عقد "إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية"، يوم الأربعاء الموافق 30 أغسطس 2023، حلقة نقاشية بعنوان "عقيدة براج: كيف ترى التشيك مستقبل الأمن الأوروبي بعد الحرب الأوكرانية؟"، استضاف خلالها د. "جان كوفار" رئيس مركز السياسة الأوروبية، ونائب المدير للبحوث بمعهد العلاقات الدولية (IIR)، وأستاذ العلاقات الدولية بجامعتَي نيويورك ومتروبوليتان في براج بجمهورية التشيك. وقد تطرَّقت الحلقة النقاشية إلى تأثير الحرب الأوكرانية على الاتحاد الأوروبي، ورؤية براج لمستقبل الأمن الأوروبي بمنظوره الشامل.
كما تطرَّق د. "كوفار" إلى عدة قضايا تتصل بتطورات الأمن الإقليمي في أوروبا على مدار السنوات المنقضية، مسلطاً الضوء في هذا الصدد على التحول الذي شهدته السياسة الخارجية التشيكية تجاه أوروبا الوسطى خلال العقدين الماضيين، ومبرزاً احتدام الجدل بشأن طبيعة دور الاتحاد الأوروبي في قضايا الأمن والدفاع، والانعكاسات الإيجابية للأزمة الأوكرانية على دور حلف "الناتو".
رؤية خاصة
استعرض د. "جان كوفار" ملامح رؤية جمهورية التشيك ودول أوروبا الوسطى والشرقية تجاه قضايا الأمن الأوروبي في فترة ما بعد الحرب الروسية–الأوكرانية، وتتضح أبرز ملامح هذه الرؤية عبر ما يلي:
1– اتجاه التشيك إلى تعزيز علاقاتها بدول أوروبا الوسطى: بحسب "كوفار"، فإن أوروبا الوسطى لم تكن بتاتاً محور اهتمام رئيسي في تاريخ السياسة الخارجية التشيكية على مدار العشرين عاماً الماضية؛ حيث لم تتعاون براج كثيراً مع دول أوروبا الوسطى والشرقية الأخرى، باستثناء سلوفاكيا، ولم يكن هناك سياسة خارجية تشيكية واضحة تجاه منطقة أوروبا الوسطى.
ومع ذلك، فإن مقتضيات الأمن الأوروبي، عقب اندلاع الحرب الأوكرانية – وفقاً لدكتور "كوفار" – دفعت براج تلقائياً إلى السعي نحو المزيد من التعاون الثنائي والمتعدد الأطراف مع دول المنطقة، بما في ذلك ألمانيا وبولندا، وأيضاً داخل ما يُطلق عليه عادةً دول بوخارست التسعة، وهي الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي "الناتو".
2– القناعة بأهمية تعزيز الدور الأمني لحلف "الناتو": وفقاً لـ"كوفار"، فإن براج أكثر تمسكاً بفكرة تراجع دور الاتحاد الأوروبي في قضايا الأمن والدفاع. وفي حين أنه لا يزال هناك تشكيك من قِبَل البعض في دور حلف "الناتو" باعتباره ضامناً رئيسياً للأمن الأوروبي على المدى الطويل، خاصةً مع بروز مخاوف بشأن انسحاب الولايات المتحدة من منطقة شرق ووسط أوروبا، في ظل تركيزها على منطقة الهندوباسيفيك؛ فإن الاستراتيجية المثلى في هذا الصدد، في نظر التشيك، يمكن أن تتضمن تعاوناً ثنائياً بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في مجال الأمن، على أن يكون الاضطلاع بالردع والدفاع الإقليمي، والاستخدام العام للقوة الصلبة، من صميم اختصاص حلف "الناتو"، لا من اختصاص الاتحاد الأوروبي.
وأشار "كوفار" إلى أن اندلاع الحرب الأوكرانية كان بمنزلة المحفز الذي دفع حلف "الناتو" إلى استعادة صحوته من جديد، وإعادة اكتشاف هدفه بصفته "ضامناً رئيسياً للأمن الأوروبي"؛ ما يعني أنه لم تعد هناك ضرورة ملحة لإقحام الاتحاد الأوروبي بشكل مبالغ فيه في قضايا الأمن والدفاع بالمنطقة، ومن ثم تراجع الزخم الذي حظيت به فكرة "الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي".
3– المبادرة بتقديم مساعدات لأوكرانيا لتعزيز موقفها: أكد "كوفار" أن دول أوروبا الوسطى والشرقية – وعلى رأسها التشيك وبولندا وسلوفاكيا وإستونيا وليتوانيا ولاتفيا – سارعت لدعم أوكرانيا بعد إعلان روسيا الحرب عليها في فبراير عام 2022، كما طرحت التشيك العديد من المبادرات على مستوى الاتحاد الأوروبي لدعم أوكرانيا، مشيراً إلى أن هذا الأمر يُشكِّل مواقف هذه الدول تجاه الأمن الأوروبي.
وأفاد "كوفار" بأن دول أوروبا الوسطى – وعلى رأسها التشيك – من أبرز البلدان التي تستضيف أكبر عدد من اللاجئين بالنسبة إلى عدد السكان؛ حيث يوجد ما يقرب من نصف مليون لاجئ أوكراني في التشيك، مشيراً إلى أن هذه النسبة عالية للغاية بالنسبة إلى دولة عدد سكانها 10.5 مليون نسمة؛ أي إن اللاجئين يشكلون 5% من عدد السكان، مؤكداً أن هذا هو الحال أيضاً مع بولندا وإستونيا.
وأشار " كوفار" إلى أنه في نهاية العام الماضي، قررت التشيك السماح بتدريب جنود أوكرانيين على أراضيها، على الرغم من تمسك "براج" بحظر وجود قوات أجنبية، حتى لو كانت أمريكية، على أراضيها؛ لذا يعد هذا التطور تحولاً واضحاً في سياسة الأمن التقليدي والأمن الخارجي وسياسة الدفاع لجمهورية التشيك. وذكر "كوفار" أيضاً أن التشيك كانت هي الدولة الأولى التي سلمت دبابات "T–72" إلى أوكرانيا، فضلاً عن إمداد الجنود الأوكرانيين بكمية كبيرة من الذخيرة والمساعدة العسكرية.
4– تقليص التشيك تعاونها مع روسيا إلى أقل مدى ممكن: أشار "كوفار" إلى أن السياسة الخارجية لدولة التشيك تجاه روسيا تغيرت كثيراً بعد اندلاع الحرب الأوكرانية؛ حيث كان الرئيس التشيكي "ميلوس زيمان" مؤيداً على الدوام للصين وروسيا في سياسته الخارجية، حتى إن حملته الرئاسية، في عام 2013، تم تمويلها جزئياً من قِبَل شركة روسية، لكن هذا الموقف تغيَّر كثيراً بعد اندلاع الحرب؛ حيث وصف "زيمان" "بوتين" بأنه "مجنون ويحتاج إلى العزلة"، وهو أمر لم يكن من الممكن سماعه من قبل.
وأكد "كوفار" أن التشيك كانت تعتمد بكثافة على الغاز الروسي قبيل اندلاع الحرب الأوكرانية بنسبة تخطت 90%، غير أنها قلصت هذه النسبة كثيراً في الوقت الراهن، وتكاد تكون أوقفت استيراد الطاقة من روسيا حالياً؛ وذلك بعد أن أصبح من الأهداف الاستراتيجية الرئيسية للسياسة الخارجية التشيكية، الحصول على إمدادات الطاقة من شركاء عالميين آخرين بدلاً من روسيا، وقد تم تنفيذ ذلك بالفعل على المدى القصير، وجارٍ العمل على تنفيذه على المدى الطويل.
وشدد "كوفار " على أن هذا التحول يعني أن التشيك سوف تنفصل عن روسيا انفصالاً كاملاً، وأنها أصبحت تنتمي بشكل أساسي إلى قائمة أشد المعارضين لأي تعاون مع الاتحاد الروسي، مستدلاً على ذلك بفرض التشيك حظر السفر وحظر التأشيرات على المواطنين الروس.
5– دعم جهود بناء موقف أوروبي موحد ضد موسكو: أشار " كوفار " إلى أن التشيك تحرص حالياً على بناء موقف ثابت وموحد لدول أوروبا الوسطى ضد روسيا؛ حيث تحاول هذه الدول البقاء معاً ما أمكن ذلك، رغم وجود دول لا تزال تغرد خارج السرب، مثل "المجر" التي تتبع سياسة مؤيدة لروسيا على طول الخط؛ حيث وصف "كوفار" المجر بأنها "ليست في معسكرنا (سلوفاكيا، والتشيك، وبولندا)، ونحن نبعد أنفسنا كثيراً عن المجريين الذين يتخذون موقفاً أود أن أقول عنه إنه موالٍ لروسيا".
وأوضح "كوفار" أنه في الوقت الذي استجابت فيه دول أوروبا الشرقية للتطورات التي حدثت مباشرةً بعد اندلاع الحرب، كانت دول أوروبا الغربية لديها تصورات غير واقعية للحرب، كما واجهت هذه الدول الكثير من الانتقادات، خاصةً ألمانيا وفرنسا، على اعتبار أنها كانت مترددة وبطيئة، على حد وصفه، وهو ما يؤكد "التفوق الأخلاقي" لدول أوروبا الشرقية على نظيرتها الغربية، بحسب قوله.
دعم التكامل
تناول د. "جان كوفار" رؤية دولة التشيك فيما يتعلق بمستقبل التكامل الأوروبي، مشيراً إلى أن التشيك تُعد من أكثر الداعمين لمزيد من التكامل الأوروبي. وفيما يلي أبرز ما تطرق إليه في هذا الصدد:
1– تأييد التشيك زيادة مشاركة الاتحاد الأوروبي في القضايا الأمنية: أكد "كوفار" أن تطورات الأمن الإقليمي في أوروبا على مدار الآونة الأخيرة، لا سيما قبيل اندلاع الحرب الأوكرانية، أثارت جدلاً كبيراً حول طبيعة الدور الذي يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يلعبه فيما يخص قضايا الأمن والسياسة الخارجية، وإذا ما كان خيار القوة الناعمة أم الدفاع الإقليمي والردع هو الخيار الأنسب للتعاطي مع أزمات المنطقة.
وبحسب "كوفار"، فإن فترة الركود التي مر بها حلف شمال الأطلسي "الناتو" على مدار السنوات الماضية، والتي دفعت الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" إلى وصف الحلف بأنه "عفا عليه الزمن"؛ أكسبت دعوات الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" بشأن "الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي" زخماً كبيراً آنذاك. وقد امتد هذا الجدل إلى التشيك. وخلال الأعوام (2017–2022)، كان هناك تحول ملحوظ في السياسة الخارجية التشيكية، وإن كان تدريجياً، نحو تأييد زيادة مشاركة الاتحاد الأوروبي في قضايا الأمن.
2– مساندة قوية من التشيك لتوسيع العضوية في الاتحاد الأوروبي: شدد "كوفار" على أهمية توسيع عضوية الاتحاد الأوروبي، من خلال قبول انضمام دول وسط وشرق أوروبا، وعلى رأسها أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا، إلى الاتحاد، مشيراً إلى أن التشيك كانت تروج بشكل أساسي لمنح "وضعية المرشح" لأوكرانيا، وهو ما حدث بالفعل في يونيو من العام الماضي، كما ضغطت من أجل ضم هذه البلدان خلال الأشهر الستة من رئاستها إلى الاتحاد. وأضاف "كوفار" أنه لا يزال هناك ضغط سياسي من التشيك، من أجل بدء مفاوضات انضمام أوكرانيا ومولدوفا في أقرب وقت ممكن.
3– رهن تحقُّق أمن أوروبا بحدوث تكامل بين جميع الدول الأوروبية: ربط "كوفار" إمكانية تحقيق الأمن الأوروبي في المستقبل بالتكامل بين جميع دول أوروبا؛ حيث أكد ضرورة أن يُنظر إلى دول غرب البلقان الستة، ودول أوروبا الشرقية الثلاث (جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا)، على أنها أعضاء المستقبل في الاتحاد الأوروبي؛ الأمر الذي يُمثل بُعداً أمنياً هاماً يتمثل في توسيع أراضي الاتحاد الأوروبي نحو هذه الدول، مضيفاً أن هذا الأمر هو في الأساس أحد الجوانب الرئيسية لمستقبل الهيكل الأمني في أوروبا.
ويرى "كوفار" أن مستقبل الهيكل الأمني الأوروبي لن يكتمل دون ضم أوكرانيا ودول أخرى من البلدان رسمياً في عملية التكامل الأوروبي؛ حيث يعتقد أنه بدون عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي، لن تكون منطقة وسط أوروبا الشرقية آمنة بتاتاً في حد ذاتها، حتى مع كون التشيك عضواً في الاتحاد الأوروبي، مشيراً إلى ضرورة استغلال الحرب الروسية ضد أوكرانيا للضغط من أجل المزيد من التوسع لفرض القيم الأوروبية.
4– انتقاد معارضة بعض الدول توسيع عضوية الاتحاد الأوروبي: أشار "كوفار" إلى أن مسألة توسيع الاتحاد الأوروبي تلقَّى رفضاً من العديد من الدول الأوروبية، وعلى رأسهم فرنسا وألمانيا؛ ففي خطاب للرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، قبل عامين، أكد أنه لن يكون هناك توسيع للاتحاد الأوروبي، ولا حتى لأغراض أمنية، ما لم يخضع الاتحاد لإصلاح مؤسسي.
وبحسب "كوفار"، فإن فرنسا هنا تعني الإصلاحات المتعلقة بصعوبة عملية اتخاذ القرار في السياسة الخارجية، التي تتطلب إجماع وموافقة جميع الدول الأعضاء، مثلما حدث مع المجر قبل ذلك عندما امتنعت وحدها عن فرض عقوبات على روسيا؛ لذلك ربط الفرنسيون والألمان ضم أي دولة أخرى بإجراء إصلاح مؤسسي للاتحاد الأوروبي. ونوه "كوفار" بأن التشيك انتقدت هذه الرؤية.
ويرى "كوفار" أن معضلة إجراء إصلاح مؤسسي للاتحاد الأوروبي يمكن التغلب عليها، مضيفاً أن الدول الأوروبية الآن أصبحت أقل تمسكاً بالمغالاة في النزعة القومية، وتتجه أكثر نحو المزيد من الفيدرالية، وتهدف إلى الاندماج الكامل مع بروكسل؛ نظراً إلى امتلاك الاتحاد الأوروبي المزيد من السلطات، وبذلك ستكون هناك فرصة لتحقيق الأهداف المشتركة.
قناعات تشيكية
استعرض د. "كوفار" رؤية التشيك لموقف دول الخليج العربي من الحرب الأوكرانية، وتتمثل أبرز ملامح هذه الرؤية فيما يلي:
1– متابعة التشيك وساطات دول الخليج في الأزمة الأوكرانية: وفقاً لـ"كوفار"، لعبت دول الخليج العربي دوراً دبلوماسياً كبيراً خلال الصراع الروسي–الأوكراني، وخصوصاً فيما يتعلق بالوساطة التي حدثت بعد اندلاع الحرب في المرتين اللتين تم فيهما التفاوض على تبادل الأسرى بوساطة بعض دول الخليج العربي، وهو ما يؤكد أن دول الخليج العربي لديها علاقات جيدة مع كل من روسيا وباقي دول أوروبا، وهو ما قد يعود بالنفع على الدول الأوروبية، بما فيها التشيك، وفق قوله.
2– تحفظ براج على تبني دول الخليج الحياد في أزمة أوكرانيا: اعتبر د. "كوفار" أن التشيك أصيبت بخيبة أمل نتيجة اتخاذ دول الخليج العربي مواقف غير مؤيدة للدول الغربية ضد روسيا بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، على غرار التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو في مناقشات الجمعية العامة التي رفضت فيها دول الخليج العربي أو أحجمت عن التحالف بشكل واضح مع الدول الأوروبية وحلف الناتو ضد روسيا.
وختاماً، استبعد " كوفار " إمكانية خلق الدول الأوروبية آليات للدفاع خاصة بها ومستقلة عن حلف "الناتو" والولايات المتحدة في المنظور القريب، لكنه توقع بدلاً من ذلك أن يكون هناك مشروع تعاون مشترك، مثل شراء مشترك للأسلحة، وتطوير للتشغيل البيني في الأنظمة العسكرية، فضلاً عن وجود تعاون أعمق وتدريجي في التشغيل البيني للجيوش الأوروبية من خلال سياسات مشتركة للبحث والتطوير، مؤكداً أن معظم دول الاتحاد الأوروبي حالياً لا تؤيد فكرة الاستقلال الاستراتيجي في المجال الدفاعي، كما أن واشنطن لا ترحب بذلك أيضاً.