أثار تصاعد الصراع بين إسرائيل وحماس، عقب تنفيذ الأخيرة عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، العديد من التساؤلات حول طبيعة الموقف الروسي؛ ففي الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة بحشد التأييد الدولي لإدانة هذه العملية ودعم إسرائيل، رفضت موسكو، بجانب الصين، الانضمام إلى المعسكر الأمريكي، وتجنَّبت إدانة العملية الفلسطينية، ودعت إلى اللجوء إلى حل الدولتين. هذا الموقف يعكس العديد من التوازنات الحاكمة للسياسة الروسية، وفي مقدمتها طبيعة الحرب في أوكرانيا، وإمكانية استخدام ما يجري بين إسرائيل وحماس، حتى لو بصورة دعائية، لخدمة مصالح روسيا في أوكرانيا، ناهيك عن إمكانية التأثير سلباً على صورة واشنطن، وكذلك قدرتها على دعم حلفائها في جبهتين. علاوة على ذلك فإن الدعم الأوكراني لإسرائيل ربما يكون دفَع موسكو إلى تبني موقف مغاير. أضِف إلى ذلك حرص موسكو على تطوير علاقاتها بالدول العربية عبر ورقة القضية الفلسطينية.
مخالفة واشنطن
على الرغم من حفاظ روسيا على علاقات جيدة بكلا الجانبين: الإسرائيلي والفلسطيني، فإن تصاعد الأحداث أظهر تمسُّك السلطات الروسية بالآلية الدبلوماسية، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وفق حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، باعتبار ذلك حلاً للصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستمر، ومن ثم، يمكن توضيح ملامح الموقف الروسي من الحرب على النحو التالي:
1– ضرورة إيقاف التصعيد العسكري: أدانت موسكو رسمياً التصعيد الحالي في الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ووصفت وزارةُ الخارجية الروسية ذلك بأنه "نتيجة لحلقة مفرغة من العنف"، ودعت إلى ضبط النفس، كما شدد الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، على ضرورة العمل على الدبلوماسية بدلاً من الجانب العسكري، والبحث عن حلول لوقف القتال، وفي أسرع وقت ممكن، معتبراً ذلك "ضرورياً" لتجنب "توسع الصراع"، فضلاً عن تأكيد المتحدث باسم الرئاسة الروسية "دميتري بيسكوف"، ضرورة عودة الوضع بين إسرائيل وفلسطين، إلى الاتجاه السلمي، في أقرب وقت ممكن.
2– التمسك بالحل العربي: تتمسك روسيا بالحل السياسي للقضية الفلسطينية بأسلوب علني وواسع، لكنها تتمسك في الوقت نفسه بعدم تدخل الأطراف الخارجية، انطلاقاً من إيمانها بأن الصراع عربي بالأساس، ومن ثم، يجب أن يكون الحل في نطاق الشرق الأوسط دون تدخل أطراف تزيد من العنف والتوتر، وتزيد رقعة الاحتلال أيضاً والاستيطان الذي يُعد سبباً رئيسياً في تفجُّر الأوضاع. كما دعت وزارة الخارجية الروسية الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى وقف فوري لإطلاق النار، ونبذ العنف، وممارسة ضبط النفس اللازم، وإقامة عملية تفاوض، بمساعدة المجتمع الدولي، تهدف إلى إقامة سلام شامل ودائم طال انتظاره في الشرق الأوسط.
3– إلقاء اللوم على الجانب الأمريكي: استغل الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، تصاعد حدة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ليبرهن على فشل سياسة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط؛ حيث اتهم الرئيس الروسي الولايات المتحدة بـ"احتكار" تسوية النزاع من دون أن تأخذ في الاعتبار "إيجاد تسويات مقبولة للطرفين"، بل على العكس "روَّجت لأفكارها الخاصة حول طريقة المضي قدماً، والضغط على الطرفَين"، واعتبر أنه من الضروري تنفيذ قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المتعلقة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة.
فيما أوضح الرئيس الروسي السابق "دميتري ميدفيديف"، الذي يتولى منصب نائب مدير مجلس الأمن القومي الروسي، أن أعمال العنف بين حماس وإسرائيل كانت متوقعة، وأنه كان يجب التعامل مع ذلك من جانب واشنطن وحلفائها، مضيفاً أن الولايات المتحدة لاعب رئيسي في الصراع بين إسرائيل وفلسطين.
4– عرض المساهمة في تسوية الصراع: أكد الكرملين أن روسيا تحلل تطورات الأوضاع بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بدقة، ويمكن أن تشارك في التسوية، وهو ما أكده "ديمتري بيسكوف" من أن روسيا تُجرِي اتصالات بطرفَي الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، موضحاً أن الأولوية هي الحفاظ على مصير المواطنين الروس الذين يُوجَدون في كلا الجانبين، مؤكداً أن روسيا متمسكة بمواقفها بصفتها دولةً لديها القدرة على المشاركة في عمليات التسوية.
كذلك أكد السفير الروسي لدى إسرائيل "أناتولي فيكتوروف"، أن تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو مفتاح السلام في الشرق الأوسط، كما وصفه بأنه أطول الصراعات في التاريخ الحديث، وهو الصراع الذي يواصل تأجيج التوترات في المنطقة والمشاعر المتطرفة خارجها، كما شدد "فيكتوروف" على أن الدبلوماسية الروسية تعتزم مواصلة مسارها الثابت وذي المبادئ العالية للبحث عن حل لهذه الأزمة على أساس إقامة دولتين لشعبين، متعهداً بمواصلة الضغط من أجل إيجاد حل لهذه المهمة الرئيسية بجانب الجهود الرامية إلى إنهاء الأعمال العدائية حول قطاع غزة على الفور، ومنع تصعيدها إلى مرحلة لا يمكن السيطرة عليها أو تصعيدها إلى بعض دول الجوار الإقليمي.
وعلى صعيد متصل، حث نائب وزير الخارجية الروسي "سيرجي فيرشينين"، المجتمع الدولي على تركيز جهوده من أجل تسوية النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي. وشدد "فيرشينين" على ضرورة إيجاد تسوية طويلة الأمد على أساس قانوني دولي، كما طرحت موسكو مشروع قرار على مجلس الأمن يدعو إلى وقف إنساني لإطلاق النار، والتنديد بالعنف ضد المدنيين وجميع الأعمال الإرهابية. ويدعو المشروع أيضاً إلى الإفراج عن الرهائن ووصول المساعدات الإنسانية والإجلاء الآمن للمدنيين الذين يحتاجون إلى الإجلاء.
5– تضاؤل الاهتمام بالصراع الفلسطيني الإسرائيل داخل روسيا: يتسم الموقف الشعبي في روسيا بالهدوء وعدم الانحياز؛ فهناك ما يقرب من مليون شخص في إسرائيل تعود أصولهم إلى معظم دول الاتحاد السوفييتي السابق، في المقابل فإن من يدرك ضرورة حصول الفلسطينيين على دولة خاصة بهم، ينحصرون بين الأجيال المتقدمة في العمر فوق سن الـ50 عاماً التي عاصرت الاتحاد السوفييتي، ومن ثم فإن الأجيال التي وُلِدت عقب انهيار الاتحاد السوفييتي ليس لديها الإدراك نفسه لهذا الأمر وأبعاد حل الدولتين.
دوافع رئيسية
يرتبط هذا الموقف الروسي من الحرب بين إسرائيل وحماس بعدد من الدوافع والمحفزات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1– الحفاظ على العلاقات مع الدول العربية: لدى موسكو علاقات قوية مع معظم الدول العربية والإسلامية؛ لذلك تحرص وزارة الخارجية على تأكيد حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته في معظم الخطابات الرسمية، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من اختيار الخطاب الرسمي الروسي مصطلح "الاحتلال المستمر منذ 75 عاماً" لوصف الصراع. والجدير بالذكر أنه قد تم استقبال وفدين رفيعي المستوى من حماس في موسكو في الشهور الماضية: المرة الأولى كانت في سبتمبر 2022 بقيادة زعيم التنظيم "إسماعيل هنية"، الذي أجرى محادثات مع وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف"، والثانية بقيادة الرجل الثاني في قيادته "صالح العاروري" في مارس 2023.
2– تعزيز موقف روسيا في أوكرانيا: قد يكون أحد دوافع روسيا في تبني هذا الموقف هو مساعدتها في حربها على أوكرانيا؛ حيث إن ارتفاع أسعار النفط يعزز خزائن موسكو، كما أن طلبات إسرائيل للحصول على الأسلحة من الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، تهدد أيضاً بتقويض الإمدادات التي ترغب فيها الحكومة في العاصمة الأوكرانية "كييف". ولا يوجد حالياً الكثير من التداخل في نوع العتاد الذي تبحث عنه إسرائيل وأوكرانيا، لكن هذا قد يتغير إذا شنت إسرائيل هجوماً برياً كبيراً في غزة كما هو متوقع.
3– صرف النظر عن الحرب في أوكرانيا: لا شك أن الجانب الروسي يستفيد من الناحية الفعلية من تصاعد العنف في الشرق الأوسط؛ حيث إن تصاعد الأحداث بين إسرائيل وحماس على الأقل، يصرف الانتباه عما يفعله الجيش الروسي في أوكرانيا، ويستعمله الجانب الروسي للاستهلاك الدعائي المحلي في داخل روسيا.
4– تبني دبلوماسية عقابية لإسرائيل: هناك من يرى أن تبني روسيا حالياً هذا الموقف يرجع في الأساس إلى موقف إسرائيل غير المتماشي مع روسيا في حربها ضد أوكرانيا، وما تعتبره موسكو دعماً إسرائيلياً لأوكرانيا؛ فرغم العلاقات القوية بين الجانبين، فإن ما يحدث من تصاعد لبؤر صراعية جديدة يحفز الجانب الروسي على استخدام الدعم السياسي للفلسطينيين ورقةَ ضغط على إسرائيل للتخلي عن دعمها لأوكرانيا. ويبدو أن التحول في اللهجة يشير إلى صدع أكبر بين البلدين منذ بداية الحرب في أوكرانيا.
5– الرغبة في دور دبلوماسي أوسع: تسعى روسيا إلى الحفاظ على دورها لاعباً دبلوماسياً في الشرق الأوسط ومناطق أخرى. إن الانخراط في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يسمح لروسيا بتأكيد نفوذها على الساحة العالمية. وغالباً ما تضع روسيا نفسها قوة موازنة للنفوذ الغربي في الشؤون العالمية. ويتأثر موقف موسكو من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني جزئياً بالرغبة في تقديم منظور بديل لمنظور الدول الغربية، وخاصةً الولايات المتحدة.
6– موازنة النفوذ الأمريكي في المنطقة: لا شك أن ظهور الولايات المتحدة لاعباً فاعلاً مهماً في الصراع الحالي، قد يزيد احتمالات تخلي الجانب الروسي عن موقفه الدبلوماسي إما لصالح المزيد من التدخل بشكل مباشر، وهذا احتمال ضعيف، وإما لصالح التدخل بشكل غير مباشر، وهذا هو الأكثر واقعيةً، من خلال زيادة الدعم المقدم لإيران وسوريا ولبنان، وهي الدول التي يوجد بها حركات مقاومة داعمة لفلسطين، كما أن هناك توجهاً يرى أن روسيا ستستغل هجمات حماس على إسرائيل من أجل حربها على أوكرانيا؛ حيث اتهم الكرملين الغرب بتجاهل الصراعات في منطقة الشرق الأوسط لصالح مساندة أوكرانيا. ومع ذلك، أعرب بعض المعلقين المؤيدين لروسيا عن أملهم أن تؤدي الحرب بين إسرائيل وحماس إلى استنزاف الموارد الغربية بعيداً عن أوكرانيا.
7– الصدام مع الموقف الأوكراني تجاه الصراع: يبدو أن أوكرانيا قد نحَّت جانباً مظالمها السابقة مع إسرائيل، حرصاً على ملء فراغ الصداقة الذي خلَّفته روسيا وراءها، وهو ما ظهر في خطاب ألقاه الرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي" بجانب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "ينس ستولتنبرج"؛ حيث شبَّه " زيلينسكي" هجوم حماس على إسرائيل في نهاية هذا الأسبوع بالهجوم الروسي على أوكرانيا، وقال إن شعبه يقف بجانب إسرائيل؛ لأنهم يفهمون ما يعنيه التعرض لهجمات إرهابية. وقال "زيلينسكي": "إن الفرق الوحيد هو أن هناك منظمة إرهابية هاجمت إسرائيل، وهنا دولة إرهابية هاجمت أوكرانيا". وبطبيعة الحال، يدفع هذا الموقف موسكو إلى تبني موقف متناقض، بشكل أو بآخر، عن موقف كييف.
خلاصة القول: على الرغم من بذل موسكو حالياً جهوداً للتنسيق بالدرجة الأولى مع شركائها العرب، خاصةً مصر والإمارات وقطر وإيران، فإن الشكوك تتزايد حول قدرة روسيا على تقديم مساهمة كبيرة في حل الصراع الحالي؛ وذلك بسبب وجود أولويات أخرى حالياً للجانب الروسي، خاصةً في حربه الدائرة ضد أوكرانيا. ومن ثم، يدلل أنصار هذا التوجه على ذلك بلجوء السلطات الروسية إلى إلقاء اللوم على الأخطاء الغربية، وبأن الروس الذين فروا إلى إسرائيل بسبب الحرب ضد أوكرانيا، سيعودون الآن إلى روسيا.
وإجمالاً لما سبق، يتسم موقف روسيا بشأن الصراع بين حماس وإسرائيل بدعم الدبلوماسية، والتعامل مع كافة الأطراف المعنية، وإدانة العنف، والالتزام بالمبادرات الدولية، مثل حل الدولتين، ومبادئ اللجنة الرباعية. وتشمل محددات هذا الموقف رغبة روسيا في الاضطلاع بدور دبلوماسي على الساحة العالمية، والعلاقات التاريخية مع المنطقة، والمصالح الجيوسياسية، والرغبة في تعزيز التعددية القطبية باعتبارها قوة موازنة للنفوذ الغربي.