د. يوسف داوود

بعد فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بولاية ثانية، يُتوقع أن تشهد أجهزة الاستخبارات الأمريكية تغييرات جذرية تعيد تشكيل بنيتها وتؤثر على سياساتها وأدائها؛ فطوال ولايته الأولى، أبدى ترامب استياءه تجاه أداء بعض أجهزة الاستخبارات، وأشاع مرة أخرى استخدام مصطلح "الدولة العميقة" في إشارة إلى سعي هذه الأجهزة إلى تحجيم صلاحياته؛ ما خلق صدامات بين البيت الأبيض وهذه الوكالات بشكل متكرر.ووفقاً للتصور الأولي، يبدو أن العلاقة المحتقنة بينه وبين أجهزة الاستخبارات ستزداد في فترة رئاسته الثانية؛ إذ يُمهِّد ترامب الطريق لإجراء تغييرات واسعة تشمل إعادة هيكلة شاملة، تعتمد على خطط وأهداف طرحها في حملته الانتخابية، وعلى مقترحات مراكز الفكر المحافظة، مثل "مشروع 2025" الذي يسعى إلى إعادة تنظيم الحكومة الأمريكية وفقاً لرؤيته.تحولات مرتقبة يُتوقع أن تشهد أجهزة الاستخبارات عدداً من التحولات في ظل رئاسة ترامب، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:1– تعزيز صلاحيات مدير الاستخبارات الوطني: مع بدء فترة رئاسته الثانية، من المتوقع أن يدعم ترامب خطط "مشروع 2025"، حتى لو تباعد نسبياً عنها في تصريحات سابقة، وخاصة فيما يتعلق بتعزيز دور مدير الاستخبارات الوطنية (DNI) ليكون حلقة الوصل المباشرة للبيت الأبيض، مع منح هذا المنصب سلطة أكبر على الأجهزة الاستخباراتية الـ18 الأخرى.في السياق ذاته، ربما تلعب شخصيات مثل "دستن كارماك"، الذي كان له إسهام مؤثر في صياغة هذه الخطة، دوراً في تعزيز سلطة مدير الاستخبارات الوطنية. كذلك من الممكن أن يُعاد تعيين "جون راتكليف"، الذي سبق أن شغل هذا المنصب؛ لدعم رغبة ترامب في السيطرة على معلومات الاستخبارات وتوجيهها بما يتماشى مع أهدافه السياسية.2– احتمالية تبني حملة "تطهير" للمناصب الاستخباراتية العليا: مع بدء فترة رئاسته الثانية، يبدو أن ترامب عازم على تنفيذ حملة "تطهير" واسعة النطاق تستهدف المناصب العليا في أجهزة الاستخبارات الأمريكية؛ إذ يسعى إلى إقصاء الشخصيات التي يعتبرها معارضة أو غير موالية لسياساته وتوجهاته. وتأتي هذه الحملة استجابةً لرغبة ترامب في تقويض ما يراه "دولة عميقة" تعمل ضده، وتتضمَّن قائمةً بأسماء قيادات أمنية واستخباراتية قد يعتبرها ترامب عائقاً أمام تنفيذ سياساته خلال ولايته الأولى.وعلى رأس المستهدفين بهذه الحملة شخصيات بارزة مثل "كريستوفر راي" مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي؛ حيث سيعتمد ترامب على دعم من داخل البيت الأبيض ومن أعضاء جمهوريين في الكونجرس لإقصائه، كما تشمل الحملة عدداً من القيادات العليا في وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي، ومنهم على سبيل المثال، شخصيات مثل "وليام بيرنز" مدير الـCIA الحالي. بالإضافة إلى ذلك، تستهدف حملة التطهير بعض المناصب داخل الإدارات المتوسطة التي يُعتقد أنها داعمة لما يسميها ترامب "الثقافة المستنيرة" (woke culture)؛ حيث تشير التقارير إلى أن ترامب يسعى إلى تطهير الوكالات من أي تأثيرات سياسية تعتبر غير ملائمة، مثل دعم سياسات التنوع والشمول أو التركيز على قضايا تغير المناخ داخل الاستخبارات؛ حيث يعتبرها قضايا ثانوية تهدد التركيز على الأمن القومي. في السياق ذاته، سبق أن أشار دستن كارماك" مستشار الاستخبارات في حملته، إلى أهمية إزالة التأثيرات الليبرالية داخل الوكالات الاستخبارية، واصفاً هذه التحركات بأنها خطوة ضرورية لتعزيز التحليل النقي والموضوعي.3– إمكانية إعادة صياغة دور وكالة الاستخبارات المركزية: يتوقع أن يشمل التوجه السياسي لترامب تقليص نفوذ وكالة المخابرات المركزية لصالح تعزيز سلطة مكتب مدير الاستخبارات الوطنية؛ حيث من المحتمل إبعاد وليام بيرنز المدير الحالي لوكالة الـCIA، واختيار شخصية بديلة تتماشى أكثر مع توجهات ترامب. ومن الأسماء المحتملة البديلة لوليام بيرنز في منصب مدير وكالة المخابرات المركزية، قد تبرز شخصيات مقربة من توجهات الرئيس السابق ترامب، مثل "كريس ستيورات" النائب السابق عن ولاية "يوتا"، و"مايك بومبيو"، الذي شغل منصب مدير الوكالة سابقاً ووزير الخارجية، وريتشارد جرينيل القائم بأعمال مدير الاستخبارات الوطنية سابقاً، وكاش باتيل الذي عمل في مجلس الأمن القومي ومستشاراً لوزارة الدفاع، وبيتر هوكسترا السفير السابق وعضو الكونجرس، إضافةً إلى ستيف بانون، الذي يُعرَف بنفوذه في الأوساط اليمينية المقربة من ترامب.4– مواجهة أي معارضة داخل البيت الأبيض بشأن التغييرات في الاستخبارات: من المرجح أن تبدأ الولاية الثانية لترامب مع استمرار الصراع الداخلي بين البيت الأبيض وأجهزة الاستخبارات؛ حيث يخشى العديد من كبار المسؤولين من أن تصبح الأجهزة الأمنية أدوات سياسية خالصة. لذلك من المتوقع أن يواجه ترامب أي معارضة محتملة ضمن فريقه اللصيق في البيت الأبيض لمحاولات بسط النفوذ على الأجهزة الاستخباراتية؛ حيث قد يكون هذا التوجه صادماً لبعض المقربين في دائرته السياسية.5– إصلاحات في الشؤون الإدارية والبنية التنظيمية: من المحتمل أن يبدأ ترامب، في حال فوزه، بتنفيذ إصلاحات إدارية جذرية تهدف إلى تقليص البيروقراطية داخل الأجهزة الاستخباراتية، ويخطط لتحقيق ذلك من خلال الاعتماد على شخصيات محافظة بارزة مثل ماركو روبيو نائب رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، الذي يُعرف بمواقفه المؤيدة لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية. وتهدف هذه الإصلاحات إلى جعل الأجهزة الاستخبارية أكثر توافقاً مع الرؤية المحافظة، ويشمل ذلك إعادة النظر في سياسات التنوع الحالية، وتطبيق معايير توظيف تتماشى مع التوجهات الأيديولوجية للإدارة.ومن المرجح أن تشمل هذه التعديلات أيضاً تقليص البرامج التدريبية التي تركز على قضايا العدالة الاجتماعية والشمولية، والتركيز بدلاً من ذلك على تعزيز الكفاءة والأداء المهني بما يتماشى مع أولويات الأمن القومي، كما قد يتم توجيه الموارد بشكل أكبر نحو برامج مكافحة التهديدات الخارجية التي تنسجم مع أولويات السياسة الخارجية للإدارة، مع الحد من التدخل في القضايا التي تراها الإدارة غير ملائمة.6– الاهتمام بتعزيز القدرات التكنولوجية لأجهزة الاستخبارات: في فترة رئاسته الثانية، يُتوقع أن يجعل ترامب التكنولوجيا محوراً أساسياً في عمل أجهزة الاستخبارات، خصوصاً في ظل تصاعد التهديدات القادمة من الصين. في السياق&nbsp;ذاته، يسعى ترامب إلى تطوير القدرات التكنولوجية لهذه الأجهزة بحيث تكون مجهزة للتعامل مع التحديات الحديثة، مثل الهجمات السيبرانية والتجسس الرقمي. ومن المتوقع أن يوجه ترامب الاستخبارات الأمريكية للاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، وتطوير أدوات مراقبة حديثة لزيادة كفاءة جمع المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالأنشطة الصينية.بالتوازي، سيسعى ترامب إلى تقليل الاعتماد على التكنولوجيا الصينية ومنع الشركات الكبرى من التعاون مع الصين في المجالات الاستراتيجية؛ حيث من المتوقع أن يلعب "بيتر ثيل" دوراً بارزاً في دعم هذا التوجه، الذي يركز على تحصين سلاسل التوريد الأمريكية من التأثيرات الصينية، خاصةً فيما يتعلق بالرقائق الإلكترونية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، كما قد يكون مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي السابق، شخصية استشارية رئيسية في هذا المسعى؛ نظراً إلى خبرته ومعارضته القوية للنفوذ الصيني، فضلاً عن توقع تعيين ترامب شخصيات بارزة في المجال التكنولوجي، مثل ديفيد بيرنز لدعم هذه الخطط داخل الوكالات الاستخباراتية.7– ممارسة ضغوط لتغيير الثقافة داخل أجهزة الاستخبارات: من المتوقع أن يمارس ترامب ضغوطاً كبيرة لتغيير الثقافة الداخلية للأجهزة الاستخبارية، مع التركيز بشكل خاص على مراجعة البرامج التي تُعنى بسياسات "التنوع والشمول"، والتي يعتبرها غير متوافقة مع رؤيته لأجهزة استخبارية أكثر تجانساً وانسجاماً مع توجهات الإدارة. ومن بين المستشارين الرئيسيين المحتملين في هذا التوجه روبرت أوبراين مستشار الأمن القومي السابق، الذي يتبنى فكرة إعادة توجيه التركيز من التنوع إلى "الوحدة الداخلية"؛ ما يعزز ولاء الموظفين ويخدم أجندة الإدارة بشكل مباشر.ويهدف هذا التوجه إلى تقليص تأثير البرامج التي يُعتقد أنها تشتت الانتباه عن الأولويات الأمنية، مع توجيه الموارد نحو برامج تدريبية وسياسات داخلية تتماشى مع أهداف الأمن القومي الصارمة، كما يتوقع أن تشمل هذه التعديلات تعزيز الكفاءات الفنية والاستخباراتية، وتقديم حوافز إضافية للموظفين الذين يساهمون بفاعلية في تحقيق أهداف الإدارة. وقد يتم أيضاً إعادة هيكلة بعض الأقسام وتقليل الاعتماد على البرامج والمبادرات التي تُركز على التنوع، مع الاستعاضة عنها ببرامج تهدف إلى تعزيز التعاون والتنسيق بين الوكالات الأمنية المختلفة. هذا وتسعى هذه الاستراتيجية إلى بناء جهاز استخباراتي قوي ومتماسك، يركز بشكل أكبر على دعم السياسات الخارجية والأمنية للإدارة، ويقلل التأثيرات التي قد تعرقل وحدة التوجه داخل الوكالة.8– إعادة بناء العلاقات الاستخباراتية مع الحلفاء الدوليين: على الرغم من النهج الأحادي الذي يتبعه ترامب، فإنه قد يسعى إلى إعادة بناء العلاقات الاستخباراتية مع بعض الحلفاء الدوليين، خاصةً لمواجهة التحديات المشتركة. مثال على ذلك التعاون المتزايد المتوقع مع المملكة المتحدة في قضايا الأمن السيبراني المتعلقة بالصين، وقد يتم تكليف شخصيات مثل جون ديمرز المسؤول السابق بوزارة العدل، لتعزيز هذه العلاقات الاستخباراتية؛ حيث قد تساعد هذه الخطوات في تعزيز التحالفات الدولية الضرورية للأمن القومي الأمريكي.في الختام، قد يؤدي فوز ترامب بولاية ثانية إلى تغييرات كبرى في بنية أجهزة الاستخبارات الأمريكية وسياساتها؛ ما قد يؤثر على توازن القوى داخلها ويضعها في مواجهة مباشرة مع البيت الأبيض. هذا، وقد يعمد ترامب إلى تنفيذ هذه الاستراتيجية من خلال تعزيز سلطات مدير الاستخبارات الوطنية، وتنفيذ حملة تطهير داخلية، وتوجيه الجهود نحو مواجهة الصين؛ ما يُمكِّنه من إعادة تشكيل أجهزة الأمن القومي بما يتناسب مع رؤيته، وهو الأمر الذي من شأنه التسبب في صدامات كبيرة داخل تلك الأجهزة، وربما تحديات في تحقيق الاستقرار على المستويين الداخلي والخارجي.

التأثيرات المحتملة لفوز ترامب على أجهزة الاستخبارات الأمريكية