د. يوسف داوود

في 18 أبريل 2025، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن إجراء عملية إعادة تموضع القوات الأمريكية في سوريا ضمن إطار "قوة المهام المشتركة–عملية العزم الصلب"؛ وذلك عن طريق تقليص عددها إلى أقل من ألف جندي خلال الشهرين المقبلين، على أن يتم تقييم الأوضاع الميدانية قبل مزيد من التقليص عقب هذه الفترة. وقد برَّر البنتاجون هذا الإجراء بـ"التقدم الكبير المتحقق في تقويض قدرات داعش"، في خطوة تعكس تحولاً في مقاربة واشنطن تجاه سوريا. هذا ولا يمكن قراءة هذا التحرك بمعزل عن تحولات أوسع في سياسة إدارة ترامب الشرق أوسطية، فضلاً عن المشهد الداخلي المُعقَّد في سوريا، الذي لا يجعل من عملية إعادة إدماج القوات الأمريكية ضمن مهمة "العزم الصلب" مجرد تعديل تنظيمي، بل إعادة تعريف لمهمة الوجود الأمريكي، من شمولية ردعية متعددة الأهداف، إلى وظيفة مركزة على مكافحة الإرهاب؛ ما يُمهِّد فعلياً لبداية انسحاب مشروط ومدروس.دوافع أمريكيةيمكن رصد أهم دوافع إدارة ترامب لتقليص وجودها العسكري في سوريا في الآتي:1– حرص الرئيس ترامب على تقليص الوجود العسكري الأمريكي في الخارج: منذ حملته الانتخابية الأولى في 2016، تبنَّى دونالد ترامب خطاباً متمايزاً عن المؤسسة السياسية التقليدية فيما يخص السياسة الخارجية، ركَّز فيه على فكرة "أمريكا أولاً"، واعتبر أن الإنفاق على الحروب الخارجية واستمرار التورط العسكري في الشرق الأوسط يمثِّل عبئاً اقتصادياً واستراتيجياً. في ولايته الثانية، ومع استمرار سيطرته على المشهد الجمهوري وتحرُّره من قيود إعادة الانتخاب، بدا ترامب أكثر تصميماً على إعادة رسم خريطة الانتشار العسكري الأمريكي في مناطق النزاع، ومنها سوريا، وفق رؤية تقوم على تقليص الكلفة البشرية والسياسية والتركيز على الداخل. ورغم أن البنتاجون لا يقرُّ رسمياً بأن هذه الخطوة تمهيد للانسحاب، فإن إدماج القوات ضمن "قوة العزم الصلب"، وتخفيض الانتشار إلى أقل من ألف عنصر، يؤكد أن واشنطن تسير في اتجاه تقليص تدريجي منضبط، لا يستهدف بالضرورة إنهاء المهمة، بل حصرها في نطاق أمني ضيق يحمي المصالح الأمريكية دون التورط في تعقيدات جيوسياسية محلية أو إقليمية.2– الاتفاق بين الإدارة السورية الجديدة و"قسد": شكَّل التفاهم الأخير بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة السورية الجديدة نقطة تحوُّل ميداني لها تداعيات مباشرة على الموقف الأمريكي في سوريا؛ فمع تصاعد التحديات الأمنية وتقلُّص مساحة سيطرة تنظيم داعش، بدأ يظهر على الأرض نمط من "تقاسم الأعباء الأمنية" بين فاعلين محليين غير متجانسين، تسعى واشنطن إلى الاستفادة منه كأداة للانسحاب التدريجي دون الإخلال الفوري بالتوازنات؛ فالاتفاق الذي جرى التوصل إليه بين قسد والإدارة السورية الجديدة في مارس 2025 يندرج ضمن ما تسميه بعض التقارير الاستخبارية "تفاهمات نفعية ظرفية"، تهدف إلى ملاحقة خلايا داعش النشطة في البادية السورية، وتبادل المعلومات حول الأنشطة العابرة للمناطق الفاصلة بين إدلب والحسكة.وقد رُصدت بالفعل مؤشرات على تنسيق ميداني غير مباشر، من خلال وسطاء عشائريين ومجالس محلية؛ ما أتاح لكلا الطرفين تأمين مناطق نفوذهم دون تدخل مباشر من القوات الأمريكية؛ لذلك فإنه من وجهة نظر استراتيجية، تستغل إدارة ترامب هذا التطور لتبرير تقليص الوجود العسكري؛ حيث تعوِّل على قدرة قسد على إدارة التهديدات الإرهابية بالتنسيق مع قوى محلية – حتى إن كانت مثيرة للجدل مثل الهيئة – ما يخفف العبء عن واشنطن من الناحيتين اللوجستية والسياسية؛ فبدلاً من الاعتماد المطلق على القوات الأمريكية، يمكن للبيت الأبيض أن يُسوِّق هذه المرحلة باعتبارها "نقلاً تدريجياً للمسؤولية الأمنية إلى الشركاء المحليين"، خاصة بعد أن تعززت لدى صانع القرار الأمريكي قناعة بأن التهديد الإرهابي القائم حالياً لا يستدعي بقاءً دائماً لقوة أمريكية كبيرة. 3– التفاهمات المحتملة بين ترامب وأردوغان: من العوامل الدافعة وراء قرار إدارة ترامب بتقليص الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، ما يُعتقد أنه تفاهم غير معلن بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان بشأن مستقبل منطقة الشمال السوري؛ فالعلاقة الشخصية الوثيقة بينهما، التي ميزت ولايتهما الأولى، عادت للظهور بوضوح في الولاية الثانية، خاصة مع تصاعد التنسيق في ملفات تتعلق بأمن الحدود التركية ومحاربة التمدد الكردي. في السياق ذاته، تشير بعض التقديرات إلى أن أنقرة عرضت على واشنطن تسهيلات أمنية ومعلوماتية في مقابل انسحاب تدريجي ومنسق للقوات الأمريكية من المناطق المحاذية للحدود السورية–التركية، على أن تتولى تركيا و"الجيش الوطني السوري" الموالي لها ملء الفراغ. وتُقدِّم هذه الصفقة – إن صحت – حلاً مثالياً لإدارة ترامب الراغبة في تقليص وجودها، دون التنازل عن النفوذ أو ترك المساحة مفتوحة أمام إيران أو روسيا.كما ظهرت بوادر هذه التفاهمات في تصريحات صدرت عن مسؤولين أمريكيين تحدثوا عن "حوار مستمر مع الحليف التركي لضمان ترتيبات أمنية مستدامة في الشمال السوري"، فضلاً عما ألمح إليه ترامب مراراً إلى "أهمية الدور التركي في ضمان الاستقرار ومنع عودة الإرهابيين إلى المناطق المحررة"، وهي عبارة فُسرت على نطاق واسع بأنها إشارة ضمنية لقبول أمريكي بانسحاب منضبط بتنسيق مع تركيا.4– التحسب من فشل المفاوضات الأمريكية الإيرانية: برزت مخاوف جدية داخل البنتاجون ومجلس الأمن القومي من أن تتحول القوات الأمريكية المنتشرة في شمال شرق سوريا إلى أهداف مباشرة للمليشيات المدعومة من إيران، كجزء من استراتيجية "الرد بالوكالة" التي تستخدمها طهران دائماً عند التصعيد مع واشنطن؛ وذلك في حالة تعرض مسار المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران للفشل.ومن الواضح أن البنتاجون لا يسعى إلى انسحاب شامل وفوري، بل إلى إعادة تموضع تقلل من المخاطر التشغيلية وتحفظ في الوقت نفسه القدرة الأمريكية على شن ضربات محددة أو عمليات استخبارية عند الضرورة. ولذلك يُنظر إلى خطوة إدماج القوات في إطار "العزم الصلب" باعتبارها إجراءً وقائياً احترازياً، يتيح إعادة توزيع القوات في مواقع أكثر أماناً واستراتيجية، ويقلل من قابلية استهدافها المكشوف في مناطق مترامية قرب خطوط تماس مع وكلاء إيران.التداعيات المحتملة يمكن رصد أهم التداعيات المحتملة لقرار تقليص القوات الأمريكية في سوريا على النحو التالي:1– إمكانية التأثير على جهود مكافحة تنظيم داعش: قد يؤدي تقليص الوجود الأمريكي إلى تراجع فاعلية العمليات الاستباقية ضد خلايا داعش، لا سيما في المناطق الصحراوية الممتدة بين دير الزور والحدود العراقية. وبغياب الغطاء الجوي الأمريكي والقدرات الاستخبارية، من المحتمل أن تتسع ثغرات أمنية تستغلها خلايا التنظيم لإعادة التموضع أو تنفيذ هجمات نوعية، كما أن تزايد عبور عناصر داعش إلى الأراضي العراقية قد يعيد الضغط على المدن الحدودية، ويقوِّض جهود الاستقرار في الأنبار ونينوى.2– التأثير على وضعية الأكراد: قد يفسر الانسحاب الأمريكي المحتمل من قبل قوات سوريا الديمقراطية كمؤشر على تبدُّل جذري في أولويات واشنطن؛ ما يدفع الأكراد نحو البحث عن بدائل أمنية. من المرجح أن تلجأ قسد إلى مفاوضات مباشرة مع النظام السوري أو عبر وساطة روسية لتفادي فراغ ميداني يهدد وجودها. هذا التحول قد ينعكس سلباً على وضعية الأكراد، ويقوِّض المكاسب السياسية التي حققتها الإدارة الذاتية خلال سنوات الحرب. كما قد تنشأ توترات بين المكونات المحلية (الكردية والعربية) بسبب غياب الضامن الأمريكي. وفي حال غياب اتفاق مستقر، قد تنزلق مناطق شمال شرق سوريا إلى حالة من الفوضى المحلية أو التفتت الجغرافي.3– احتمالية ضغط إسرائيل على واشنطن لتجنب الانسحاب الكامل من سوريا: مع ميل إدارة ترامب إلى الانسحاب، من المحتمل أن تضغط إسرائيل سياسياً لعدم إخلاء سوريا بالكامل؛ لما لذلك من تداعيات على أمنها القومي؛ فقد تلجأ تل أبيب إلى المطالبة بالإبقاء على قوات استطلاع أمريكية أو نقاط استخباراتية مشتركة؛ لضمان استمرار مراقبة التحركات الإيرانية والحد من تهريب الأسلحة نحو حزب الله، كما قد تُفعِّل آليات التنسيق مع الأردن وروسيا لضبط الجنوب السوري، وتمنع عودة فوضى ما قبل 2018. في المقابل، قد تزيد إسرائيل من وتيرة الضربات الجوية الاستباقية على أهداف إيرانية، بهدف تعويض الغياب الأمريكي؛ ما يفتح احتمالات التصعيد على جبهات متعددة.4– محاولة استغلال إيران أي فراغ عسكري في سوريا: قد ينظر إلى انسحاب أمريكي جزئي أو واسع من سوريا كفرصة لطهران لإعادة تثبيت وجودها الممتد عبر "الممر البري" نحو المتوسط؛ فمن المرجح أن تحاول فصائل مدعومة من إيران ملء المناطق المتروكة، خصوصاً في دير الزور والبوكمال، وتوسيع شبكات النفوذ عبر تمويل زعامات عشائرية أو إنشاء واجهات مدنية محلية. وقد تستعيد إيران، ولو بشكل ضئيل، القدرة على نقل السلاح والذخيرة نحو لبنان، إلا أن ذلك كله يتوقف على مدى نجاح أو فشل مسار المفاوضات الأمريكية الإيرانية حول الملف النووي للأخيرة.5– التأثير على الوجود العسكري الأمريكي في العراق: قد ينظر إلى الانسحاب من سوريا في العراق كمؤشر على مرحلة أمريكية جديدة من تقليص التورط الإقليمي؛ ما يُشجع الفصائل المسلحة الموالية لإيران على تصعيد تحركاتها ضد القواعد الأمريكية في الأنبار وكركوك؛ وذلك إذا ما فلشت المفاوضات الأمريكية الإيرانية. ولكن بصورة مبدئية، قد يؤدي تغير هذا التموضع في سوريا إلى إجراء تعديلات لوجستية ضرورية على وضعية القوات الأمريكية في العراق، دون الإخلال بنطاق وطبيعة مهامها.6– الانعكاس المحتمل على الوجود العسكري الروسي في سوريا: في حالة تقليص الوجود الأمريكي أكثر من اللازم، قد تسعى موسكو إلى ملء الفراغ عبر نشر قوات إضافية في مناطق نفوذ واشنطن السابقة، إلا أن هذا الأمر تواجهه بعض التحديات العميقة؛ فروسيا تتوخى الحذر من التورط في إدارة مناطق متوترة ذات بنى اجتماعية معقدة، وتفضِّل تفويض السيطرة لشركاء محليين موالين لها، كما أنها تخشى أن يؤدي أي تحرك مماثل إلى تشديد مواقف الإدارة الأمريكية المواتية لها على الساحة الأوكرانية، وهو هدف أهم بكثير من تمديد نفوذها في سوريا.الخلاصة: في ضوء المعطيات الراهنة، يُمثِّل قرار إدارة ترامب بإعادة هيكلة القوات الأمريكية في سوريا وتخفيض انتشارها إلى أقل من ألف جندي خطوة تنسجم مع فلسفة "أمريكا أولاً" التي يُعيد الرئيس تكريسها في ولايته الثانية، غير أن هذا التقليص لا يبدو حتى الآن مندرجاً ضمن توجه بالانسحاب الشامل، بل هو أقرب إلى إعادة تموضع وقائي يتجاوب مع ضغوط داخلية، وتفاهمات إقليمية غير معلنة، وتقديرات لمخاطر تصعيد محتمل مع إيران. ويُظهر التحليل السابق أن مجموعة من العوامل المركبة تفاعلت لتدفع واشنطن نحو خيار تقليص الحضور دون التخلي التام. في المقابل، فإن هذا الانكماش يحمل تداعيات استراتيجية متباينة، قد تؤدي إلى إضعاف فاعلية مكافحة الإرهاب، وزعزعة ثقة الحلفاء المحليين، وفتح ثغرات أمام المنافسين لملء الفراغ الناجم.

تداعيات الخطة الأمريكية لتقليص الوجود العسكري في سوريا