إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

أكدت وزارة الخارجية الأمريكية، في شهر أبريل 2024، أن الولايات المتحدة قد أرسلت أنظمة صواريخ بعيدة المدى تعرف باسم "أتاكمس" (ATACMS) إلى أوكرانيا لاستخدامها داخل أراضيها؛ وذلك وفقاً لتصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية فيدانت باتيل، الذي أوضح أن إرسال منظومة الصواريخ هذه لأوكرانيا كان بناءً على توجيهات الرئيس جو بايدن، مضيفاً أن واشنطن لم تعلن ذلك في البداية من أجل الحفاظ على الأمن العملياتي لأوكرانيا في أراضيها. وجاء تأكيد باتيل بعد أن ذكرت تقارير إعلامية أمريكية أن هذه الصواريخ قد استُخدمت بالفعل لقصف مطار عسكري روسي في شبه جزيرة القرم، التي سبق أن سيطرت عليها روسيا في عام 2014. وقد أثارت تلك الأنباء العديد من التساؤلات حول دلالات إرسال الولايات المتحدة هذه الصواريخ إلى أوكرانيا، فضلاً عن مدى تأثيرها على مسار العمليات الحربية الأوكرانية ضد الأهداف الروسية المحتملة.الدعم الصاروخييعكس الدعم الصاروخي الأمريكي المتقدم مجموعة من الدلالات التي تؤكد مدى حرص واشنطن على دعم حليفتها الأوكرانية في حربها ضد روسيا، باعتبار كييف حائطاً يصد الهجمات الروسية ضد الغرب الذي يعتقد أن انتصار موسكو في الحرب، بمنزلة هزيمة جماعية للمعسكر الغربي كله. ويمكن قراءة أهمية هذا الدعم الصاروخي من خلال عدة جوانب، أبرزها:1– أهمية تطوير القدرات الصاروخية الأوكرانية: وافق بايدن سراً على نقل صواريخ "أتاكمس" البعيدة المدى في فبراير الماضي، لاستخدامها داخل نطاق الأراضي الأوكرانية، وهو ما قد أُدرِج في حزمة المساعدات البالغة 300 مليون دولار، التي تم الإعلان عنها رسمياً في مارس الماضي، وتم تسليمها في نهاية المطاف إلى أوكرانيا خلال شهر أبريل، وفقاً لما أوضحه المتحدث باسم البنتاجون اللفتنانت كولونيل جارون جارن، الذي صرَّح بأنه "لم يتم الإعلان عن أننا نُزوِّد أوكرانيا بهذه القدرة الجديدة في ذلك الوقت من أجل الحفاظ على الأمن التشغيلي لأوكرانيا بناءً على طلبهم".هذا وتتميز دفعة صواريخ "أتاكمس" الجديدة، التي قدَّمتها واشنطن لكييف مؤخراً، باتساع نطاقها المستهدف مقارنةً بالنسخة القديمة التي قدَّمتها في سبتمبر 2023؛ حيث أرسلت الولايات المتحدة لأول مرة إلى أوكرانيا نسخة متوسطة المدى من منظومة الصواريخ هذه التي يمكن أن يصل مداها إلى نحو 100 ميل، في حين أن النسخة الجديدة الأطول مدى يمكن أن تصل إلى 190 ميلاً، وهو ما يساوي تقريباً 300 كيلو؛ ما قد يسمح لأوكرانيا بضرب الجيش الروسي في جميع أنحاء شبه جزيرة القرم، وفي الأجزاء المقتطعة من شرق أوكرانيا التي كان من الصعب الوصول إليها، فضلاً عن امتلاك تلك المنظومة الرؤوسَ الحربية ذات الذخائر العنقودية التي قد تسبب خسائر أكثر عمقاً للجيش الروسي.2– موازنة الدعم الكوري الشمالي لروسيا: رفضت إدارة بايدن إرسال هذه الصواريخ سابقاً إلى أوكرانيا؛ وذلك بسبب مخاوفها من أنها قد تؤدي إلى توسيع رقعة الصراع، فضلاً عن خشية البنتاجون من انخفاض حجم المخزون الأمريكي منها، فيتسبب ذلك في الإضرار بالاستعداد العسكري الأمريكي، كما كانت هناك مخاوف من استخدام أوكرانيا لها في مهاجمة أهداف في عمق روسيا.بيد أن استمرار روسيا في استهداف البنية التحتية الحيوية في أوكرانيا بصواريخها الباليستية، التي سبق أن زودتها بها كوريا الشمالية، كان أحد العوامل التي حفزت الإدارة الأمريكية على مد حليفتها بمنظومات صواريخ أكثر تطوراً، تكون قادرة على صد الهجمات الروسية، بل القيام بهجمات مضادة للدفاع عن نفسها؛ وذلك حسبما أوضح مستشار الأمن القومي جيك سوليفان أثناء حديثه في مؤتمر صحفي عقده مؤخراً في واشنطن.3– إلزام واشنطن كييف باستخدام الصواريخ داخل نطاق أوكرانيا: بالرغم من حرص الولايات المتحدة على تجنب استفزاز روسيا لشن عدوان أوسع نطاقاً، خاصةً في حالة استخدام الذخائر الأمريكية لمهاجمة الأراضي الروسية؛ أكد سوليفان أن بلاده لم تكن لترسل تلك الصواريخ إلى أوكرانيا لولا تأكُّدها من التزام الأخيرة باستخدامها داخل النطاق الجغرافي لأوكرانيا فقط، وليس في روسيا، وهو ما قد ظهر جلياً حين تم استخدامها للمرة الأولى في 17 أبريل 2024؛ حين أُطلقت على قاعدة جوية روسية في شبه جزيرة القرم، باعتبارها أحد الأراضي الأوكرانية وفقاً للغرب، التي تقع على بعد نحو 165 كيلومتراً من الخطوط الأمامية الأوكرانية، ثم أعيد استخدامها مرة أخرى ضد القوات الروسية في جنوب شرق أوكرانيا.4– تزامُن حصول كييف على الصواريخ مع التقدم العسكري الروسي: استغلت روسيا تباطؤ المساعدات المالية والعسكرية الغربية لكييف، وكثَّفت قصفها الطويل المدى للبنية التحتية للطاقة في أوكرانيا ومدنها خلال الأسابيع الأخيرة؛ ما زاد الضغط على كييف مع تقدم قوات موسكو الأكثر عدداً والأفضل تجهيزاً ببطء في ساحة المعركة في الشرق؛ ما دفع موسكو إلى التوجه نحو خاركيف؛ لضرب البنية التحتية للطاقة في المنطقة، كما حذر العديد من المسؤولين والمحللين من احتمالية إقدام موسكو على تهيئة الظروف لشن هجوم صيفي أوسع نطاقاً للسيطرة على المدينة.ومن ثم باتت كييف أكثر احتياجاً إلى المزيد من المساعدات العسكرية لصد هذا التقدم الروسي؛ إذ أوضح جيك سوليفان أن الأسلحة وأنظمة الصواريخ المرسلة إلى كييف تأتي في وقت حرج؛ إذ تواصل روسيا التقدم في ساحة المعركة في منطقة دونيتسك الشرقية.5– الاستجابة للمطالب الأوكرانية للحصول على أنظمة صاروخية طويلة المدى: خلال الأشهر القليلة الماضية، طلبت أوكرانيا، مراراً وتكراراً، المزيد من الدفاعات الجوية من حلفائها الغربيين، وخاصةً الولايات المتحدة، في الوقت الذي تكافح فيه لكبح التقدم الروسي. وفي السياق ذاته، أقر رئيس أركان الجيش الأوكراني ألكسندر سيرسكي بأن الوضع على الجبهة قد تدهور مع تحقيق القوات الروسية "نجاحات تكتيكية" في مناطق عدة، خاصةً أن الجيش الأوكراني أصبح يتبع الأسلوب الدفاعي منذ فشل هجومه المضاد الفترة الماضية، علاوة على تسلُّم روسيا زمام المبادرة بعد استيلائها على بلدة أفدييفكا في شرق البلاد خلال فبراير الماضي.وبناءً على ذلك، لجأت أوكرانيا إلى الغرب من أجل الحصول على أنظمة صواريخ طويلة المدى؛ نظراً إلى قدرتها الحاسمة على ضرب الأهداف الروسية الأبعد، وتحسين الوضع العسكري لكييف، وهو ما قد أشار إليه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على منصة التواصل الاجتماعي "X"، من أن "قدرات أوكرانيا البعيدة المدى والمدفعية والدفاع الجوي هي أدوات مهمة للغاية لاستعادة السلام العادل بسرعة".تداعيات محتملةمما لا شك فيه أن الدعم الصاروخي الأمريكي سيتبعه تغيرات عديدة في ساحة الحرب الروسية–الأوكرانية، لعل أبرزها ما يلي:1– تعزيز الموقف الحربي الأوكراني ضد الأهداف الروسية: إن الصواريخ المتوسطة المدى التي تم تقديمها في العام الماضي، وبعض الصواريخ البعيدة المدى التي تم إرسالها مؤخراً، تحمل ذخائر عنقودية تنفتح في الهواء عند إطلاقها، وتُطلِق مئات القنابل الصغيرة بدلاً من رأس حربي واحد. ومن ثم فإنه مع وجود هذا العدد الكبير من الذخائر من هذا النوع، سيكون الأوكرانيون قادرين على ضرب أهم المواقع الروسية، وتمركزات القوات، والمستودعات اللوجستية والبنية التحتية الحيوية الروسية، في جميع أنحاء الأراضي الأوكرانية التي تقع في أيدي روسيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم. بمعنى آخر، ما دامت واشنطن تُزوِّد الأوكرانيين بمعلومات استهداف دقيقة – وهو أمر مرجح – فإن من المتوقع أن تشهد القوات الروسية العديد من الهجمات أو المناورات الأوكرانية، وربما يمتد ذلك إلى داخل العمق الروسي، بالرغم من التحذيرات الأمريكية في هذا الصدد.2– تعدد الضربات الأوكرانية في شبه جزيرة القرم: تعهدت السلطات الأوكرانية باستخدام هذه الصواريخ حصراً داخل المناطق التي تحتلها القوات الروسية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، باعتبارها واحدة من الأراضي التابعة لأوكرانيا وفقاً للغرب، حسبما أوضحت تعليقات صحيفة نيويورك تايمز على صفقة الصواريخ الأمريكية؛ حيث ترى الصحيفة أن الهدف من هذه الصفقة هو "ممارسة المزيد من الضغوط على شبه جزيرة القرم".وفي السياق ذاته، صرَّح السيناتور روجر ويكر – وهو أكبر عضو جمهوري في لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، الذي طالما ضغط على الإدارة الأمريكية لإرسال الصواريخ الطويلة الأمد إلى كييف – بأن الضربات الأوكرانية السابقة ضد روسيا في القرم، التي استُخدِمت فيها تلك الصواريخ، قد أثبتت أن "أوكرانيا قادرة على تحقيق انتصارات في ساحة المعركة عندما تتاح لها الأدوات المناسبة.من ناحية أخرى، أوضح الممثل الدائم لشبه جزيرة القرم لدى الرئيس الروسي جورجي مرادوف، أن أنظمة الصواريخ التكتيكية (ATACMS)، التي بدأ الجيش الأوكراني يستلمها من الولايات المتحدة، تجعل الهجوم على جسر القرم تهديداً حقيقياً، لكنه أشار أيضاً إلى أن الدفاعات الجوية الروسية قادرة على حماية شبه الجزيرة، محذراً من أن نقل واشنطن هذه الأسلحة إلى حليفتها، يمثل مستوى جديداً في الحرب بين روسيا والولايات المتحدة بالوكالة داخل أوكرانيا.3– تزايد التوترات بين روسيا والولايات المتحدة: استبعد الكرملين أن تلعب الصواريخ الأمريكية (ATACMS) دوراً في تغيير نتيجة الحرب، بل رجَّح أن تخلق المزيد من المشاكل لأوكرانيا نفسها؛ إذ صرح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف بأن "الولايات المتحدة متورطة بشكل مباشر في هذا الصراع. إنها تسير في طريق زيادة نطاق التشغيل لأنظمة الأسلحة التي تُزوِّد أوكرانيا بها"، مضيفاً: "هذا لن يُغيِّر بشكل جذري نتيجة العملية العسكرية الخاصة. سنُحقِّق هدفنا، لكن هذا سيُسبِّب المزيد من المشاكل لأوكرانيا نفسها".4– احتمالية تكثيف روسيا هجماتها الانتقامية الاستباقية ضد أوكرانيا: أكد البنتاجون أن الصواريخ التي تشتد الحاجة إليها لأنظمة الدفاع الجوي الأوكرانية، لا تزال بحاجة إلى الطلب والتصنيع، وقد يستغرق وصولها ما يصل إلى شهر. وفي غضون ذلك، من المتوقع أن تكثف روسيا هجماتها للاستفادة من الفرصة السانحة التي تتيحها مدة وصول المساعدات العسكرية الأمريكية إلى أوكرانيا؛ حيث تشير مكاسبها التكتيكية الأخيرة إلى وجود خطة طامحة لتطويق مدينتي سلوفيانسك وكراماتورسك، خلال الهجوم الروسي الصيفي المقبل. بالإضافة إلى ذلك، تعول روسيا على قوة أنظمتها الدفاعية، وخاصةً S–500، التي بدأ تسليمها لقوات الدفاع الجوي بالفعل؛ حيث تعتقد أنها قادرة على إسقاط مثل هذه الصواريخ.5– حرص موسكو على التقليل من جدوى الصواريخ: ستعمل موسكو على التقليل من جدوى صواريخ أتاكمس وقدرتها على تغيير مسار الحرب، كما ستحاول الترويج لقدرتها على إسقاط هذا الصواريخ على النحو الذي يُحبِط معنويات كييف. ولعل هذا ما اتضح من تصريحات رئيس شبه جزيرة القرم المدعوم من روسيا، يوم 30 أبريل 2024، بأنه تم إسقاط أنظمة الصواريخ (ATACMS) فوق شبه الجزيرة. ونشر سيرجي أكسيونوف على تطبيق تيليجرام صورة تُظهِر ما وصفها بأنها ذخائر صغيرة غير منفجرة من صواريخ ATACMS.حدود التأثيرصحيح أن نظام الصواريخ (ATACMS) يمثل تقدماً كبيراً في قدرات الضربات الدقيقة؛ وذلك بفضل نطاقها الاستثنائي ودقتها؛ أي أنها ستوفر للقوات العسكرية الأوكرانية أداة فعالة للاشتباك مع مجموعة واسعة من الأهداف الروسية، كما أن من المتوقع إدراج المزيد منها ضمن حزمة المساعدة العسكرية الجديدة التي أعلنها البنتاجون، وتحديداً بعدما وقَّع بايدن على قانون حزمة المساعدات التي تُقدَّر بنحو 61 مليار دولار كمساعدة لأوكرانيا.ولكن مع ذلك ليس من المُرجَّح أن تؤدي هذه الصواريخ إلى تغيرات راديكالية في مسار الحرب؛ لأن استمرار المساعدات الغربية لكييف، لا يزال موضوع شكوك هائلة، ناهيك عن استمرار الاحتياجات التسليحية الكبيرة لكييف، كما أن قُرب انعقاد الانتخابات الأمريكية، واحتمالية عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يُحتمَل أن يفرض ضغوطاً على مسار المساعدات إلى كييف. ومن ثم فإن أقصى ما يمكن أن يحدث بعد حصول كييف على صواريخ أتاكمس هو أن أوكرانيا قد تُصبِح قادرة على توسيع هجماتها المضادة ضد روسيا.

هل ستُغير منظومة صواريخ "أتاكمس" مسار الحرب الأوكرانية؟