مفترق طرق:

في 22 أكتوبر 2023، وجدت الأرجنتين نفسها في مركز اهتمام العالم؛ حيث أجرت انتخابات رئاسية طال انتظارها. وكان الزعماء السياسيون في أمريكا الجنوبية يشعرون بالقلق إزاء فوز مرشح يميني متطرف بالرئاسة. وعلى الرغم من تاريخها الحافل بالتقدم والنمو، واجهت الأرجنتين سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العقود الأخيرة، وهي الأزمات التي ولَّدت انعدام الثقة السياسية وعدم الاستقرار.


لم تتمكن الحكومة الأرجنتينية الحالية من كسر دائرة الركود الاقتصادي، وفشلت في إحداث التغيير استجابةً للمطالب الأساسية للشعب. وساهمت المشاكل الاقتصادية، بما في ذلك العجز في الميزانية، والديون الخارجية، وارتفاع التضخم، ومعدلات الفقر التي تزيد عن 40%، في خفض شعبية الرئيس ألبرتو فرنانديز، كما شهدت الجماعات السياسية التقليدية تراجع شعبيتها وسط الإرهاق السياسي من أداء ممثليها. وعلى نحو مماثل، أدت نقاط الضعف التي تعيب التحالف بين البيرونية والكيرشنرية إلى هزيمة تلك المجموعة في المجلس التشريعي. ومع عدم قدرة هذه القوى على تشكيل ائتلافات للحكم، عاد اليمين التقليدي إلى الظهور من جديد. وفي الوقت نفسه، تمكَّن مرشح خارجي من اكتساب أتباع من خلال خطب مناهِضة للمؤسسة الحاكمة وبرنامج سياسي غير ديمقراطي.


تنافس حاد

تختلف انتخابات أكتوبر 2023 عن الانتخابات السابقة في الأرجنتين. كان هناك مرشحان لديهما فرصة للفوز: البيروني سيرجيو ماسا، واليميني المتطرف خافيير ميلي الذي يحارب أيضاً اليمين المعتدل، الذي تمثله باتريشيا بولريتش، لكسب ثقة الناخبين المحبَطين من الطبقة السياسية التي عجزت عن الاستجابة لمشاكل المواطنين ومطالبهم. انعكس هذا السخط في استطلاعات نوايا التصويت، التي جاء فيها ميلي في المركز الأول، والتي رجحت وصول أكثر من منافس محتمل إلى الجولة الثانية.


ومع ذلك، فإن إثارة المخاوف حول ما يمكن أن يفعله فوز ميلي بالأرجنتين، أثبتت أنها استراتيجية سياسية فعالة ضد المرشح اليميني. وفي خضم المشاعر المناهضة للكيرشنرية، جاء ماسا في المركز الأول في صناديق الاقتراع.


وكان فوز ماسا في الجولة الأولى غير متوقع؛ إذ شهدت الأرجنتين خلال فترة توليه منصب وزير الاقتصاد تضخماً سنوياً وصل إلى 140%. يُذكَر أن ماسا عضو في الحكومة الحالية، ولا يتبع حركة كيرشنر (حركة سياسية من يسار الوسط تجمع بين المتغيرات الأيديولوجية للبيرونية "القومية الشعبية" وأيديولوجية الرئيسين السابقين نيستور كيرشنر وكريستينا فرنانديز دي كيرشنر). ويُنظَر إلى ماسا على أنه ممثل لحركتين سياسيتين يمكن أن تُلحِقا المزيد من الضرر بالديمقراطية في الأرجنتين.


ترتكز مقترحات ماسا على سياسات تقدمية، وقال إنه سيتبع سياسة مالية متوازنة، ويُحقِّق فائضاً تجارياً، وسعر صرف تنافسياً، وتنميةً شاملةً. ووفقاً للأيديولوجية البيرونية، يُركِّز برنامج ماسا على سياسة الرعاية الاجتماعية والتوازن الاقتصادي من خلال توزيعٍ أفضلَ للدخل، وتوسيع نظام التعليم العام، وتحسينه، بالإضافة إلى خلق المزيد من فرص العمل، ومكافحة القطاع غير الرسمي، وتبسيط الضرائب؛ حتى تتمكَّن الشركات الصغيرة والمتوسطة من تنظيم نفسها، وبالإضافة إلى ذلك، اقترح إنشاء وكالة استخبارات أفضل تنظيماً لتحسين الأمن العام ومكافحة تهريب المخدرات.


ومن ناحية أخرى، قدَّم ميلي نفسه بديلاً للسياسة القديمة، وركَّز على عدم تدخل الدولة في الحريات الفردية. وبعبارة أخرى، فهو يخوض الانتخابات تحت راية التحررية الأناركية، ويحمل أيديولوجية من شأنها أن تُعرِّض الديمقراطية والعلاقات الخارجية وحقوق الإنسان للخطر. بالنسبة إلى ميلي، فإن الثورة التحررية هي السبيل الوحيد لتصبح الأرجنتين قوةً عالميةً؛ ولهذا السبب فهو يدعم عدم تدخُّل الدولة في الاقتصاد وتقرير مصير المواطنين. وتشمل تداعيات هذه المقترحات إغلاق البنك المركزي لإنهاء التضخم، بالإضافة إلى سياسات مكافحة الهجرة، ودولرة العملة، وإنشاء سوق الأعضاء، واتخاذ موقف مُتشدِّد ضد الجريمة، وإصلاح نظام العدالة (بسبب عدم المساواة في المعاملة أمام القانون)، والاصطفاف مع الدول غير الشيوعية.


وفي الأيام التي سبقت جولة الإعادة، ظَلَّ السباق بين ميلي وماسا متقارباً، وقد لا تتضح النتيجة قبل 19 نوفمبر. وقد اتسمت الحملات بمشهد سياسي متغير؛ فقد ألقى ميلي خطابات أكثر اعتدالاً؛ حيث صوَّر نفسه على أنه الخيار الوحيد للناخبين الذين يريدون التغيير، في حين أكد ماسا أنه المرشح الجاد والموثوق. وقد سعى الأخير إلى كسب جزء من دائرة بولريتش الانتخابية من خلال الكشف عن شخصية خصمه غير المستقرة.


تحديات الحكم

سيواجه الفائز في جولة الإعادة في نوفمبر تحديات تتعلق بالحكم، وتتفاقم بسبب الاضطرابات الاجتماعية وأزمة التضخم. وإذا فاز ميلي فسوف يفتقر إلى الأغلبية اللازمة في الكونجرس لتمرير مقترحاته المتطرفة، وسوف يحظى بقاعدة أتباع محدودة في المقاطعات. ومن المحتمل أيضاً أن تكون هناك مقاومة قوية لسياسته الخارجية؛ نظراً إلى أن ميلي يخطط للانسحاب من ميركوسور (السوق المشتركة الجنوبية) وقطع علاقات الأرجنتين مع الدول التي يعتبرها شيوعيةً، مثل البرازيل والصين وروسيا، التي تعد شركاء تجاريين رئيسيين لدول البريكس. ومن شأن مثل هذه السياسات أن تولد توترات سياسية واقتصادية خطيرة، وتؤدي إلى تآكل الدعم الاقتصادي والسياسي للأرجنتين.


وإذا فاز ماسا فسوف يواجه أيضاً مساراً مليئاً بالتحديات، مع قدرة ضئيلة على تنفيذ إصلاحات كبيرة لحماية رفاهية الشعب الأرجنتيني. وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، يبدو أن ماسا يدرك أن العلاقات المتعددة الأطراف تُشكِّل أهمية كبيرة لتعزيز الاقتصاد الأرجنتيني. من المرجح أن يكون ماسا أكثر استعداداً من خصمه لمواصلة التحالفات التجارية القديمة والجديدة، ولن يسعى إلى إبعاد الأرجنتين عن مجموعة البريكس أو الولايات المتحدة أو ميركوسور.


خلاصة القول أن جولة الإعادة المقرر انعقادها يوم 19 نوفمبر 2023 ستشهد منافسة حادة بين المرشحين ميلي وماسا، وخاصةً مع تقارب موقف الناخبين من المرشحين بحسب استطلاعات الرأي، ناهيك عن مراهنة الكثيرين من المواطنين على هذه الانتخابات؛ نظراً إلى ما تنتظره الحكومة الجديدة من ملفات مهمة، وفي مقدمتها الوضع الاقتصادي المأزوم الذي أفضى إلى معيشة نحو 40% من سكان البلاد تحت خط الفقر.