مسارات محتملة

عقد "إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية"، حلقة نقاشية بعنوان "مسارات محتملة: السياسات الأمنية لأوروبا الشرقية في ظل الحرب الأوكرانية"، وهي الحلقة التي استضاف فيها المركزُ د. ليليانا فيليب رئيسة مجموعة الأبحاث السياسية في رومانيا، وقد أكدت المتحدثة الرئيسية أن الحرب الأوكرانية بدأت مع غزو شبه جزيرة القرم في عام 2014، وأن الدول الأوروبية والغربية لم تتخذ رد فعل قوياً في ذلك التوقيت، وهو ما حفَّز موسكو على التدخل العسكري في أوكرانيا، وأن هذه الحرب سوف تؤثر على استقلالية الأراضي الأوكرانية، ويمكن تناول أبرز ما جاء في الحلقة النقاشية على النحو التالي:


رؤية أوروبا الشرقية

استعرضت المتحدثة الرئيسية رؤية دول أوروبا الشرقية لاندلاع الحرب الأوكرانية؛ وذلك على النحو التالي:

1– بداية حرب أوكرانيا مع غزو شبه جزيرة القرم

أكدت المتحدثة الرئيسية أن "حرب أوكرانيا لم تبدأ في عام 2022، بل بدأت مع عام 2014، عندما تمَّ غزو شبه جزيرة القرم. ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف الحرب. وهي ليست نقطة تحوُّل في التاريخ الأوروبي أو التاريخ العالمي. لكن نحن بحاجة إلى أن نرى أنه حدث يضخِّم الكثير من الاتجاهات، وهو حجر الزاوية عندما نتحدث عن نظام عالمي جديد. وقد عرفنا سلوك روسيا الاتحادية في الخارج وفي جميع البلدان، وقد بدأت معرفة هذا السلوك في عام 2008 عندما اعتدت على جورجيا، وما هذا إلا استمرار للاستراتيجية الأمنية للاتحاد الروسي".

2– عدم اتخاذ رد فعل غربي قوي ضد روسيا عام 2014

بحسب المتحدثة الرئيسية فإن "رد فعل الناتو والدول الأوروبية والولايات المتحدة لم يكن مناسباً في عام 2014؛ الأمر الذي هيَّأ أفضل الفرص لروسيا للتدخل بشكل أكبر في عام 2022. ومن هنا تم تكثيف كل شيء، ونحن الآن نتحدث عن مفهوم مثل السيادة، بما أن أوكرانيا يمكن أن تصبح عضواً في الناتو؛ لذلك تدور في أوروبا المناقشات الفكرية حول الحرب في أوكرانيا عن هذه المواضيع.

3– تأثير الحرب على استقلالية الأراضي الأوكرانية

طرحت المتحدثة الرئيسية تساؤلاً حول شكل الدولة الأوكرانية عقب الحرب، وأكدت أن جزءاً من أوكرانيا لا يزال مستقلاً، بينما سيبقى جزء آخر مع روسيا، والأجزاء التي انضمَّت إلى روسيا بالفعل أصبحت الآن مليئة بالسكان الروس، لكنهم ليسوا غالبية؛ لذا فإن توضيح وضع المنطقة الأوكرانية الانفصالية هناك سيكون مشكلة كبيرة؛ فإذا لم يكن أحد – في رأيي – يريد أن تنتهي هذه الحرب، فيجب علينا أن نرى كيف سنتعامل في المستقبل مع البنية الأمنية في هذه المنطقة وفي أوروبا، وكيف سيؤثر كل هذا على توازن القوى الدولي".

4– ضعف تمويل البحث والتطوير العسكري في أوروبا

انتقدت المتحدثة الرئيسية ضعف التمويل المُقدَّم للبحث والتطوير في التقنيات العسكرية الناشئة في أوروبا، وقالت إن "برنامج جاكوار في فرنسا لن يدخل الخدمة حتى عام 2030؛ بسبب افتقاره إلى المال، وهو برنامج متأخر عن موعده بخمس سنوات. وكذلك يتأخر فريق برنامج أياكس البريطاني عن الموعد المحدد بعشر سنوات. إذن، كل هذه التأخيرات ليست بسبب عدم وجود خبراء لإيجاد الحل الأفضل. كل هذه التأخيرات هي لأنك في حاجة إلى استثمار الكثير من الأموال في البحث والتطوير قبل أن تجد الحل الأفضل. وأعتقد أن هذه هي الحرب التي نُواجِهها الآن، لإدخال البرمجيات التحويلية في القدرات العسكرية التقليدية والقيام بذلك في الوقت المناسب، وليس بعد 50 عاماً".

5– تصاعد معضلة أمن الطاقة في أوروبا عقب الحرب

تناولت المتحدثة الرئيسية مسألة أمن الطاقة في أوروبا عقب الحرب، وأن أوروبا كانت وما زالت تعتمد على روسيا في هذا المجال، وأضافت: "بالرغم من أننا خضنا الكثير من المناقشات حول تنويع مصادر الطاقة، فإننا لم نفعل شيئاً. يمكننا أن نقول إننا الآن ننظر إلى الهيدروجين، ونتطلع إلى تحويل هدر الطاقة. لقد اعتمدنا حتى في رومانيا برنامجاً لتنفيذ مفاعلات نووية صغيرة، وهو برنامج أمريكي تجريبي، ويجب تنويع مصادر الطاقة هذه، وهو مهم أيضاً؛ لأنه سيؤثر على نفوذ روسيا وطرق وكيفية كسب روسيا للمال لدعم المجهود الحربي".

وأشارت إلى أنه "في عام 2022، قبل الحرب، ذهبت 60% من صادراتها النفطية إلى أوروبا، وإلى أن 74% من غازها الطبيعي خام؛ إذ إن أغلبية إنتاج النفط والغاز الروسيين ذهب إلى أوروبا. نعلم أن ألمانيا كانت أول من قالت إنها لن تستمر في العمل في خط أنابيب نورد ستريم 2، كما تحاول جميع الدول التخلي عن عقود الغاز في المنطقة. وهذا يعني أنه إذا استمر هذا الاتجاه، فإن روسيا لن تحصل على الأموال التي تحتاجها لمواصلة الحرب ودعم الاقتصاد في روسيا. وحتى لو أصبحت الصين حليفاً أكبر من ذلك لروسيا، فلن يكون ذلك كافياً لتغطية هذه الخسائر من أوروبا، ولكن يبقى السؤال حول إذا ما كانت أوروبا ستنفذ كل هذه الأفكار في الوقت المناسب".

6– تقييم أوروبي شامل للأمن الاقتصادي

وفق المحدثة الرئيسية، يقترح الاتحاد الأوروبي إجراء تقييم شامل للأمن الاقتصادي في عدة مجالات؛ "إذ بتنا نواجه خطراً على مرونة سلاسل التوريد. وقد حدث ذلك بعد الحرب الأوكرانية؛ حيث كان الأمر بمنزلة كابوس فيما يتعلق بسلاسل التوريد، بما في ذلك أمن الطاقة. والثاني هو المخاطر التي تهدد الأمن المادي والسيبراني أو البنية التحتية الحيوية. والثالث المخاطر المتعلقة بالأمن التكنولوجي وتسرب التكنولوجيا، التي يمكننا التفكير فيها بما تدعيه الولايات المتحدة دائماً عن الصين، لا سيما ما يتعلق بالإكراه الاقتصادي. هذا هو الوضع الذي تقوم فيه روسيا بهذا التحول الاقتصادي في مجال الطاقة".

7– تصاعد تأثير الحملات الإعلامية الروسية حول الحرب

أوضحت المتحدثة الرئيسية أن توظيف بعض الدول حملات إعلامية للتأثير على الرأي العام في أوروبا الشرقية كان أمراً قائماً الحرب الأوكرانية، لكنه الآن أصبح أكثر تفاقماً. والآن بسبب سياق الانتخابات، أصبح الأمر خطيراً للغاية. لقد رأينا أن هذا الوضع في بولندا وسيظهر في رومانيا العام المقبل في ظل وجود حزب شعبوي يسيطر عليه المتطرفون اليمينيون، الذين لديهم موقف مناهض للغاية ضد حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ويحاولون كثيراً اتباع النموذج المجري، وبحسب بعض الأدلة، فإن هذا الحزب تُموِّله روسيا".

وأضافت: "بوجود كل هذه العناصر، فإن حملات التضليل على قنوات التواصل الاجتماعي لها تأثير أكبر؛ لأن السياق معقد، وبه مشاكل وتطورات ضخمة ستؤثر على مستقبلنا. مع إجراء الانتخابات الأربعة في رومانيا العام المقبل، سيكون الأمر كذلك. وسيكون من الصعب جداً إدارة كيفية القيام بذلك؛ لأنه ليس لديك الوقت لتثقيف الناس، وليس لديك الوقت لتبين لهم ما هو صحيح وما هو غير صحيح. هل ستحتاج إلى الكثير من المناقشات مع شركة ميتا، ومع جوجل، ومع كل هذه الشركات الكبرى التي يمكنها التفاعل بشكل أفضل ويمكنها إزالة ما هو غير صحيح على الإنترنت؟ لن يتمكنوا من فعل ذلك؛ لأنه الصعب جداً، بمجرد نشر شيء ما، القول بأن هذا غير صحيح".

8– استبعاد انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو في المدى القريب

وفق المحدثة الرئيسية فإن "الكثير من قادة الرأي يحاولون إقناع الناتو بأن الحلف بحاجة إلى اعتماد أوكرانيا عضواً. وفي الحقيقة فإن أوكرانيا في حالة حرب، وإن المنطقة مقسمة. في رأيي، لن نرى هذا يحدث قريباً. وربما في أفضل السيناريوهات بالنسبة إليهم، يمكن لحلف شمال الأطلسي أن يبرم اتفاقاً خاصاً مع أوكرانيا، بجانب الاتفاق الذي تساعدها فيه جميع الدول الأعضاء بالمعدات والدعم، لكن انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، ليس بالأمر الممكن. لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نحاول إيجاد الحل الأفضل للدفاع عنها ودعمها في هذا الأمر".

استراتيجيات متباينة

كشفت المتحدثة الرئيسية عن استراتيجيات دول أوروبا الشرقية، سواء بشكل متعدد الأطراف أو من خلال حلف الناتو للتعامل مع الحرب الأوكرانية وتداعياتها؛ وذلك على النحو التالي:

1– توظيف الحرب في المنافسة الإقليمية بين دول شرق أوروبا

ذكرت المتحدثة الرئيسية أن رومانيا قدمت الكثير من الدعم لأوكرانيا التي تشترك معها في حدود يزيد طولها عن 600 كيلومتر، ولكن رومانيا لم تعلن عن كل الدعم المقدم لكييف؛ لذا واجهت الكثير من المشكلات على المستوى الإقليمي، خاصةً أن بولندا هي أول من يتهم رومانيا دائماً بعدم المساهمة بما فيه الكفاية، حتى لو كانت تستخدم ذلك للمنافسة الإقليمية فقط، مع أن هناك أقليات أوكرانية في رومانيا، وكانت منظمات المجتمع المدني هي أول منظمات تتقدم وتساعد الكثير من الأوكرانيين عندما كانت الحياة صعبة عليهم.

2– توجُّه دول أوروبا الشرقية إلى تعزيز الاستثمارات الدفاعية

قالت المتحدث الرئيسية: "في رأيي فإن هذه الحرب ستستمر، ولن نرى حلاً قريباً؛ لأن هناك الكثير من التعقيدات والسيناريوهات المختلطة، ولا أحد يريد تحمل المسؤولية فعلياً. وقد أثرت الحرب الأوكرانية على دول أوروبا الشرقية في مجال المشتريات والاستثمارات الدفاعية؛ فتم تحديث كل جيوش المنطقة، وتم تبني التقنيات الناشئة في قدراتها العسكرية. لكن من المهم جداً أن يكون حلف شمال الأطلسي (الناتو) منخرطاً في هذا؛ لأن كل هذه الدول أعضاء في حلف شمال الأطلسي. وبالنسبة إلينا، فإن المظلة الأمنية التي يوفرها حلف شمال الأطلسي تعني أنه يمكننا اعتبار أن روسيا لن تهاجمنا أبداً، وأن الحرب في أوكرانيا ستبقى في أوكرانيا، ولن يكون من الممكن أن تنتهي الحرب الإقليمية؛ لذا نحن نعلم أن حلف شمال الأطلسي أطلق مبادرة نشر القوات؛ ما يعني أن الكثير من الدول ستنشر قواتها لتعزيز الجاهزية العسكرية".

3– تفضيل رفع مستويات الردع الأوروبي ضد موسكو

وفق المتحدثة الرئيسية فإن "كل هذه التحركات ليست لأننا نعتقد أن روسيا ستهاجمنا، بل لدورها الرادع ولإظهار أن لدينا مستوى عالياً من الأمن العسكري. وكذلك بعد الحرب الأوكرانية، بات لدينا مفهوم جديد لاستراتيجية الناتو يحدد بوضوح شديد أن روسيا هي التهديد الأكثر خطورةً ومباشرةً للحلفاء، كما أنها تتعامل مع كون الصين معتدية على قيم مجتمعنا عبر الأطلسي".

وبحسب المتحدثة الرئيسية فإن "من المهم للغاية أن نذكر أيضاً الصين في هذه المناقشة؛ لأن تأثيرها ضخم، ويمكن أن نرى تعاوناً كبيراً بين روسيا والصين، خاصةً بعد الحوار الذي رأيناه خلال الأشهر الستة الماضية، وهو أمر مهم للأمن الدولي الذي يؤثر علينا جميعاً، ولكن التركيز الأكثر أهميةً لحلف شمال الأطلسي هو الردع والدفاع من خلال دفاعات مباشرة تعزز المجموعات القتالية في الجزء الشرقي من الحلف وزيادة عدد القوات العالية الاستعداد إلى أكثر من 200 ألف جندي".

4– تعزيز الاعتماد على التطوير العسكري التكنولوجي

أكدت المتحدثة الرئيسية أنه عقب الحرب الأوكرانية أصبح حلف الناتو أكثر تركيزاً على الابتكار والتكنولوجيات الناشئة في المجال العسكري، وأضافت: "أعتقد أن الحرب في أوكرانيا تزيد من هذا الاتجاه؛ لأنها تبني الكثير من المنصات والبرامج للشركات الناشئة ولتمويل التطوير الجديد للمنتجات التي تستخدم التقنيات الناشئة التي تمثل أولوية قصوى لحلف شمال الأطلسي، كما أنها تستخدم ساحة المعركة في أوكرانيا لاختبار كل هذه القدرات العسكرية الجديدة، وهي بالنسبة إليهم معمل ضخم لاختبار الأجهزة العسكرية الجديدة".

5– تمويل الناتو التحديث العسكري للجيوش في أوروبا

وفق المتحدثة الرئيسية فإن هناك مركز ابتكار جديداً لحلف شمال الأطلسي لمساعدة الحلف على تعزيز تفوقه التكنولوجي، وهو أول صندوق لرأس المال الاستثماري في العالم، وهو ما يعني الكثير؛ لأنه سيكون لدى الناتو المال لتمويل التعليمات أو الحلول العسكرية. وأضافت: "سوف يستثمر هذا الصندوق مليار يورو في الشركات الناشئة في مراحلها المبكرة وغيرها من صناديق رأس المال الاستثماري، وتطوير التقنيات الناشئة ذات الأولوية بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي، وهذا أمر مهم للغاية. وسيشمل ذلك الذكاء الاصطناعي، ومعالجة البيانات الضخمة، وتقنيات تمكين الكم، والتكنولوجيا الحيوية للاستقلالية، وهي تكنولوجيا جديدة جداً لبعض الجيوش في نهجنا المعاصر؛ لذا فإن الصندوق سوف يكمل برنامج تسريع الابتكار الدفاعي التابع لحلف شمال الأطلسي، وسنبدأ في تطوير وتكييف التقنيات الناشئة ذات الاستخدام المزدوج مع التحديات الأمنية والدفاعية الحرجة".

وختاماً، أشارت المتحدثة الرئيسية إلى أن "الناتو اتجه إلى تطوير استراتيجيته العسكرية بعد تفاقم هذه الحرب، لا سيما ما يتعلق بالدفاع المتقدم؛ لأن هذه القوات موجودة بالفعل على الأرض، وهناك الكثير من الإجراءات والمذكرات المتبادلة التي تؤثر على الأمر، ونقول إننا ملتزمون بذلك. يمكننا نشر قوات إضافية قوية جاهزة للقتال في أوروبا الشرقية ليتم ترقيتها من المجموعات القتالية الحالية إلى حجم لواء عريض؛ ما يعني الكثير من الخدمات اللوجستية حيثما ومتى لزم الأمر، مدعومة بتعزيزات موثوقة ومتوافرة بسرعة، وبمعدات تم وضعها مسبقاً؛ لذلك نحن جاهزون. يمكننا القول إننا نتجه نحو جيش أوروبي، حتى لو لم تكن فكرة ماكرون.. هذا هو ما يطوره الناتو".