مؤسسة ستراتفور

عرض: د. إيمان عبد الحليمشهد عام 2023 العديد من التطورات التي كان لها التأثير الجيوسياسي الأكبر؛ فعلى مستوى قيادة النظام الدولي، لا تزال هناك حالة تنافس وصراع محتدم حول هذه القيادة، في ظل إصرار الصين وروسيا على تعزيز نفوذهما وتقويض الهيمنة الأمريكية والغربية على قيادة النظام الدولي. هذا التنافس كانت له تجليات سياسية واقتصادية متعددة، تبلورت مثلاً في مساعي الأطراف المختلفة إلى توسيع حضورها في مناطق النفوذ التقليدية للأطراف الأخرى المنافسة، علاوةً على الضغط المتبادل فيما يتعلق بالصناعات الاستراتيجية الرئيسية، مثل أشباه الموصلات، كما لا تزال الحرب الأوكرانية محدداً هاماً للتفاعلات على المستوى الدولي ومنظومة الأمن الأوروبية. بالإضافة إلى ذلك، شكَّلت حرب غزة محفزاً إضافياً لحالة عدم الاستقرار الإقليمي، وأداة جديدة لديناميات التنافس الدولي بين الصين وروسيا والولايات المتحدة.ومن هذا المنطلق، كان اهتمام مؤسسة "ستراتفور" بعرض تقرير في 26 ديسمبر 2023، حول أبرز الأحداث السياسية لعام 2023، الذي حمل عنوان "2023: مراجعة جيوسياسية"، وأشارت فيه، على نحو خاص، إلى التطورات التي مثَّلت انعطافات مهمة خلال العام الماضي؛ وذلك بالنظر إلى نطاقها وحجم التأثير المستقبلي الفعلي أو المحتمل لها؛ حيث تضمنت قائمتها المختصرة لتلك الأحداث التقنيات الناشئة، والتحديات الاقتصادية، والصراعات غير المتوقعة.تعقيدات عالمية يفترض التقرير أن هناك مجموعة من الأحداث الرئيسية خلال عام 2023، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:1– مساهمة دول مختلفة في القيود الأمريكية على أشباه الموصلات للصين: في اجتماع عُقد في واشنطن في 27 يناير 2023، اتفقت اليابان وهولندا على فرض ضوابط التصدير على معدات تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة، لتتوافق مع القيود الأمريكية المفروضة على الصين منذ أكتوبر 2022، ولتعلن هولندا في يونيو عن قيودها الجديدة، تلتها اليابان في يوليو من العام نفسه؛ وذلك بعد أن حددت واشنطن التكنولوجيا باعتبارها عنصراً رئيسياً في منافستها مع بكين، وسلَّطت الضوء على الأهمية الاقتصادية والعسكرية للرقائق الدقيقة المتقدمة.وبوجه عام، نجحت واشنطن في اكتساب المزيد من الاهتمام هذا العام من جانب شركائها الأوروبيين والآسيويين بشأن تقييد تجارة أشباه الموصلات مع الصين؛ ما يحد من وصول بكين إلى الرقائق الأكثر تقدماً، ويعزز المخاوف بشأن الانقسام حول تطوير التكنولوجيا العالمية.ورداً على ذلك، سعت الشركات الصينية إلى إيجاد مسارات بديلة لتصنيع الرقائق (مثل شرائح SMIC مقاس 7 نانومترات التي تم طرحها في هاتف هواوي). وانخرطت بكين في تحركات مضادة ضد الشركات الأمريكية مثل "ميكرون" Micron، كما فرضت الصين قيوداً على صادرات الجاليوم والجرمانيوم والجرافيت، والمعادن الرئيسية لأشباه الموصلات وصناعات بطاريات السيارات الكهربائية، مستغلةً دورها الحاسم في سلاسل توريد المعادن.2– انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي: انضمت فنلندا رسمياً إلى حلف شمال الأطلسي في 4 أبريل 2023، فيما يُنتظر إتمام انضمام السويد التي لا تزال عضويتها مجمدة بسبب الموقف التركي. ولكن على نحو عام، يشكل توسع الحلف رداً مباشراً على الهجوم الروسي على أوكرانيا؛ ما يفسر تعزيز المواقع الدفاعية على طول الحدود الشمالية لحلف الناتو، من القطب الشمالي عبر دول الشمال وصولاً إلى دول البلطيق.وعلى الرغم من وجود تعاون بالفعل بين فنلندا والسويد ودول الحلف، فإن عضوية فنلندا (وعضوية السويد الوشيكة) تزيل أي غموض محتمل حول توسع منطقة التماس بين الناتو وروسيا؛ حيث يبلغ طول الحدود الروسية الفنلندية نحو 830 ميلاً (أو 1340 كيلومتراً)؛ ما يجعلها أطول حدود برية بين روسيا ودولة في الناتو.وذلك ما يفسر من ناحية أخرى إعلان موسكو عن خطط لتوسيع وجود قواتها على طول الحدود الفنلندية، كما أثارت أزمة مهاجرين لفترة قصيرة؛ ما دفع فنلندا إلى إغلاق حدودها مع روسيا. وتم تسليط الضوء مرة أخرى في أكتوبر على المخاطر المحتملة على بحر البلطيق، الذي يطوقه حلف الناتو بالكامل حتى الساحل الروسي الضيق، عندما تضرر خط أنابيب تحت البحر وكابل اتصالات، بسبب قيام سفينة شحن صينية بسحب مرساتها على طول قاع البحر، وليعيد هذا الحادث تنشيط اهتمام أوروبا وحلف الناتو بالبنية التحتية تحت سطح البحر، وأهمية الأمن في بحر البلطيق، وخاصةً أنه جاء بعد نحو عام فقط على الهجوم على خطوط أنابيب الغاز "نورد ستريم" تحت بحر البلطيق.3– تزايد المشكلات الاقتصادية في الصين: صدر تقرير الصين عن أرقام البطالة بين الشباب في منتصف يوليو 2023، مشيراً إلى وصول نسبة البطالة إلى 21.3% لشهر يونيو، وهو رقم من المتوقع أن يكون قد ارتفع مرة أخرى في الشهر التالي، ولكن بحلول شهر أغسطس، لم تعد بكين تنشر أرقام البطالة بين الشباب، مستشهدةً بتعديلات إحصائية، ليؤكد توقف إصدار البيانات، التحديات التي تواجهها الصين مع ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب والتعافي الاقتصادي المخيب للآمال في مرحلة ما بعد "كوفيد–19"؛ وذلك في حين لا تزال سوق العقارات في الدولة محوراً للإصلاح وعبئاً على التعافي الاقتصادي؛ حيث تخلف أكثر من 40% من المطورين الرئيسيين في الصين عن السداد منذ عام 2021، وفقاً لأرقام أكتوبر 2023.في حين أن معدل النمو الاقتصادي الإجمالي في الصين لعام 2023 يصل إلى نحو 5%، ويأتي من معدل أساسي منخفض، وأقل قوةً بكثير مما توقعه الكثيرون في البداية مع انتعاش ما بعد كوفيد. ولا شك أن تباطؤ الاقتصاد الصيني عما كان متوقعاً، له آثار كبيرة تتجاوز الصين؛ حيث إن البلاد هي الشريك التجاري الرئيسي مع معظم أنحاء العالم، ومصدر رئيسي للاستثمار، وخاصةً في البنية التحتية للعديد من الدول النامية.4– تغيرات مثيرة للجدل في المناصب الرسمية بالصين: في الوقت الذي تعاني فيه بكين من تراجع الثقة الاقتصادية، شهدت سلسلة من حالات الاختفاء والعزل لشخصيات رئيسية، بما في ذلك وزير الخارجية "تشين جانج"، ووزير الدفاع "لي شانج فو"، بالإضافة إلى العديد من أعضاء القوة الصاروخية لجيش التحرير الشعبي، التي تشرف على الكثير من الأسلحة النووية الصينية. ولم تقدم بكين سوى القليل من المعلومات حول التغييرات السياسية، فيما تكثر التكهنات بشأن التقارير المتعلقة بالأسرار المسربة والفساد الداخلي.5– الارتدادات الواسعة النطاق لحرب غزة: بعد هجمات مقاتلي حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 1200 شخص واختطاف أكثر من 200 مدني، تصاعدت الأحداث الأمنية في قطاع غزة، خاصةً أن الهجوم قد صدم إسرائيل، وكشف عن فشل استخباراتي كبير؛ ما أدى إلى هجوم مضاد كبير من قبل القوات الإسرائيلية؛ الأمر الذي أثار إدانة دولية متزايدة.وبعيداً عن المأساة الإنسانية، أدى الصراع إلى تعليق عملية التطبيع السعودية الإسرائيلية، التي كانت ستعيد تشكيل ديناميكيات الأمن داخل المنطقة، وأثارت شبح صراع إقليمي موسع؛ وذلك بعد أن نفذت الميليشيات المرتبطة بإيران في العراق وسوريا هجمات إضافية على القوات والمصالح الأمريكية في العراق وسوريا، وكثف "حزب الله" قصفه لأهداف إسرائيلية عبر الحدود من لبنان، وزاد من وجود قواته في الجبهات المتقدمة.وفي الوقت نفسه، اتخذت قوات الحوثيين في اليمن نهجاً أكثر عدوانيةً؛ حيث هاجمت السفن في البحر الأحمر؛ ما دفع العديد من شركات الشحن الكبرى إلى إعادة توجيه مساراتها حول أفريقيا، وأدى إلى تنفيذ عملية بحرية جديدة متعددة الأطراف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لحماية السفن.وخارج المنطقة، أدى الصراع إلى تأجيج الانقسامات المجتمعية بين دعم إسرائيل أو الفلسطينيين؛ ما أسفر عن احتجاجات واشتباكات وعنف محلي ومواقف سياسية متباينة في عدد من الدول؛ وذلك فيما أدى قرار إسرائيل بحصار غزة، ومهاجمة المستشفيات كجزء من هجومها المضاد، إلى تآكل مطرد في الدعم السياسي المقدم لها؛ ما يمثل تحدياً لمواقف الحكومات الأمريكية والأوروبية؛ حيث تحاول الإدارة الأمريكية تحقيق التوازن بين دعم إسرائيل للقضاء على المقدرات العسكرية لحماس، والإدانة المتزايدة للأعمال الإسرائيلية من داخل قاعدة الحزب الديمقراطي ومن المجتمع الدولي. وحتى مع تقدم إسرائيل في غزة، يظل السؤال الذي لم يُحَل بعدُ هو عن شكل الأمن والحكم في القطاع، الذي سيكون مقبولاً لجميع الأطراف بعد انتهاء الصراع.6– توصل الاتحاد الأوروبي إلى تسوية بشأن تنظيم الذكاء الاصطناعي: بعد أسابيع قليلة من الذكرى السنوية الأولى لإطلاق ChatGPT في نوفمبر، توصَّل الاتحاد الأوروبي إلى حل وسط في 8 ديسمبر 2023 بشأن قانون الذكاء الاصطناعي الجديد الذي يسعى إلى وضع ضوابط على التوسع السريع واعتماد أدوات الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء العالم، بدافع الاستخدام المتزايد (وسوء الاستخدام) للذكاء الاصطناعي التوليدي، وبعد أن أحدثت تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT هزة في التعليم، وأثارت مخاوف جديدة من تحديات الذكاء الاصطناعي للوظائف الإدارية، وسهَّلت ظهور موجة جديدة من المعلومات الخاطئة والمضللة حول العالم.حيث تجعل أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية انتحال الصور ومقاطع الفيديو أسهل بكثير لأي شخص أو جهة؛ ما يتسبب في تراجع الثقة بتدفقات المعلومات، وربما يؤدي إلى تفاقم الخلافات السياسية والأيديولوجية الآخذة في الاتساع في العديد من الدول الديمقراطية، مع تعزيز السيطرة على المعلومات في المناطق الأكثر استبداديةً. وذلك ما يدفع الحكومات إلى السعي من أجل الحصول على ميزة في تطوير ونشر أدوات الذكاء الاصطناعي ووضع لوائح للتحكم، أو على الأقل إدارة استخدامها.ومن المرجح الموافقة على قانون الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي وأن يدخل حيز التنفيذ في أوائل عام 2024، ومع ذلك فإن التنازلات في سبيل إقرار القانون تسلط الضوء على وجهات النظر المتباينة داخل الاتحاد الأوروبي، حول تحقيق التوازن بين الابتكار وتعظيم الفرص الاقتصادية وأمن المعلومات والحقوق الشخصية.وفي الختام، يجدر تأكيد أن الاتجاهات المشار إليها لأبرز الأحداث التي شهدها عام 2023، لا تتوقف عند ما سبقت الإشارة إليه، غير أن تلك القائمة، بحسب مؤسسة "ستراتفور"، ربما تكون الأهم، دون أن يتعارض ذلك مع وجود أحداث أخرى مهمة شكَّلت المشهد الجيوسياسي للعام المنصرم، مثل تآكل الدعم لاستراتيجيات الاستثمار القائمة على الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (خاصةً في الولايات المتحدة وبريطانيا)، أو تهدئة "المد الوردي" في أمريكا اللاتينية (كما تجسَّد في انتخاب رئيس تحرري في الأرجنتين).وتضمَّنت هذه الأحداث أيضاً استيلاء أذربيجان على ناجورنو كاراباخ؛ ما سلط الضوء على تراجع روسيا المستمر في القوقاز، وشملت أيضاً دخول ميليشيا "شان" في الحرب الأهلية في ميانمار؛ ما أثار المخاوف بشأن "بلقنة" الدولة، وجذب التدخل السياسي للصين، بجانب توسع كتلة "بريكس"، والحملة الفاشلة لمجموعة "فاجنر" في موسكو.المصدر:"2023: A Geopolitical Review", Stratfor Global Intelligence, December 26, 2023.&nbsp;

ما أهم الأحداث المؤثرة في تفاعلات عام 2023؟