً لتايوان. أضف إلى ذلك أن طبيعة العلاقات بين تايوان وواشنطن، جعلت بكين، التي طورت علاقات اقتصادية مع إسرائيل على مدار سنوات، تتشكك في إمكانية تطور العلاقات بين إسرائيل وتايوان. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحرب الراهنة بين إسرائيل وحماس أعادت قضية تايوان إلى الواجهة مجدداً في العلاقات بين الصين وإسرائيل؛ حيث أشادت المبعوثة الإسرائيلية لدى تايوان "أمايا يارون"، في تصريحات لها يوم 26 أكتوبر 2023، بدعم حكومة تايوان القوي وتعاطفها مع إسرائيل، واصفةً تايوان بأنها "صديقة جيدة"؛ حيث أدانت تايبيه هجوم حركة حماس على إسرائيل، كما اعتبرت "يارون" أن تعليقات الصين على هجوم حماس "مثيرة للقلق"؛ حيث أدانت الصين العنف والهجمات على المدنيين في الصراع، واعتبر وزير خارجيتها "وانج يي" أن تصرفات إسرائيل "تتجاوز نطاق الدفاع عن النفس"، ولكنه لم يذكر حماس بالاسم في تصريحاته.
6- تخوف الصين من توسع حدود الصراع: لا يمكن إغفال أن بكين تتخوف في اللحظة الراهنة من احتمالية توسع الصراع بين حماس وإسرائيل وانخراط أطراف إقليمية أخرى فيه، وخاصة إيران التي سعت بكين إلى تطوير علاقاتها معها خلال السنوات الماضية. ولعل هذا ما يفسر حرص واشنطن على التواصل مع بكين ومطالبتها بإقناع إيران بعدم التدخل في الحرب الدائرة بين حماس وإسرائيل. وفي هذا الصدد، نقلت صحيفة فايننشال تايمز، في تقرير يوم 28 أكتوبر 2023، عن مسؤولين أمريكيين قولهم أن واشنطن طالبت وزير الخارجية الصيني "وانج يي"، خلال زيارته للولايات المتحدة، "اتخاذ نهج أكثر إيجابية، وهذا سيشمل بالطبع التواصل مع الإيرانيين للحث على الهدوء".
7- الحفاظ على مصالح الصين الاقتصادية في الشرق الأوسط: قامت الصين بنشاط بتعميق علاقاتها التجارية والاستثمارية مع دول الشرق الأوسط في الأعوام الأخيرة، وهي تسعى للحفاظ على هذه العلاقات من خلال التزامها الحياد تجاه أطراف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وخاصةً أنها تسعى حالياً أيضاً إلى دفع المفاوضات بشأن اتفاقية تجارة حرة محتملة مع دول مجلس التعاون الخليجي؛ وذلك بجانب حرص الصين على تأمين مصالحها واستثماراتها في مشروعات "الحزام والطريق" بالشرق الأوسط من خلال سرعة انتهاء التصعيد والتهدئة في قطاع غزة خلال الفترة القادمة.
كما سعت الصين في الأعوام الأخيرة إلى تعميق العلاقات التجارية والاستثمارية الثنائية مع الطرف الفلسطيني؛ وذلك ومن خلال العمل على إبرام اتفاقية تجارة حرة بدأت المفاوضات بشأنها في عام 2018، ومن خلال الاستفادة أيضاً من "مبادرة الحزام والطريق"؛ حيث تستعد الصين وفلسطين لتعزيز الاتصال والتجارة والتكامل الاقتصادي من خلال تلك المبادرة، بعد أن تم التوقيع في ديسمبر 2022 مع الفلسطينيين على مذكرة تفاهم بشأن المسائل ذات الاهتمام المشترك في إطار المبادرة.
8- استكمال مسار التنسيق السياسي مع روسيا: أعلنت الصين استعدادها أيضاً للتنسيق مع حليفتها روسيا من أجل التوصل إلى تهدئة للأزمة بين "حماس" وإسرائيل، وخاصة أنه بعد الحرب الأوكرانية أصبحت موسكو أكثر قرباً من الصين، في ظل العزلة الدولية التي تعانيها. ونقلت وسائل إعلام رسمية صينية عن مبعوث الصين الخاص للشرق الأوسط "تشاي جيون"، بعد لقائه الممثل الروسي الخاص للشرق الأوسط ودول أفريقيا في العاصمة القطرية في 19 أكتوبر، قوله باستعداد بلاده لمواصلة الاتصالات والتنسيق مع روسيا لتهدئة الأزمة بين طرفي الصراع، ومع تأكيدهما المشترك تبنيهما الموقف ذاته بشأن القضية الفلسطينية.
ختاماً، يمكن اعتبار الصين أول قوة عالمية تصدر بياناً متوازناً محايداً وأكثر عقلانيةً، ويحث الطرفين على التهدئة، ويعترف بحق فلسطين في إنشاء دولة لها بجانب إسرائيل، مع عدم مهاجمتها أي من طرفي الصراع؛ وذلك ما قد يجعل بكين – وبحسب ما تطمح – وسيطاً قوياً بين طرفي الصراع؛ وذلك مع قدرتها على الاتصال بالطرفين، في مقابل انحياز الولايات المتحدة والدول الأوروبية الواضح لإسرائيل، ووضعاً في الاعتبار أيضاً نجاح الصين في المساعدة لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران في مارس الماضي، ومساعيها لوقف الحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا.
ولكن بالرغم من محددات الدور الذي تسعى إليه الصين، فإن فرص نجاحها في القيام بدور الوسيط في الأزمة الفلسطينية الحالية يظل محدوداً؛ وذلك في ضوء أن البيانات الرسمية الصينية بشأن النزاع الراهن لم تحدد أي طرف في إطار إدانتها للعنف، ولم تذكر على نحو خاص "حركة حماس"؛ ما أثار اعتراضات إسرائيلية وأمريكية.