تصاعدت حدة التوترات بين كوسوفو وصربيا خلال الأيام الماضية في ظل مطالبة حكومة كوسوفو صربيا بسحب قواتها المنتشرة على الحدود بين البلدين، ليشير بيان صادر عن حكومة كوسوفو إلى أن "نشر قوات صربية على الحدود هو الخطوة المقبلة من صربيا لتهديد وحدة أراضي كوسوفو"، وهو البيان الذي جاء بعد تصاعد الأحداث على خلفية الاشتباكات التي اندلعت يوم 24 سبتمبر الماضي بين شرطة كوسوفو ونحو 30 صربياً دخلوا قرية بانيسكا في كوسوفو، وهي الاشتباكات التي أفضت إلى مقتل 3 من العناصر الصربية وضابط شرطة من كوسوفو. صحيح أن الأزمة هدأت بعد إعلان صربيا إعادة مستوى "قواتها على طول الحدود مع كوسوفو إلى الوضع الطبيعي"، عقب الضغوط والمطالب الدولية على الطرفين لتخفيض التصعيد، بيد أن العوامل المحفزة لتجدد الأزمة لا تزال قائمة.
عنف متجدد
تجدد الصدام مؤخراً بين صربيا وكوسوفو عقب دخول مجموعة مسلحة صربية إلى قرية بانيسكا في شمال كوسوفو بالقرب من الحدود الصربية، واشتبكت معها قوات كوسوفو. وبالرغم من تهدئة الأوضاع نسبياً عقب التدخل الدولي، فإن الأزمة كشفت عن عدد من الأبعاد المتمثلة فيما يلي:
1– تصاعد حدة العنف في كوسوفو: كشفت الأزمة الأخيرة بين كوسوفو وصريبا عن تصاعد حدة العنف؛ إذ بدأت الأحداث في يوم 24 سبتمبر الماضي عندما أغلقت مجموعة مكونة من ثلاثين مسلحاً صربياً طريقاً بالقرب من بانيسكا، وهي قرية تقع بالقرب من زفيتشان شمال كوسوفو. وأدى تبادل إطلاق النار مع شرطة كوسوفو إلى مقتل ضابط وإصابة عدد آخر. وتصاعدت المواجهة عندما أرسل الكوسوفيون قوات إضافية، وتم إطلاق النار على ثلاثة من المسلحين الصرب المدججين بالسلاح. واعتقلت الشرطة ستة صربيين آخرين، وصادرت مخبأً كبيراً للأسلحة من دير بانيسكا القريب. ويبدو أن بقية المجموعة ربما تكون قد انسحبت إلى صربيا بعد مفاوضات مع السلطات.
2– معضلة تنظيم حكومة كوسوفو انتخابات محلية: لعلالسبب المباشر للتصعيد الأخير يرجع في الأساس إلى مساعي حكومة كوسوفو، بقيادة رئيس الوزراء ألبين كورتي، لتعزيز سيطرتها على شمال البلاد، وهو ما بدا جلياً عند إجرائها انتخابات محلية في أبريل الماضي في المنطقة الشمالية، ليحل قادة ألبان محل الصرب الذين استقالوا في نوفمبر 2022.
وهو ما ترتَّب عليه مقاطعة الصرب تلك الانتخابات، مع تصويت الأقلية الألبانية الصغيرة، حتى بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات أقل من 4%. ورداً على ذلك، حاول الصرب منع رؤساء البلديات المُنتخَبين حديثاً من أصل ألباني من دخول مكاتبهم، وهو الوضع الذي نجم عنه إصابة نحو 30 من قوات حفظ السلام التابعة لحلف شمال الأطلسي، وأكثر من 50 متظاهراً صربياً في الاشتباكات التي تلت ذلك.
3– استمرار انعكاسات أزمة لوحات ترخيص السيارات: تصاعدت التوترات بين كلا الجانبين منذ أشهر بفعل النزاع حول لوحات ترخيص السيارات؛ حيث ترغب كوسوفو منذ سنوات في أن يغير صرب شمال كوسوفو لوحات سياراتهم الصربية – التي يرجع تاريخها إلى حقبة ما قبل الاستقلال – إلى لوحات صادرة عن العاصمة الألبانية بريشتينا، باعتبار ذلك جزءاً من سياستها الرامية إلى تأكيد سلطتها على كامل أراضي كوسوفو؛ حيث أعلنت عاصمة كوسوفو وأكبر مدنهابريشتينا في يوليو 2022، عن مهلة شهرين لتبديل اللوحات؛ ما أثار اضطرابات وغضباً صربياً، دفع رؤساء البلديات من العرق الصربي في البلدات الشمالية، بجانب القضاة المحليين و600 ضابط شرطة إلى الاستقالة في نوفمبر من العام الماضي؛ ما دفع حكومة كوسوفو إلى الموافقة في وقت لاحق على تأجيل موعد التنفيذ إلى نهاية عام 2023.
4– سيطرة بريشتينا على مبانٍ في مدن ذات أغلبية صربية: بالتزامن مع الحشد الجماهيري من جانب كل من الطرفين ضد الآخر، سيطرت حكومة كوسوفو على المباني البلدية في أربع مدن شمالية ذات أغلبية صربية في 26 مايو الماضي، وهو ما أثار احتجاجات عنيفة؛ ما دفع قوة حفظ السلام التي تقودها الولايات المتحدة إلى التدخل. وبعد ذلك بأيام، في 29 مايو الماضي، اشتبك متظاهرون من أصل صربي ومسلحون مع قوات كوسوفو في زفيتشان إحدى البلدات الشمالية؛ ما نجم عن ذلك إصابة العشرات.
مؤشرات مقلقة
بالرغم من تهدئة الأزمة الأخيرة بين صربيا وكوسوفو بعد إعلان صربيا إعادة مستوى "قواتها على طول الحدود مع كوسوفو إلى الوضع الطبيعي"، وخاصةً بعد الضغط الدولي وإعلان عدد من القوى الغربية العمل على دعم قوة حلف الناتو الموجودة في كوسوفو؛ فإن ثمة تخوفات قائمة بشأن احتمالية تجدُّد الصراع بين صربيا وكوسوفو. ولعل ذلك الاحتمال يعززه عدد من العوامل التي يمكن استعراضها فيما يأتي:
1– تراجع فعالية جهود التهدئة الدولية: لطالما تدخَّلت القوى الغربية في محاولة تهدئة الأوضاع بين صربيا وكوسوفو، غير أن محاولات التوسط، وإن نجم عنها تهدئة لبعض الفترات، لم تسفر عن استقرار فعلي وحل جذري للخلاف التاريخي بين كوسوفو وصربيا. ورغم محاولات مبعوثي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للضغط على صربيا وكوسوفو للموافقة على خطة قُدِّمت في منتصف عام 2022 من أجل تسوية الصراع بينهما، فإنها لم تُحرِز تقدماً حتى الوقت الراهن في هذا الملف.
هذا وتعثرت المحادثات الرامية إلى تطبيع العلاقات بين البلدين تحت رعاية الاتحاد الأوروبي في سبتمبر الماضي، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تحميل رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي مسؤولية ذلك؛ نظراً إلى إخفاقه في إنشاء رابطة البلديات للمدن بكوسوفو، بما فيها التي توجد بها غالبية صربية.
2– تمسك الطرفين بخطاب التصعيد: رغم كافة مساعي التهدئة، فإن الطرفين لا يزالان متمسكَين بخطاب التصعيد، وكَيْل كل منهما الاتهامات ضد الآخر؛ فعقب الاشتباك الذي وقع في سبتمبر الماضي، ألقت كل من بلجراد وبريشتينا اللوم على الأخرى؛ فبينما اتهم الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش حكومة كوسوفو بـ"الإرهاب"، فإن رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي من جانبه، قد اتهم صربيا بتقديم الدعم المالي واللوجستي للجماعات الإجرامية التي تهاجم كوسوفو.
ولعل ما يزيد صعوبة التوصل إلى حل وتهدئة لخطاب الصعيد أن كلاً من كوسوفو وصربيا تحت حكم زعماء قوميين؛ فمن ناحية يُعَد رئيس صربيا قومياً متطرفاً يُصر على عدم الاعتراف مطلقاً بكوسوفو، ويؤكد أن منح صرب كوسوفو مستوى من الاستقلال يجب تنفيذه أولاً قبل التوصل إلى اتفاقيات جديدة؛ فإن رئيس وزراء كوسوفو يصر على فرض سيطرته على المناطق الشمالية من الدولة التي يوجد بها غالبية من أصل صربي.
3– تشكك صرب كوسوفو في الأطراف الدولية المتدخلة: تشير بعض التقارير الدولية إلى أن صرب كوسوفو في الوقت الراهن غاضبون، ومتخوفون ومتشككون في كافة الأطراف المعنية، بما في ذلك حكومتا كوسوفو وصربيا، ووسطاء الاتحاد الأوروبي، وقوات حفظ السلام التابعة لقوة كوسوفو، خاصةً في ضوء النظرة السلبية إليهم من قبل كافة الأطراف؛ فبينما تنظر إليهم بلجراد على أنهم مهجورون بلا قيادة، فإن كوسوفو تنظر إلى المجتمع الصربي الشمالي على أنهم متمردون، وفي أسوأ الحالات "ميليشيا فاشية".
4– مقاومة صرب كوسوفو لسياسات بريشتينا: انطلاقاً من كون صرب كوسوفو يشكلون الأغلبية من المنطقة الشمالية من كوسوفو، فإنهم يعتبرون أنفسهم امتداداً فعلياً لصربيا؛ حيث تدفع بلجراد تكاليف الإدارة المحلية والموظفين العمومين والمدرسين والأطباء ومشاريع البنية التحتية الكبيرة؛ لذا يخشى الصرب المحليون أنه بمجرد اندماجهم بالكامل داخل كوسوفو، قد يفقدون فوائد كالرعاية الصحية العامة المجانية في صربيا، ويضطرون عوضاً عن ذلك إلى الانضمام إلى نظام الرعاية الصحية الخاص بكوسوفو، كذلك يخشون أن تكون المعاشات التقاعدية أقل، خاصةً أن متوسط المعاش الشهري في كوسوفو يقدر بنحو 100 يورو (107 دولارات) مقارنةً بـ270 يورو (288 دولاراً) في صربيا، وهو ما يدفعهم نحو مقاومة كافة مساعي حكومة كوسوفو للسيطرة على المنطقة الشمالية والدخول تحت إمرتها، وفي المقابل المطالبة بالمزيد من الحكم الذاتي.
5– تصاعد أعمال الجماعات الإجرامية في كوسوفو: الشاهد في التوترات المتجددة خلال الأشهر الماضية، أن هناك صعوداً في أعمال العنف من قِبل جماعات إجرامية في كوسوفو، وهي الثغرة الأمنية التي يمكن لصرب كوسوفو الاستفادة منها؛ حيث بإمكانهم الاعتماد على أكثر من 1000 شخص مسلح، بما في ذلك أفراد الشرطة السابقون وقدامى المحاربين في فيلق الدفاع المدني – وهي هيئة مدنية سمتها بلجراد للتحايل على الحظر الذي فرضه مجلس الأمن على قواتها المسلحة في كوسوفو – فضلاً عن عدد من المنتمين إلى إحدى الجماعات الإجرامية في المنطقة، في تدعيم رفضها ومقاومتها لحكومة كوسوفو.
6– إمكانية تراجع سيطرة بلجراد على المجموعات المسلحة في كوسوفو: خلال السنوات الماضية، دفعت العديد من التحليلات بأن صربيا تستخدم بعض المجموعات المسلحة داخل كوسوفو لخدمة مصالحها، ولكن بمرور الوقت باتت العلاقة بين صربيا وهذه المجموعات موضوع شكوك هائلة؛ إذ افترض البعض أن قادة هذه المجموعات، وقادة صرب كوسوفو بوجه عام، باتوا يطمحون إلى درجة أكبر من الاستقلالية بعيداً عن صربيا. لقد طُرحت هذه الإشكالية عقب الاشتباكات العنيفة في سبتمبر الماضي، والحديث عن دور محتمل لـ"ميلان رادويتشيتش"، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الحزب الصربي المهيمن في الشمال "صربسكا ليستا" (القائمة الصربية)، في المواجهات المسلحة. وبالرغم من الاتهامات الموجهة إلى "رادويتشيتش" بالتورط في الاشتباكات وكذلك الوجود في مكان الاشتباكات، خرج الرئيس الصربي "ألكسندر فوتشيتش" في مقابلة مع إذاعة (RTS) الوطنية في 27 سبتمبر الماضي، ليؤكد أن رادويتشيتش موجود في صربيا.
وما زاد من تعقيد المشهد أن وزارة الداخلية الصربية، أعلنت يوم 3 أكتوبر الجاري، توقيف رادويتشيتش وإيداعه الحبس الاحتياطي لمدة 48 ساعة، وتسليمه إلى النيابة العامة في بلجراد، مؤكدةً "تنفيذ عمليات دهم وتفتيش شقته وعقارات أخرى عائدة له".
وتثير حالة "رادويتشيتش" بعض التساؤلات حول حدود علاقة صربيا بالمجموعات الموجودة في كوسوفو؛ فمن الواضح أن العملية التي نفذتها مجموعة صربية في الشهر الماضي، لم تكن بالتنسيق مع بلجراد، وهو أمر يثير مخاوف بشأن تراجع سيطرة بلجراد على الصرب في كوسوفو؛ لأن المجموعات المسلحة في كوسوفو ستعمل في المستقبل بعيداً عن صربيا، وقد لا يكون لديها حافز لقبول أي خطة تسوية من قبل الأطراف الدولية، وهو ما سيحولهم إلى مفسدين (spoilers) لأي تسوية محتملة للصراع ما لم تحقق هذه التسوية مكاسب لهم.
7– احتمالية استخدام روسيا ورقة كوسوفو لخدمة مصالحها: تحظى روسيا بعلاقات قوية بالحكومة الصربية، وتقدم دعماً واسعاً لصربيا في صراعها مع كوسوفو، وهو ما تستفيد منه صربيا التي تستخدم روسيا مؤيداً خارجياً للترويج لأفكارهم. وفي إطار دعم روسيا لصربيا، أكد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، خلال لقاء على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر الماضي، ونظيره الصربي إفيتسا داتشيتش، ضرورة تنفيذ سلطات كوسوفو التزاماتها، وهو ما يمثل انحيازاً روسياً واضحاً لصربيا. ذلك الانحياز يترجمه الغرب بأنه محاولة من جانب روسيا، من خلال حليفتها صربيا، لزعزعة استقرار منطقة البلقان، ومن ثم تحويل بعض الانتباه عن عمليتها العسكرية في أوكرانيا. وبالتالي فإن من مصلحة روسيا الإبقاء على الصراع في كوسوفو مشتعلاً.
8– معضلة التقدم في عضوية الجانبين في الاتحاد الأوروبي: كانت صربيا مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي منذ عام 2012، غير أنها لم تحرز تقدماً في ذلك الملف حتى الوقت الراهن نتيجة للتوترات المتصاعدة بين الحين والآخر مع كوسوفو، وكانت كل من صربيا وكوسوفو تقدَّمت رسمياً بطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2022، غير أن عملية انضمامهما في ظل الصراع المتجدد، قد تستغرق عقوداً من الزمن، إذا لم يتم تطبيع العلاقات بين البلدين. وبطبيعة الحال، إذا أدرك الطرفان، وخاصةً صربيا، أن أبواب الاتحاد الأوروبي موصدة أمامهما، فقد يندفعان نحو التصعيد فيما بينهما؛ لأنه حينها سيكون أحد أوراق الضغط عليهما للتهدئة – وهي عضوية الاتحاد – غير موجودة.
ختاماً، يأمل المسؤولون الدوليون أن تتمكن كل من كوسوفو وصربيا من التوصل إلى اتفاق يسمح لكوسوفو بالحصول على مقعد في الأمم المتحدة، دون أن تضطر صربيا إلى الاعتراف صراحةً بدولتها، غير أن عدم تحقيق أي تقدم في المفاوضات التي يتوسَّط فيها الاتحاد الأوروبي، هو دلالة على عدم الاستقرار لفترة طويلة في العلاقة بين الجانبين، كما يزيد فرص تجدُّد الاشتباكات بينهما، بل ربما تجدد الصراع وصولاً إلى درجة الحرب إذا حصلت صربيا على دعم روسي في تلك الخطوة.
وإن كان الحادث الأخير لم يسفر عن صراع مسلح فإنه يحمل بعض الدلالات التي ربما تزيد احتمالية الصراع في المدى القريب، ومنها استغلال حكومة صربيا قضية كوسوفو لصرف الانتباه عن أزماتها الداخلية وعدم الرضاء الشعبي عنها، وتضاؤل زخم المفاوضات بين كوسوفو وصربيا، وعدم إحراز أي تقدم فيها، وإصرار حكومة كوسوفو على توسيع سيطرتها على المناطق الشمالية من البلاد ذات الأغلبية الصربية، وهي جميعها مؤشرات تدفع نحو القول بمزيد من التوترات، وربما تجدد الصراع بين الطرفين مستقبلاً.