Diplomatic AI:

أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية، في 9 نوفمبر 2023، استراتيجية جديدة في مجال الذكاء الاصطناعي، تحت عنوان "استراتيجية للذكاء الاصطناعي المؤسسي للسنة المالية 2024 - 2025: تمكين الدبلوماسية من خلال الذكاء الاصطناعي المسؤول"، وتعد هذه الاستراتيجية هي الأولى من نوعها، باعتبارها استراتيجية شاملة تحدد نهج وزارة الخارجية الأمريكية في استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الدبلوماسية الأمريكية؛ وهو ما بدا شهادة على الدور الهام الذي تضطلع به الخارجية الأمريكية في تعزيز ثقافة الابتكار مع الالتزام بأعلى معايير الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي، الأمر الذي قد يحظى بتأثير كبير على الطريقة التي تتم بها إدارة الدبلوماسية الأمريكية خلال القرن الحادي والعشرين.


دعم مؤسسي

ارتكازاً على أهمية رفع كفاءة الدبلوماسية الأمريكية، تقوم الاستراتيجية على أربعة أهداف محورية مصممة ليس فقط لتعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي، ولكن أيضاً لضمان تطبيقها الأخلاقي. ويمكن قراءة أهم ما ورد فيها على النحو التالي:


1- رفع كفاءة الدبلوماسية الأمريكية: أكدت الاستراتيجية على إمكانية استخدام الكثيرون لأدوات الذكاء الاصطناعي المتطورة لجني ثمار فورية لزيادة الإنتاجية، وذلك على أساس أن زيادة التشغيل الآلي للمهام الروتينية، ستجعل العديد من الجهود اليومية أكثر كفاءة، مما يقلل من عبء العمل الأمريكي في حوالي 270 بعثة دبلوماسية في نحو 180 دولة، مما يمنح الإدارة الأمريكية المزيد من الوقت والتركيز على الأنشطة الرئيسية والحيوية للخارجية الأمريكية.


هذا وقد أوضحت الوثيقة أن قدرات البلاد ستزداد خلال السنوات المقبلة، وذلك عن طريق استخدام آليات الذكاء الاصطناعي في تحسين الوصول إلى المعرفة المؤسسية، وفهم دوافع منافسي الولايات المتحدة، فضلاً عن معالجة كميات ضخمة من المعلومات، وهو ما سينعكس بشكل مباشر إيجابياً على مكانة الولايات المتحدة ورفاهية المواطنين الأمريكيين في الخارج؛ حيث أن استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي بالطريقة الصحيحة في تأدية المهام الخارجية، مع وجود ضمانات كافية، لا يمكنها فقط تسريع وتيرة جمع المعلومات وتحليل السياسة الخارجية نيابة عن الشعب الأمريكي، ولكنها ستساعد أيضاً على أن تكون واشنطن أكثر تمييزاً في تلك المجالات. وبناء عليه، ستتطلب هذه الفرصة اتخاذ خطوات لحماية الأفراد وإدارة المخاطر، بما في ذلك أمان وخصوصية بيانات الإدارة الأمريكية، مع العمل على تجنب النتائج المتحيزة التي تشكل خطراً على مهمة وقيم البلاد الخارجية.


2- الاستفادة من البنية التحتية الآمنة للذكاء الاصطناعي: وفقاً للاستراتيجية، ستقوم وزارة الخارجية الأمريكية بدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في بنية تحتية آمنة ومستدامة لتمكين الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن إنشاء وتوسيع نطاق مجموعة متنوعة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وذلك بهدف تحقيق التكامل لهذه التكنولوجيا، والاستفادة الكاملة من بنيتها التحتية لاعتماد نظم الذكاء الاصطناعي على مستوى جميع أقسام الخارجية الأمريكية، مع إعطاء الاعتبارات الأمنية الأولوية القصوى، وزيادة الوعي بالمخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي، وهو ما يتطلب أفضل القدرات البرمجية للقوى العاملة في وزارة الخارجية؛ حيث أن توفير بيئات تقنية آمنة للمطورين، بما يعزز من الاستخدام العادل للذكاء الاصطناعي، ويضمن حماية البيانات والخصوصية، ويوفر ضمانات ضد تهديدات الأمن السيبراني المحتملة.


3- تعزيز الثقافة المتسقة مع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي: يتطلب تحقيق رؤية وزارة الخارجية موظفين ملمين بمفاهيم الذكاء الاصطناعي وقادرين على دمج الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول، ناهيك عن تعزيز قدراتهم في تقييم المخاطر، وضمان الجودة العالية للبيانات المستخدمة، وتحديد حالات الاستخدام وتوسيع نطاق الحلول، وهو الأمر الذي لن يتم إلا من خلال التدريب الذي يعزز ثقافة توظيف مهارات الذكاء الاصطناعي المطلوبة، عبر طرق تدعم أعلى مستويات النزاهة العلمية، وذلك عن طريق تقديم خدمات التدريب والدعم، وتطوير فرص جديدة للمواهب، وتعزيز الاستخدام المسؤول للابتكار، إلى جانب التأكد من قدرة المستخدمين على التخفيف بشكل مناسب من بعض المخاطر المرتبطة بأدوات الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي سيمكن جميع الموظفين من تقليل الوقت الذي يقضونه في تأدية مهامهم الروتينية بشكل آمن ومسؤول، ويسمح لهم بتركيز جهودهم على الأنشطة ذات التأثير الأعلى على أداء السياسة الخارجية الأمريكية.


4- ضمان تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول: أشارت الوثيقة الأمريكية إلى أهمية وجود العديد من المبادئ التوجيهية والتقنيات اللازمة لتسهيل الاستخدام الشفاف والمسؤول والأخلاقي لتقنيات الذكاء الاصطناعي، بما فيها التقييم والاختبار المستمر للقائمين على استخدامه، وذلك بهدف ضمان خصوصية البيانات وأمنها، وإدارة "المخاطر الخوارزمية"، بما يقلل من أضرار التحيز في استخدام البيانات المتاحة، ويساعد على تقييم جودة البيانات، مع توفير الوصول المناسب لها من أجل إرشاد وتوجيه عملية صنع القرار.


5- التشجيع على الابتكار التكنولوجي: تؤكد الاستراتيجية الأمريكية على ضرورة تحديد مجموعة من الحلول الناجحة وتجربتها وتوسيع نطاقها، لكي تصبح حلولاً مبتكرة ونشطة للعمليات التي تقوم بها الخارجية الأمريكية، مع تكوين شراكات إبداعية مع مبتكري الذكاء الاصطناعي المسؤولين لمضاعفة نجاحات عملها، وهو ما قد يزود الدبلوماسيين الأمريكيين بقدرة جديدة على أداء مهامهم؛ حيث أن العملية المنهجية لتحديد الحلول وتجربتها وتوسيع نطاقها ستجعل من وزارة الخارجية الأمريكية جهة مبتكرة قادرة على تطبيق التقنيات الحساسة للذكاء الاصطناعي في مجال عملها بشكل ميسر وآمن.


دلالات رئيسية

ثمة دلالات متعددة تقف وراء توجه الولايات المتحدة نحو إصدار هذه الاستراتيجية، ولعل أبرزها ما يلي:


1- مواكبة التغيرات العالمية: تستعد أنظمة الذكاء الاصطناعي لاحتلال مكانة بارزة جديدة وعميقة في الشؤون العالمية، الأمر الذي حفز وزارة الخارجية لكي تكون في مقدمة الدول التي تصدر استراتيجية خاصة بهذا المجال؛ فمثلما ساهم الإنترنت في توجيه مسار الدبلوماسية نحو مستقبل مختلف، فإن تقنيات الذكاء الاصطناعي الناشئة سوف تغير العالم بطرق مختلفة، وبالتالي فيجب أن يتطور سلوك السياسة الخارجية الأمريكية للحفاظ على القيادة على المسرح العالمي، خاصة وأنها في حالة تجديد شبه مستمر، وتسعى جاهدة لضمان أن الدبلوماسية الأمريكية تخدم المصالح الأمريكية الوطنية، في ظل عالم سريع التغير ومتزايد التعقيد.


وفي ذات السياق، فقد نصت الاستراتيجية الجديدة على أن "وزارة الخارجية تقف عند منعطف حرج، حيث يوفر النظام البيئي الناشئ لقدرات الذكاء الاصطناعي فرصة هائلة، يمكن أن تسمح للوزارة بالاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحقيق جميع الاختراقات في الدبلوماسية العامة، وترجمة اللغات، والعمليات الإدارية، ونشر المعلومات، وأتمتة المهام، وتوليد الأكواد، وغيرها".


2- تنفيذ توجهات الإدارة الأمريكية: على الرغم من التغيرات التكنولوجية السريعة والاختلافات الأيديولوجية بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بيد أن هناك استمرارية ملحوظة بين الخطة الاستراتيجية التي أصدرتها إدارة أوباما، والمؤسسات المختلفة التي أنشأتها إدارة ترامب، والمبادرات التي أطلقتها إدارة بايدن؛ فبالنسبة لكل من استراتيجيات البحث والتطوير الثماني المنصوص عليها في الخطط الاستراتيجية لأوباما وترامب، هناك إطار عمل مماثل تم وضعه خلال إدارة بايدن.


ودعماً للأمر التنفيذي الذي أصدره جو بايدن بنهاية أكتوبر الماضي، بشأن تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل آمن وجدير بالثقة، فإن الوثيقة الأمريكية جاءت لتلبي طموحات هذا الأمر التنفيذي؛ إذ نصت على أن "وزارة الخارجية ستعمل على تسخير القدرات الكاملة للذكاء الاصطناعي الجدير بالثقة بشكل مسؤول وآمن لتعزيز دبلوماسية الولايات المتحدة وتشكيل مستقبل فن الحكم". والجدير ذكره أن الإدارة الامريكية الحالية قد لجأت إلى إصدار هذا الإعلان، نتيجة تعرض واشنطن منذ فترة طويلة لانتقادات بسبب افتقارها إلى التشريعات الشاملة لتنظيم شركات "التكنولوجيا الكبرى" في القضايا المتعلقة بحماية البيانات الشخصية.


3- احتدام المنافسة التكنولوجية مع الصين: تهدف الاستراتيجية أيضاً إلى الحفاظ على الميزة التنافسية للولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي؛ خاصة وأنها تواجه منافسة شديدة مع الصين - ودول أخرى - في مجال الذكاء الاصطناعي، لذا صُممت استراتيجية الخارجية الأمريكية لتكون بمثابة إشارة إلى أن حكومة الولايات المتحدة ملتزمة باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحقيق أهدافها الدبلوماسية، فضلاً عن كونها رائدة في هذا المجال الحيوي، لذلك فمن المرجح أن يكون لهذه الخطوة تأثيراً على البلدان الأخرى؛ حيث قد تحذو العديد منها بحذو الولايات المتحدة، وتستثمر المزيد في الذكاء الاصطناعي لأغراض الدبلوماسية.


وبينما تتخذ الولايات المتحدة والصين اتجاهات متباينة في القواعد التنظيمية الجديدة للذكاء الاصطناعي، فإن إطاراً جديداً لدبلوماسية الذكاء الاصطناعي آخذ في الظهور، وكل ذلك في ظل المنافسة التكنولوجية الاستراتيجية بين البلدين، والتي يتسع نطاقها في مجال الذكاء الاصطناعي لتنعكس بدورها على القواعد المنظمة له؛ فعلى سبيل المثال، أصدرت الصين، في يوليو 2023، إرشاداتها الرسمية لخدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي، لتصبح بذلك واحدة من أولى الدول التي تقننه، لتلزم مقدمي خدمات الذكاء الاصطناعي بتسجيل خوارزمياتهم لدى الجهات الرسمية.


4- أخذ زمام المبادرة الدولية في مجال تنظيم الذكاء الاصطناعي: وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي يقودون السباق نحو تنظيم الذكاء الاصطناعي، فقد كان من المفاجئ إلى حد ما أن تعلن حكومة المملكة المتحدة عن استضافتها لأول قمة عالمية حول سلامة الذكاء الاصطناعي في نوفمبر 2023، وذلك بعدما كانت لندن متأخرة في تنظيم الذكاء الاصطناعي. لكن من ناحية أخري، سارعت إدارة بايدن نحو سرقة الأضواء خلال هذا الحدث الرائد، الذي حضره كبار القادة الحكوميين ورجال الأعمال والأكاديميين من جميع أنحاء العالم، وأعلنت عن أمرها التنفيذي الرئاسي قبل يومين فقط من بدء القمة، الأمر الذي أعطى نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس، التي حضرت القمة، منصة لاستعراض قوة بلادها فيما يتعلق بالتكنولوجيا الناشئة.


5- الاتساق مع شبكة واسعة للاستراتيجيات الأمريكية: استكمالاً للجهود المحلية، تتزامن استراتيجية وزارة الخارجية مع مبادرات دولية أوسع لتنظيم الاستخدام العسكري للذكاء الاصطناعي؛ حيث وافقت الولايات المتحدة، إلى جانب 30 دولة أخرى، في بداية شهر نوفمبر الجاري على وضع حدود لضمان بقاء الذكاء الاصطناعي العسكري ضمن حدود القانون الدولي، من خلال اتباع نهج دقيق في الاستخدام العسكري للذكاء الاصطناعي، مع التركيز على تقليل المخاطر والتحيزات غير المقصودة والحوادث، وهو ما قد اعتبره العدد من الخبراء خطوة حاسمة نحو التخفيف من احتمالات "السلوك غير المقصود" في الأعمال العسكرية.


6- الاستفادة من أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي: وفقاً لعدد كبير من المسؤولين التكنولوجيين التنفيذيين، فإن الولايات المتحدة تتمتع بمزايا هائلة على صعيد أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي القادرة على إتمام المهام المعرفية المعقدة بسرعة فائقة، استجابةً لأوامر بسيطة، وهو ما يمكن فهمه بالنظر إلى الجهود التي تبذلها واشنطن للحد من وصول الصين إلى الرقائق اللازمة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الجديدة؛ رغبةً منها في القضاء على طموحات بكين في هذا الصدد، حتى وإن كشفت الشركات التكنولوجية الصينية الكبرى، على غرار شركة "بايدو" و"بايت دانس" و"تينسنت" و"علي بابا"، عن خطط لتطوير نماذج عدة للذكاء الاصطناعي التوليدي.


7- التصدي لتحديات الذكاء الاصطناعي: في ضوء التوقعات بنمو إيرادات برمجيات الذكاء الاصطناعي العالمية من 62.5 مليار دولار في عام 2022 إلى 126 مليار دولار بحلول عام 2025، وهو ما يدل على الانتشار السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ فقد أوضحت دراسة استقصائية للمسؤولين التنفيذيين الحكوميين، أن 14% فقط من مشاريعهم في مجال الذكاء الاصطناعي قد نجحت واستمرت على المدى الطويل، كما أن 90% من المؤسسات التي طبقت الذكاء الاصطناعي، لم تحقق بعد اعتماداً واسع النطاق للذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء مؤسساتهم، الأمر الذي يكشف بوضوح عن التحديات التي تواجه توسيع نطاق الذكاء الاصطناعي.


بالإضافة إلى ذلك، فقد زادت الهجمات الإلكترونية التي تستهدف نقاط ضعف الذكاء الاصطناعي بنسبة 62% على مستوى العالم في عام 2021؛ حيث يجد المهاجمون طرقاً جديدة للتلاعب بأنظمة الذكاء الاصطناعي لاستغلالها، ومن ثم ستكون إدارة هذه المخاطر أمراً أساسياً، في ضوء قيام وزارة الخارجية الأمريكية بتوسيع نطاق استخدامها لتقنيات الذكاء الاصطناعي.


ختاماً، لا تزال الاستراتيجية الأمريكية الجديدة (EAIS) في مراحلها الأولى، بيد أنها تتمتع بالقدرة على إحداث ثورة في الطريقة التي تتم بها إدارة الدبلوماسية الأمريكية؛ حيث تلتزم الأخيرة باستخدام الذكاء الاصطناعي بطريقة مسؤولة وأخلاقية، وبالتعاون مع الدول الأخرى لتطوير المعايير الدولية اللازمة لاستخدامه في مجال الدبلوماسية، ولذلك فمن المرجح أن يكون لهذه الاستراتيجية تأثيراً كبيراً على تطوير طرق استخدام الذكاء الاصطناعي خلال السنوات القادمة، خاصة في ظل التوسع في اعتماده من قبل الشركات والهيئات الحكومية، وكذلك العديد من الصناعات والقطاعات الحيوية في الولايات المتحدة.