تعد روسيا من الأطراف الدولية الفاعلة في إطار منطقة الساحل الأفريقي؛ وذلك بجانب أطراف أخرى منها الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوربي وغيرها، وقد تنامى دورها بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ مطلع العقد الثالث من الألفية الجديدة، وهو ما انعكس بشكل مباشر على كثافة تفاعلاتها البينية مع دول المنطقة على مختلف المستويات، ولا سيما العسكرية والأمنية والاقتصادية، ولعل آخرها الاتفاقيات التي أبرمتها روسيا مع دولتي مالي وبوركينا فاسو بشأن تطوير قدراتهما الوطنية في مجال إنتاج الطاقة النووية؛ وذلك في إطار فعاليات المنتدى الدولي السادس "أسبوع الطاقة الروسي" المنعقد في "موسكو" خلال الفترة (11 – 13 أكتوبر) 2023. وترتيباً على ما سبق يمكن القول بوجود العديد من الاعتبارات الحاكمة والأبعاد المؤثرة للسياسة الروسية تجاه منطقة الساحل الأفريقي.
اعتبارات حاكمة
ثمة جملة من الاعتبارات الرئيسية الحاكمة للسياسة الروسية حيال منطقة الساحل الأفريقي، وهي الاعتبارات المتمثلة فيما يلي:
1- تعزيز الوجود في إحدى دوائر النفوذ الغربي التقليدية: تتسق سياسة روسيا في منطقة الساحل الأفريقي مع الخط العام لها في القارة الأفريقية ككل، الذي يرتكز على توسيع دائرة تفاعلاتها المختلفة بأنماطها المختلفة مع دول هذه المنطقة، ولا سيما تلك الدول التي ترى في روسيا بديلاً مناسباً للقوى الأوروبية ذات الميراث الاستعماري السابق وعلى رأسها فرنسا، التي تنامت ضدها موجات الرفض على المستويين الرسمي وغير الرسمي (الشعبي) خلال السنوات الأخيرة؛ إذ تحاول روسيا الاستفادة من تغير ميزان القوة في المنطقة لصالح دعم وجودها الاستراتيجي.
وقد تبلورت التحركات الروسية حيال دول المنطقة بصورة واضحة منذ عام 2020، ولا سيما التحركات على الصعيد الأمني التي تدعم المساعي الروسية الرامية لتعزيز الشراكات مع الدول الأفريقية؛ وذلك على نحو ما جاء في إطار مخرجات "القمة الروسية- الأفريقية" الأولى التي انعقدت في "سوتشي" بروسيا في أكتوبر 2019، والنسخة الثانية من القمة التي عُقِدت في مدينة "سانت بطرسبرج" الروسية في أواخر يوليو 2023.
2- استغلال الثروات والموارد المعدنية الاستراتيجية: على الرغم من تصنيف منطقة الساحل الأفريقي ضمن أفقر المناطق في العالم، فإنها تعد غنية بالمعادن النادرة والطاقة؛ ما يجعلها صيداً ثميناً للشركات الأجنبية، التي تتدخل تحت ذريعة المساعدات الإنسانية أو مكافحة الإرهاب والتطرف، ولا سيما من خلال آلية التدخلات العسكرية؛ حيث تزخر منطقة حوض نهر النيجر وحوض بحيرة تشاد بثروات معدنية هامة، ولعل من أبرزها اليورانيوم، والذهب، والفحم، والنفط. وتمتلك نيجيريا – على سبيل المثال – نحو (37.05) مليار برميل من احتياطات النفط المؤكدة وفقاً لبيانات منظمة "أوبك" (OPEC) في عام 2023، وهو ما يمثل نحو (3%) من إنتاج المنظمة.
كما تمتلك النيجر مخزوناً كبيراً من الذهب والقصدير والجبس والفحم والفوسفات والنحاس، وتعتبر رابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم بإنتاج يبلغ نحو (4000) طن سنوياً. ومن جهة أخرى يهيمن الذهب على قطاع الموارد الطبيعية في جمهورية مالي؛ إذ تعد الدولة رابع أكبر منتج للذهب في أفريقيا، ويعد الذهب أهم صادراتها الخارجية؛ حيث شكل أكثر من (80%) من إجمالي الصادرات في عام 2021، وكذلك تضم تشاد موارد هامة مثل البترول، والذهب، والنطرون، واليورانيوم، والحجر الجيري، والكاولين، والملح وغيرها.
3- زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي عبر تحفيز الهجرة: تستهدف روسيا التأثير على استقرار الاتحاد الأوروبي كتكتل إقليمي عبر تعطيل الجهود الأوروبية المبذولة لمنع المزيد من الهجرة الوافدة من هذه المنطقة أو التأثير على فاعليتها؛ نظراً إلى ما تشكله هذه المسألة من تهديد مباشر على منظومة الأمن القومي للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ولعل هذا ما يفسر قيام الاتحاد الأوروبي منذ عام 2015 بتمويل التدخلات في هذه المنطقة لمساعدة دول مثل النيجر وبوركينا فاسو ومالي بشأن زيادة قدرتها على تنظيم الهجرة والسيطرة عليها. ويرجع ذلك إلى تنامي أعداد المهاجرين من غرب أفريقيا إلى الاتحاد الأوروبي بشكل ملحوظ؛ إذ جاءت ستة بلدان في المنطقة من بين البلدان السبعة الرئيسية التي ينحدر منها المهاجرون الذين وصلوا إلى الشواطئ الإيطالية في عام 2017.
وفي هذا السياق، نجد أن روسيا تعمد إلى محاولة التأثير عبر دفع حركة الهجرة في ليبيا نحو الدول الأوروبية الواقعة شمال البحر المتوسط لاستخدامها سلاحاً ضدها، ولعل هذا ما دفع الحكومة الإيطالية إلى ادعاء أن المرتزقة الروس في ليبيا يقفون وراء الزيادة في عدد المهاجرين الوافدين انتقاماً من الدعم الغربي لأوكرانيا. وبوجه عام يمكن القول إن حركات الهجرة قد كشفت عن نقاط ضعف الاتحاد الأوروبي بشأن هذه القضية في السنوات الأخيرة وتأثيراتها المدمرة على الحياة السياسية الداخلية للدول الأعضاء، فضلاً عما نتج عن ذلك من أزمات لصالح أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا.
4- استثمار ظروف عدم الاستقرار لبناء تحالفات: تحاول روسيا دعم احتياجات ومتطلبات دول منطقة الساحل الأفريقي، مستفيدةً من مجمل أوضاع عدم الاستقرار السائدة خلال السنوات الأخيرة، ولعل على رأسها تنامي ظاهرة الانقلابات العسكرية منذ عام 2020؛ حيث شهدت مالي انقلابين عسكريين في أغسطس 2020 ومايو 2021، كما شهدت تشاد انقلاباً عسكرياً في أبريل 2021، وشهدت بوركينا فاسو انقلابين عسكريين في يناير وأواخر سبتمبر 2022، والنيجر انقلاباً في 26 يوليو 2023. وقد أدت هذه الانقلابات إلى تداعيات متفاقمة؛ على رأسها تعثر إتمام المراحل الانتقالية والعودة إلى النظام الدستوري. وهنا سعت روسيا إلى إقامة صلات سياسية مع مختلف الأنظمة الانقلابية في دول المنطقة لمساعدتها في توطيد أركان حكمها.
ويضاف إلى ذلك تفاقم إشكالية انعدام الأمن الغذائي في المنطقة، ولا سيما في ظل التداعيات السلبية للحرب الروسية – الأوكرانية؛ حيث إن هناك ما لا يقل عن نحو (18) مليون شخص يواجهون الجوع المدقع، كما يعاني نحو (1.6) مليون طفل من سوء التغذية وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة. وبالفعل قامت روسيا بتقديم يد العون لدول المنطقة في هذا الشأن؛ حيث أعلنت تقديم الحبوب بشكل مجاني لنحو ست دول أفريقية في النسخة الثانية لـ"القمة الروسية – الأفريقية" التي انعقدت في يوليو 2023، ومنها دولتان في منطقة الساحل: بوركينا فاسو ومالي؛ وذلك بجانب أربع دول أخرى ( زيمبابوي، والصومال، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وإريتريا)؛ حيث ستحصل كل منها على ما يتراوح بين (25) و(50) ألف طن .
أدوات مؤثرة
ترتبط السياسة الروسية تجاه منطقة الساحل الأفريقي بعدد من الأدوات التي تستخدمها موسكو لتعزيز حضورها في المنطقة، وهي الأدوات المتمثلة فيما يلي:
1- توظيف الدعاية للتخويف من "الاستعمار الجديد": تعتمد روسيا في منطقة الساحل الأفريقي على الترويج السلبي للماضي الاستعماري المرتبط بالقوى الغربية، وما صاحبه من ممارسات قائمة على استغلال المقدرات الوطنية المختلفة لدول المنطقة. وتستخدم روسيا الحملات الدعائية المتطورة، خاصةً من خلال شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام وبين الطبقة السياسية وأعضاء المجتمع المدني، وهي الحملات التي تهدف في المقام الأول إلى تشويه سمعة الديمقراطية الليبرالية وإضفاء الشرعية على النموذج الروسي كبديل لقادة المنطقة بشأن التعامل مع التهديدات الأمنية الحادة والمتصاعدة.
وتعتمد روسيا في هذا السياق على عدم وجود ماضٍ أو ميراث استعماري لها؛ ليس في منطقة الساحل فحسب، بل في مجمل دول القارة الأفريقية بوجه عام. ويدعم هذا المنحى الموجة المتصاعدة من الرفض الرسمي والشعبي ضد الوجود الغربي، وتحديداً الفرنسي خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما منذ عام 2020، وهو ما تبلور في العديد من الحالات من قبيل (مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر) وغيرها. وتستخدم روسيا هذه الأداة لبناء كتلة مضادة للغرب في الهيئات الدولية، ولعل هذا ما أشار إليه وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" في حديث له في أوائل فبراير 2023؛ حيث أكد أن الاستعمار الأوروبي يعد مصدراً دائماً لعدم المساواة العالمية، كما كرر دعم روسيا للاستقلال الأفريقي.
2- إقامة شراكات أمنية مع الأنظمة الحاكمة: وهي تعد من أبرز أبعاد السياسة الروسية في منطقة الساحل بمفهومها الشامل؛ حيث تعتمد روسيا في هذا الشأن على دور شركات الأمن الخاصة، وعلى رأسها مجموعة "فاجنر"، التي تبلور دورها في البداية خلال النزاع في أوكرانيا في عام 2014؛ حيث دعمت عناصرها القوات الانفصالية الموالية لروسيا في شرق أوكرانيا. وتقوم هذه المجموعة بأدوار في بعض الدول في منطقة الساحل الأفريقي منذ عام 2020 على الأقل، وهو ما تبلور في حالة مالي مثلاً؛ حيث تبلور دورها بشكل متزايد منذ ديسمبر 2021؛ إذ أرسلت (400) عنصر من عناصرها لمحاربة الجماعات الجهادية.
وأعقب ذلك إرسال شحنات أسلحة في عام 2022. وعلى الرغم من هذا فإن النظام العسكري الانتقالي في مالي بقيادة "عاصمي غويتا" لا يعترف رسمياً بوجود مجموعة "فاجنر"، بيد أن بعض التقارير الدولية أشارت إلى حصول المجموعة على رسوم شهرية قدرها نحو (10) ملايين دولار نظير ما تقدمه من خدمات أمنية، كما أكدت المصادر ذاتها احتمالية ربط هذه الخدمات بوصول المجموعة إلى الموارد الطبيعية أو مواقع التعدين في الدولة في المرحلة المقبلة. ويجدر القول بأن الولايات المتحدة أدانت وجود مجموعة "فاجنر" في مالي بسبب الخطر الأمني الذي تشكله على المنطقة والعواقب السلبية المحتملة التي قد يخلفها النشر على السكان المدنيين، كما اعتمد المجلس الأوروبي إجراءات تقييدية ضد المجموعة والأفراد والكيانات المرتبطة بها.
3- استغلال الغضب المتصاعد ضد الوجود الغربي: تعتمد روسيا على الاستفادة من تراجع قاعدة القبول والتأييد لسياسات الأنظمة الغربية على المستويين الأمني والاقتصادي في منطقة الساحل، وعلى رأسها فرنسا؛ ففي مالي تراجع النفوذ الفرنسي عقب حدوث الانقلابين العسكريين في أغسطس 2020، وهو ما تزايد بشكل ملحوظ عقب الانقلاب العسكري في مايو 2021، وقد وصلت الأمور إلى حد اتخاذ مالي قراراً بطرد السفير الفرنسي لديها في أواخر يناير 2022؛ وذلك بعدما قام الأخير بوصف المجلس العسكري الانتقالي الحاكم بأنه "غير شرعي"، وأعقب ذلك إعلان فرنسا في إطار القمة الأوروبية–الأفريقية المنعقدة في العاصمة البلجيكية "بروكسل" في فبراير 2022 عن قيامها بسحب جميع العناصر العسكرية التابعة لها من مالي، سواء المشاركة في إطار عملية "برخان" التي بدأت مهامها في عام 2014 أو في إطار القوة الأوروبية "تاكوبا"، والقيام بإعادة توزيعها ونشرها دول أخرى بمنطقة الساحل في غضون فترة تتراوح بين (4 - 6) أشهر.
وبالفعل انسحبت العناصر الفرنسية من مالي بشكل نهائي في أغسطس 2022؛ وذلك عقت اتخاذ قراراً بانهاء عملية "تاكوبا" الأوروبية في أواخر يونيو من العام ذاته، وقد دفع ذلك النظام العسكري الانتقالي في مالي إلى تعزيز علاقاته بروسيا كبديل للغرب؛ وذلك لملء حالة الفراغ الأمني المحتمل في الدولة، ولا سيما في ضوء اتخاذ مالي قراراً بالانسحاب من جميع أجهزة وهيئات تجمع دول الساحل في مايو 2022 احتجاجاً على رفض توليها رئاسة الدورة الثامنة من مؤتمر رؤساء دول التجمع التي انعقدت في "باماكو" في فبراير 2022، وهو القرار الذي دخل حيز النفاذ اعتباراً من 30 يونيو من العام ذاته. ويعزز من تنامي الدور الروسي خلال الفترة المقبلة اتخاذ مجلس الأمن قراراً في أواخر يونيو 2023 بسحب بعثة "الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي" بحلول يناير 2024.
4- الانفتاح على الأنظمة العسكرية الانتقالية: تبلور ذلك في العديد من الحالات، من قبيل بوركينا فاسو التي شهدت انقلابين عسكريين في يناير وأواخر سبتمبر 2022؛ حيث أكد رئيس وزرائها "أبولينير يواكيم كييليم دي تيمبيلا" بعد اجتماعه مع السفير الروسي في العاصمة "واجادوجو" في يناير 2023 أن روسيا هي الخيار القائم على الحسابات المنطقية بالنسبة إلى بوركينا فاسو، مع الإشارة إلى تعزيز الشراكة المتبادلة بين الجانين. ويأتي ذلك بالتزامن مع اتخاذ النظام العسكري الانتقالي قراراً بإلغاء الاتفاق المتعلق بوضعية القوات الفرنسية في البلاد، وإمهالها شهراً واحداً لمغادرة أراضي الدولة في 18 يناير 2023. وبالفعل أعلنت هيئة أركان الجيش في بوركينا فاسو في بيان رسمي انتهاء عمليات القوة الفرنسية العسكرية "سابر" في فبراير من العام ذاته.
والأمر نفسه حدث في مالي؛ حيث زار وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" العاصمة "باماكو" في مطلع فبراير 2023، وأكد خلال زيارته وعوده بدعم دول الساحل وخليج غينيا ضد تهديد الجماعات الإرهابية والجهادية، وأشار خلال مؤتمر صحفي مشترك مع وزير خارجية مالي "عبد الله ديوب" إلى دعم روسيا جهود مالي في العمليات الجوية لمكافحة الإرهاب عبر تزويدها بتكنولوجيا الطيران الروسية. وتكرر السيناريو ذاته في النيجر؛ حيث حرصت روسيا منذ الوهلة الأولى لوقوع الانقلاب العسكري في 26 يوليو 2023 على الحفاظ على موقف متوازن حيال النظام العسكري الانتقالي بقيادة "عبد الرحمن تياني"؛ إذ حذرت من أن التدخل العسكري المحتمل في النيجر تحت مظلة "إيكواس" بدعم فرنسي سيؤدي إلى مواجهة طويلة وزعزعة الاستقرار في منطقة الساحل ككل.
ويمكن تفسير ذلك في ضوء محاولة روسيا استمالة النيجر كحليف استراتيجي لها في منطقة الساحل الأفريقي، ولا سيما في ضوء مواقف النيجر المناوئة لروسيا في المحافل الدولية؛ حيث كانت قد دعمت ثلاثة قرارات للأمم المتحدة تدين التدخل الروسي في أوكرانيا في أواخر فبراير 2022؛ وذلك في الوقت الذي امتنعت عن التصويت أو تغيبت كل من مالي وجمهورية غينيا وبوركينا فاسو.
ولذا تحاول روسيا كسب ود المجلس العسكري في النيجر الذي يحتاج إلى توطيد أركان حكمه في المرحلة الانتقالية ومواجهة التهديدات الإرهابية؛ وذلك عبر تقديم ذاتها بديلاً للوجود العسكري الفرنسي الوشيك على الانتهاء بحلول نهاية العام الجاري بعد قرار الرئيس الفرنسي "ماكرون" سحب العناصر الفرنسية بالكامل في أواخر سبتمبر 2023، وهو القرار الذي سبقه إلغاء المجلس العسكري اتفاقياته العسكرية مع فرنسا في أواخر أغسطس 2023.
5- دعم قطاع الطاقة النووية في دول المنطقة: وهو الأمر الذي يشكل واحداً من أبعاد الاهتمام الروسي بمنطقة الساحل خلال الآونة الأخيرة، وهو ما يعد ضرورياً لدول هذه المنطقة، ولا سيما في ضوء أن أكثر من (600) مليون شخص في جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية يفتقرون إلى القدرة على الوصول إلى الكهرباء. وقد تبلورت التحركات الروسية في هذا المنحى من خلال السعي لإبرام اتفاقيات مع دول المنطقة بشأن إنتاج وتوليد الطاقة النووية، ولعل آخرها قيام شركة "روساتوم" الروسية للطاقة النووية بالتوقيع على اتفاق مع مالي للتعاون في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وهو التوقيع الذي جرى خلال فعاليات "أسبوع الطاقة الروسي" في العاصمة الروسية "موسكو" الذي انطلق في 11 أكتوبر 2023 بحضور أكثر من (2500) مشارك من أكثر من (50) دولة على مستوى العالم، وقد كان موضوعه الرئيسي هو "الواقع الجديد للطاقة العالمية". وناقش الحدث العديد من القضايا من قبيل مشكلات حماية المناخ، وانتقال الطاقة، والتحديات المواجهة لأسواق النفط، وتدريب الكوادر، والتحول الرقمي لصناعة الطاقة وغيرها.
وقد حدد الاتفاق المهام ذات الأولوية وأدوات التعاون والعمل المشترك، ومنها تطوير البنية التحتية النووية، وزيادة الوعي العام بالتكنولوجيا النووية، وإجراء البحوث الأساسية والتطبيقية، وضمان الطاقة النووية، والسلامة الإشعاعية والجسدية، وتدريب الموظفين، وإنشاء مفاعلات بحثية ومحطات طاقة. كما وقعت الشركة ذاتها على اتفاق مشابه مع بوركينا فاسو لبناء محطة نووية لتلبية احتياجات السكان من الطاقة خلال الفترة الزمنية ذاتها، وهو الاتفاق الذي جاء بناءً على رغبة نقلها الرئيس الانتقالي "إبراهيم تراوري" إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين"؛ وذلك في إطار فعاليات النسخة الثانية من "القمة الروسية – الأفريقية" التي انعقدت في يوليو 2023.
وختاماً، يمكن القول إن منطقة الساحل الأفريقي باتت تشكل إحدى دوائر الحركة الاستراتيجية لروسيا في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، التي تعتمد في إطارها على بناء وتطوير تحالفات مع الدول ذات التوجهات المناوئة للقوى الغربية، وهو ما يحقق لها فائدة مزدوجة، سواء على مستوى تعزيز نفوذها الإقليمي أو مزاحمة النفوذ الغربي وتقليص وجوده. وتشير الرؤية المستقبلية إلى استمرار روسيا في تبني نهج قائم على استقطاب مزيد من دول المنطقة؛ وذلك عبر إغرائها بالحصول على العديد من الامتيازات على الصعيدين الأمني والاقتصادي، وهو ما سيجد قبولاً لدى هذه الدول، ولا سيما في ضوء احتياجاتها وأولوياتها الوطنية من جانب، والبحث عن بديل لأدوار القوى الغربية "غير المؤثرة أو الفاعلة" من وجهة نظرها على كافة المستويات من جانب آخر.