عرض: د. إيمان عبد الحليم
تعرَّض الاقتصاد الصيني، خلال السنوات الماضية، لعدد من الإشكاليات العديدة؛ حيث كانت قضية الديون واحدة من التحديات الرئيسية؛ فبحسب "اللجنة المركزية للرابطة الديمقراطية الصينية"، في عرضها المقدم إلى الدورتين السنويتين لكل من "المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني" و"مجلس الشعب الصيني" في مارس 2023؛ بلغ إجمالي الديون الريفية في الصين 900 مليار يوان (124 مليار دولار أمريكي) مع بداية عام 2019، في مشكلة تمتد لتشمل نحو 700 ألف قرية في عموم البلاد، وهو الأمر الذي ربما يدفع نحو آثار سلبية ممتدة على الواقع الاقتصادي الصيني.
وفي هذا الصدد، يتناول "تشانج شينيو" Zhang Xinyu، في مقاله المنشور بدورية "تشاينا ريبورت" China Report عدد نوفمبر 2023، المعنون بـ"الديون الريفية.. سحق الريف" (rural debt: countryside crunch)، أبعاد تطور أزمة الديون الريفية في الصين، وتداعياتها المحتملة على الاقتصاد الصيني.
تعدد الأسباب
يشير المقال إلى أن تصاعد أزمة الديون الريفية في الصين ترتبط بعدد من الأسباب الرئيسية المتمثلة في الآتي:
1– التكلفة الكبيرة لتحديث القرى: فبالرغم من أهمية جهود التحديث الجارية لكي تصبح قرى الصين مثالاً للرخاء والتطوير الريفي، فإن تلك العملية تتم بتكلفة باهظة. ويكفي الإشارة في ذلك إلى قرية "هوانجبيجي" (huangbijie) في مقاطعة "جينيون" (Jinyun) جنوب شرق مقاطعة "تشجيانج"؛ حيث وصلت تكلفة جهود التحديث هناك إلى أكثر من 30 مليون يوان (4.12 مليون دولار أمريكي) لقرية يقل عدد سكانها عن 1000 نسمة، وقد تم تخصيص معظم هذه الأموال من جانب المحليات والإدارات القروية. ومن المفارقات بهذا الصدد أنه كلما كانت القرية أكثر جاذبيةً، زاد الدين المستحق عليها، وخاصةً مع ميل القرى "النموذجية" إلى أن تبدو مثالية على نحو مُبالَغ فيه، لكنها على الجهة الأخرى تعاني من تفاقم لأزمة الديون المستترة.
2– محدودية التمويل الحكومي للمشروعات القروية: تم تكليف عدد من قرى الصين بتمويل مشاريع البنى التحتية المحلية وفيما حول هذه القرى، وقد تم تمويل نصف هذه الاستثمارات محلياً؛ ما كان سبباً في استمرار تضخم الدين المحلي؛ فقد أفضت محدودية تخصيص الموارد المالية المركزية من السلطات العليا للإدارات القروية إلى تولي تلك الإدارات والحكومات المحلية مسؤولية توفير ما بين 30% و60% من تمويل المشاريع. بل إنه في بعض القرى يتم تجميد التمويل الحكومي حتى يتم الانتهاء من المشاريع على نحو مقبول، ليتعيَّن على هذه القرى تغطية تكاليف المشروعات المحلية مقدماً وعلى نحو كامل. وغالباً ما يتم تخصيص الأموال الحكومية بعد ذلك بقدر أقل بكثير مما تتطلَّبه تغطية الفواتير التي تم إنفاقها على نحو فعلي، ومن ثم فإن سد مثل هذه الفجوة يعني الاقتراض من المؤسسات المالية أو الأفراد، وهكذا تستمر الديون الريفية في النمو.
3– تكليف التعاونيات بتطوير الصناعات التحويلية المحلية: من الأسباب الأخرى لتفاقم أزمة الديون المستحقة على القرى، أنه تم تكليف الجمعيات التعاونية القروية، ومنذ التسعينيات، بمهمة تطوير الصناعات التحويلية المحلية، التي تم تمويلها جزئياً من جانب الإدارات القروية. ويتراوح دائنو هذه الديون على نحو عام بين البنوك وتعاونيات الائتمان الريفية والمؤسسات المحلية، بالإضافة إلى السكان المحليين. وعادةً ما تكون أسعار الفائدة على هذه القروض المباشرة من الأفراد أعلى من تلك التي تقدمها المؤسسات المالية. ومثال ذلك قرية "هواكسي" Huaxi في مقاطعة "جيانجسو" Jiangsu، التي كانت ذات يوم أغنى قرى البلاد بسبب الاستثمار في مجموعة "هواكسي" الشهيرة Huaxi Group، باتت تعاني – أسوةً بغيرها من القرى – من بعض المشكلات. وقد أفاد موقع "سينا فاينانس" Sina Finance في سبتمبر الماضي، بأن سكانها القرويين البالغ عددهم 35 ألف، الذين بلغ متوسط ثرواتهم في عام 2004 نحو مليون يوان (140 ألف دولار أمريكي) معرضون الآن لأزمة ديون خطرة.
4– تعثر العديد من المشروعات قيد التنفيذ: أضحت العديد من القرى الصينية متعسرة بسبب أن المناطق الصناعية التي استثمروا فيها إما سيئة التصميم أو تدار بأسلوب سيئ، بحسب المقال، وتتشابك المشكلة إذا ما تجنَّب السكان المحليون الاعتراف بإخفاقاتهم واستمروا في الاستثمار في هذه المشروعات لتتضاعف الديون سريعاً، بل إنه في بعض القرى، يتم توجيه الاستثمارات للمشاريع الجديدة للتعويض عن الخسائر القديمة. ويُشار هنا إلى أن الديون المحلية ترجع في معظمها إلى ما تسمى "مشاريع الفيل الأبيض"، وهو التعبير الذي يُستخدَم اقتصادياً للتدليل على الاستثمار الحكومي أو الخاص في المشاريع الضخمة الهائلة التكلفة، لكنها غير مجدية اقتصادياً. ومثالاً على ذلك، يُشار إلى بعض قرى مقاطعة "هوبي" Hubei التي تزايدت ديونها بسبب بناء المبنى الإداري للقرية والمناطق المحيطة بها.
5– المبالغة في مشاريع حملة "الريف الجميل": وفقاً للمقال، ارتفعت الديون المحلية بسبب حملة "الريف الجميل" على وجه الخصوص، وهي مبادرة بدأت في عام 2013 لتحسين الظروف المعيشية والبيئية في القرى، وكذلك الإنشاءات الجديدة التي تهدف إلى جذب السياح وتجديد البنية التحتية؛ إذ تشير الدراسات إلى أن جميع القرى أُثقِلت بالديون الضخمة نتيجةً لمثل هذه المشروعات التجميلية. وحتى إن لم تكن كل المشاريع في القرى مخصصة لهذا الغرض، فإن بعضها الآخر – مثل الري وتعبيد الطرق – يعمل على تحسين حياة السكان المحليين، ولكن الديون التي تُخلِّفها لها عواقب وخيمة أيضًا. ومع ذلك فإن أصحاب المصالح عادةً ما يستفيدون من مثل هذه المشاريع التجميلية التي تساعد كبار المسؤولين على الحصول على المزيد من فرص الترقيات، كما تكتسب الجمعيات التعاونية المحلية سمعة طيبة بفضل مثل هذه المشاريع.
6– استمرار الأثر السلبي للضرائب الزراعية: فالملاحظ أن بعض الديون الهائلة المستحقة في المناطق الريفية في الصين، ديون قديمة تراكمت منذ عام 1990 قبل أن تقرر البلاد إلغاء الضريبة الزراعية في عام 2006، وقد قُدِّرت الديون الريفية قبل ذلك العام بنحو 360 مليار يوان (49.57 مليار دولار أمريكي)، ولكن مع ذلك استمر الأثر السلبي لهذه الضريبة فيما بعد ذلك العام؛ فعندما لم يكن لدى المزارعين ما يكفي لدفع الضريبة الزراعية، اقترضوا المال من الجمعيات التعاونية القروية، وإن تمكن بعضهم من سداد ديونهم في السنوات التي تلت ذلك، ولكن أخفق الآخرون.
التبعات السلبية
مع تفاقم أزمة الديون المستترة في معظم قرى الصين، فإن هناك مخاوف محلية من الارتدادات السلبية لتلك الأزمة، وخاصةً فيما يرتبط بالأبعاد التالية:
1– تهديد خطط التنمية الريفية: إذ يحذر الخبراء من أن الديون المتزايدة، إذا لم يتم العمل لمعالجتها على الفور، قد تؤدي إلى زعزعة استقرار برنامج الصين لتطوير وتحديث الريف؛ وذلك ما قد يعرض استقرار المجتمع الريفي للخطر خلال السنوات القادمة.
2– صعوبات الاقتراض للمشروعات: مع وجود محاولات لتنظيم ديون القرى من خلال مطالبة حكومات المقاطعات بمعالجة هذه المشكلة، فإنه سيكون على المقاطعات وضع خطة لكل قرية تراكمت عليها ديون تزيد عن مليون يوان (140 ألف دولار أمريكي)؛ وذلك ما يعني أنه سيكون من المستحيل تقريباً على هذه القرى اقتراض الأموال للمبادرات أو المشروعات الجديدة.
3– تعدُّد المنازعات القضائية: على مدى السنوات القليلة الماضية، لجأ بعض المقاولين الذين قدموا عطاءات للمشاريع في القرى التي تعاني المديونية إلى مقاضاة المسؤولين المحليين للحصول على الأموال التي تم صرفها. ومثالاً على ذلك، ارتفع عدد الدعاوى القضائية من دعوى قضائية واحدة إلى 114 دعوى قضائية في "جاوبينج" بمقاطعة "شانشي" من عام 2016 إلى عام 2018، وخسرتها حكومات القرى جميعاً. ولا يستطيع معظم المسؤولين الدفع، حتى بعد صدور حكم من المحكمة؛ ما يؤدي إلى عقوبات فردية بسبب الفشل الجماعي في الدفع.
حيث تم في عام 2019 اعتقال ممثل إحدى اللجان القروية لعدم تنفيذه أمراً من المحكمة بدفع تكاليف مشروعات القرية، كما تم إدراج مسؤولي بعض القرى في القائمة السوداء من قبل نظام الائتمان الاجتماعي الوطني؛ ما يعني حرمانهم من حق استخدام المرافق العامة مثل القطارات والطائرات. ومن أجل تقليل تأثير إدراجها على القائمة السوداء، تقوم بعض القرى بتغيير مسؤوليها، ولكن إذا ظلت الديون قائمةً، فمن المحتمل إدراج الزعماء الجدد على القائمة السوداء مرة أخرى في جولة جديدة من الدعاوى القضائية. وفي بعض الحالات الحديثة، فإن المقاولين ليسوا هم الذين يشاركون الآن في مشاريع البناء، بل السكان المحليون؛ وذلك لخفض تكاليف الاستعانة بمصادر خارجية.
ختاماً، فإنه إزاء تفاقم أزمة ديون القرى في الصين على النحو المشار إليه، دعت "اللجنة المركزية للرابطة الديمقراطية الصينية"، في عرضها المقدم لكل من "المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني" و"مجلس الشعب الصيني"، إلى تقييم الأداء السنوي لمسؤولي القرى من خلال مؤشرات مثل معدلات استرداد الديون، ومعدل تغطية خدمات الديون، ومعدلات نمو الأصول؛ حيث ينبغي أن تكون زيادة أو نقصان الديون المحلية معياراً لتحديد رواتب المسؤولين المحليين وترقياتهم. وأيضاً لمعالجة ديون القرى، هناك مطالبات بألَّا تشارك اللجان القروية في تخطيط المشاريع أو التدخل في الأعمال التجارية المحلية؛ الأمر الذي قد يساعد في تقليص ما تعانيه من الديون. وفيما تمَّ استبدال لجان القرى مكانَ حكومات المدن لاتخاذ القرارات بشأن المشاريع التي تقل قيمتها عن 600 ألف يوان (84 ألف دولار أمريكي)؛ تقرر المقاطعات تلك المشاريع التي تزيد قيمتها عن 600 ألف يوان؛ إذ من المرجح – بحسب الخبراء – أن تنخفض ديون القرى عندما تتولى الحكومات على مستوى المقاطعة مسؤولية المشاريع.
المصدر:
Zhang Xinyu, "rural debt: countryside crunch", China report, vol.126, November 2023.