عرض: د. إيمان أحمد عبد الحليم
على مدار عقود تم الترويج للعولمة الاقتصادية باعتبارها أداة التنمية الرئيسية للدولة الوطنية، ولكن بمرور الوقت باتت فكرة العولمة موضع شكوك هائلة، وخاصة أنها استدعت بعض الإشكاليات، وبالأخص بالنسبة إلى الدول التي لم يكن لديها القدرة على مواجهة المنافسة الناجمة عن فتح الأسواق أمام الشركات الأجنبية، كما أن الأزمات العالمية الأخيرة، على غرار جائحة كورونا وكذلك الحرب الأوكرانية الروسية والصراع بين الصين والولايات المتحدة، أكسبت الخطاب المشكك في فكرة العولمة المزيد من الزخم؛ ولذلك أكد البعض ضرورة اكتشاف الدول مقومات اقتصاداتها الوطنية. وفي هذا السياق، نشر موقع "الإيكونوميست"، في 2 أكتوبر 2023، مقالاً بعنوان "الحكومات في جميع أنحاء العالم تكتشف اقتصاد الوطن"، وهو المقال الذي يعيد تأكيد أهمية الاقتصاد الوطني وطرحه بديلاً لأطر العولمة التقليدية.
النموذج الجديد
يفترض المقال أن فكرة اقتصاد الوطن (homeland economics) باتت تكتسب المزيد من الزخم خلال السنوات الماضية، وهو الأمر الذي ارتبط بدوافع رئيسية متمثلة فيما يلي:
1- محاولة طرح بديل لأطر العولمة التقليدية: لفترة من الوقت بعد نهاية الحرب الباردة، انطلقت العولمة في التسعينيات بدافع من الإيمان بقوة الأسواق، مع ما صاحبها من تخفيف الحكومات قيود السفر والاستثمار والتجارة، ولتجلب هذه التغييرات العديد من الفوائد؛ حيث أدت إلى الحد من الفقر وعدم المساواة، وكانت مصحوبة بحرية سياسية متزايدة في جميع أنحاء العالم، وخصوصاً بعد انضمام الصين في عام 2001 إلى منظمة التجارة العالمية. ولكن مع ذلك فإن هذه التغيرات حملت أيضاً الكثير من المشكلات، التي برزت مع الأزمة المالية العالمية في الفترة 2007-2009، التي أظهرت – بحسب البعض – مدى المخاطر التي ينطوي عليها التدفق الحر لأسواق رأس المال.
وبالرغم من البقاء على الأطر التقليدية للعولمة لفترة طويلة، حتى مع بروز المشكلات، الآن بدأ يتشكل بديل جذري يسميه البعض بـ"المرونة العالمية" أو "فن الحكم الاقتصادي"، ويمكن الاصطلاح على تسميته أيضاً بـ"اقتصاد الوطن"، وفكرته الرئيسية هي الحد من المخاطر التي يتعرض لها اقتصاد بلد ما، في ظل التقلبات التي تطرحها الأسواق، أو الصدمات التي لا يمكن التنبؤ بها، أو تصرفات الخصوم الجيوسياسيين.
2- الاستجابة للصدمات العالمية المتوالية: يفترض المقال أن بروز فكر "اقتصاد الوطن" يمثل استجابة لأربع صدمات عالمية كبرى: الأولى ارتبطت بالاقتصاد؛ ذلك أن الأزمة المالية العالمية وإن أدت إلى كسر الثقة بالنموذج الاقتصادي، فإن الركود العالمي في عام 2020 قد أكد الأمر؛ حيث انهارت خلال الوباء سلاسل التوريد؛ ما زاد من التضخم من خلال رفع تكلفة الواردات. وارتبطت الصدمة الثانية بالصراع الجيوسياسي العالمي؛ إذ تتصاعد حدة التنافس والصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، باستخدام مجموعة متنوعة من العقوبات الاقتصادية؛ وذلك فيما شنت روسيا أكبر حرب برية في أوروبا منذ عام 1945، لتختفي فكرة أن التكامل الاقتصادي من شأنه أن يؤدي إلى التكامل السياسي.
وأدت تلك الحرب بدورها إلى الصدمة الثالثة وهي الطاقة؛ إذ كان استخدام "فلاديمير بوتين" إمدادات بلاده من النفط والغاز كسلاح سبباً في إقناع العديد من الساسة بضرورة تأمين البدائل، ليس فقط للطاقة بل وللسلع "الاستراتيجية" بوجه عام. ثم الصدمة الرابعة: الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي قد يشكل تهديداً للعمالة البشرية.
3- الحفاظ على الأمن الاقتصادي للدول: مع مخاطر الصدمات العالمية المشار إليها، فإن الفكر الخاص بـ"اقتصاد الوطن" يستهدف حماية العالم من الصدمات المماثلة في المستقبل، بالحفاظ على فوائد العولمة، ولكن مع تجنب السلبيات المرتبطة بعدم اليقين في النظام السابق؛ ما يتطلب الربط بين الأمن القومي والسياسة الاقتصادية، كما برز في خطاب ألقاه مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، في واشنطن في أبريل الماضي، وأشار فيه إلى أن السيطرة على الاقتصاد قد انتقلت إلى الاستراتيجيين الجغرافيين.
كما تفاخرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، بأن الاتحاد الأوروبي هو "أول اقتصاد كبير يضع استراتيجية بشأن الأمن الاقتصادي"، وتحدث كذلك إيمانويل ماكرون عن "الاستقلال الاستراتيجي" لفرنسا، توازياً مع تأكيدات رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، أنه يحب "الاعتماد على الذات" اقتصادياً.
4- المساعي المكثفة لدعم الصناعات "الاستراتيجية": بحسب المقال فإنه لتحقيق الربط المنشود بين الأمن القومي والسياسة الاقتصادية، تتوجه بعض الدول لإعادة تبني السياسات الحمائية برفع التعريفات الجمركية، وينفق آخرون على البحث والتطوير على أمل إعادة بناء مختبرات الأبحاث التي مولتها الحكومات في الخمسينيات من القرن الماضي والتي ساعدت في الانتصار في الحرب الباردة، غير أن التركيز الحقيقي في الوقت الآني للعديد من الحكومات ينصب على بناء شركات وطنية رائدة في الصناعات "الاستراتيجية"، وخصوصاً المتعلقة برقائق الكمبيوتر والمركبات الكهربائية والذكاء الاصطناعي.
وكما كانت الحال في الحرب الباردة، تستخدم الحكومات الغربية الأدوات الاقتصادية لإضعاف خصومها الجيوسياسيين، بما في ذلك فرض حظر على الصادرات والاستثمار الدولي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيات "ذات الاستخدام المزدوج"، للتطبيقات المدنية والعسكرية، كما تعهدت بتقديم دعم هائل للتكنولوجيات النظيفة في مجال مكافحة تغير المناخ.
5- توسع الدول الغنية في تبني السياسات الحمائية الصناعية: على النقيض من الماضي، عندما كانت الدول الفقيرة – بحسب المقال – تستخدم السياسة الصناعية أداة للتنميةً، أصبحت الدول الغنية الآن هي الرائدة في تبني السياسات الحمائية الصناعية؛ فالأموال تتدفق بكميات هائلة، مع محاولات حكوماتها إقناع الشركات بإرساء نشاطها أو توسيعه في بلادها. وتشير التقديرات في الربع الأول من عام 2023، إلى أن الشركات في جميع أنحاء العالم الغني تلقت نحو 40% من الإعانات النقدية أكثر من المعتاد في الأعوام التي سبقت الوباء. وفي الربع الثاني أنفقت الولايات المتحدة وحدها 25 مليار دولار على الإعانات.
ووفقاً لبنك UBS، خصصت الحكومات في سبعة اقتصادات كبيرة ما يصل إلى 400 مليار دولار لصناعة أشباه الموصلات على مدى العقد المقبل، ومنذ عام 2020 خصصت الحكومات 1.3 تريليون دولار لدعم الاستثمار في الطاقة النظيفة.
تحديات رئيسية
بالرغم من محفزات دعم التوجه نحو اقتصاد الوطن، فإن هذا النهج يواجه تحديات رئيسية بحسب المقال، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- التشكك في النتائج المتحققة من النهج الاقتصادي الجديد: بالرغم من وجود مبررات نظرية واقتصادية قوية للسياسة الحمائية الصناعية، وفي حين ارتفع منذ بداية عام 2022 متوسط سعر أسهم الشركات الأمريكية التي تعتبر مستفيدة من الإنفاق الإضافي على البنية التحتية بنسبة 13%، مقارنة بانخفاض بنسبة 9% في سوق الأسهم الأمريكية بوجه عام، وفقاً لبيانات بنك "جولدمان ساكس"، فإن النهج الخاص بـ"اقتصاد الوطن" من شأنه أن يتسبب – على الجانب الآخر – في خسائر فادحة؛ لما يحمله من تنافر عميق بالرغم من أطروحاته الجاذبة؛ فهو يستند إلى قراءة مفرطة في التشاؤم للعولمة النيوليبرالية، التي حملت في الواقع فوائد عظيمة لأغلب دول العالم. وعليه يمكن القول إن فوائد النهج الجديد غير مؤكدة.
2- التكلفة الاقتصادية الكبيرة المترتبة على انتشار الفكر الجديد: تتبدى بوضوح التكاليف المترتبة على النهج الاقتصادي الجديد؛ إذ تشير الأبحاث التي أجراها صندوق النقد الدولي إلى انقسام الدول في عالم افتراضي إلى كتل متفرقة بقيادة الولايات المتحدة والصين (مع بقاء بعض الدول غير منحازة). وعلى المدى القصير، فقد انخفض الناتج العالمي بنسبة 1%، وعلى المدى الطويل بنسبة 2%. وتشير تقديرات أخرى إلى أن تأثير الناتج المحلي الإجمالي العالمي سيزيد عن 5%. كما أن التجربة التاريخية للسياسة الصناعية ليست مشجعة؛ حيث تهدر الحكومات الكثير من الأموال؛ الأمر الذي من شأنه التأثير على متطلبات الرعاية الصحية ومعاشات التقاعد والعجز الضخم، كما هو حادث بالفعل.
3- صعوبة مواجهة التحديات الاقتصادية المتزايد: حيث يجادل البعض بأن الاقتصادات المحلية ستكافح من أجل جعل سلاسل التوريد أكثر مرونة، ومن غير المرجح أن تساعد الاقتصاد، زاعمين أن السياسات الجديدة لن تفعل الكثير للحد من عدم المساواة، ولن تفعل ما يكفي للتعامل مع التبعات السلبية لتغير المناخ.
ويخلص المقال إلى أن المؤمنين باقتصادات السوق لا يزالون يواجهون صراعاً شاقاً؛ ذلك أن الفوائد المترتبة على النموذج الاقتصادي الجديد، مهما كانت محدودة وجزئية، سيكون من السهل رؤيتها بارزة على المستوى السياسي؛ إذ تتباهى الحكومات بالفعل بالنجاحات التي حققتها أنظمة الدعم الخاصة بها، فيما أن الأضرار المنتشرة، والمتمثلة في انخفاض الدخول وانخفاض الكفاءة، من الصعب رؤيتها ومن السهل تجاهلها، غير أن ذلك لن يستمر لوقت كبير، قبل بروز مشكلات النهج الجديد على نحو جلي.
المصدر:
Governments across the world are discovering "homeland economics", The Economist, October 2, 2023, Accessible at: https://www.economist.com/special-report/2023/10/02/governments-across-the-world-are-discovering-homeland-economics