د. محمود زكريا

تشهد مالي (الواقعة في إطار إقليم غرب أفريقيا) تحولات على صعيد الوجود الأجنبي على أراضيها خلال الآونة الأخيرة، ولعل آخر مظاهر ذلك إعلان مجموعة "فاجنر" الروسية مغادرتها البلاد في 6 يونيو 2025، علماً بأن بداية وجودها تعود إلى أواخر عام 2021، وقد زعمت المجموعة في هذا الصدد أنها أنجزت مهمتها في مالي بنجاح ضد الجماعات المسلحة عبر استعادة عواصم إقليمية من المتمردين، والمساعدة في بناء القدرات العسكرية المحلية. ومن المزمع أن يحل "الفيلق الأفريقي" الذي تأسس في مطلع عام 2024 محل مجموعة "فاجنر" في مالي، وهو ما تبلور من خلال بيان صادر عن "الفيلق الأفريقي" في قناته على تطبيق "تليجرام"، والذي أُعلِن من خلاله أن مغادرة مجموعة "فاجنر" لن تُحدث أي تغييرات ميدانية، مع الإشارة إلى أن روسيا ستواصل دعم "باماكو" على مستويات أكثر جوهرية.سياقات دالةثمة جملة من السياقات التي يأتي في إطارها إعلان مجموعة "فاجنر" الانسحاب من مالي في مطلع يونيو 2025، وتتمثل أبرز تلك السياقات فيما يلي: 1- تنامي الخلافات بين الجيش المالي ومجموعة "فاجنر": تجلى ذلك من خلال عدة شواهد، لعل من بينها إفادة بعض التقارير الدولية في أكتوبر 2024 بوجود استياء كبير في صفوف مجموعة "فاجنر" من كفاءة الضباط والجنود الماليين، وافتقارهم للاحترافية المطلوبة، كما وصف بعض أتباع المجموعة الجنود الماليين بأنهم "هواة" على وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك قيام مجموعة "فاجنر" بنشر فيديو يُظهر علمها مرفوعاً فوق حصن في مدينة "كيدال" الواقعة في شمال مالي بعد سيطرتها على المدينة بفترة وجيزة في نوفمبر 2023، وذلك من أجل تسليط الضوء على دورها في طرد المتمردين، وقد كان هذا الإجراء رداً مباشراً على قائد النظام العسكري الحاكم "عاصيمي غويتا" الذي أشاد في خطابه ببطولة الجيش المالي، وتجاهل بشكل واضح مساهمة عناصر "فاجنر" الحاسمة في هذا النصر.2- تصاعد وتيرة الانتقادات الدولية ضد أنشطة "فاجنر": تجلى ذلك من خلال دعوة خبراء الأمم المتحدة السلطات المالية في مايو 2025 إلى التحقيق في تقارير عن عمليات إعدام بإجراءات موجزة واختفاء قسري مزعومة على يد مجموعة "فاجنر" والجيش المالي، وكذلك اتهمت منظمة "هيومن رايتس ووتش" القوات المسلحة المالية ومجموعة "فاجنر" بقتل ما لا يقل عن (32) مدنياً عمداً على مدار ثمانية أشهر في ديسمبر 2024، كما أشار تقرير صادر عن مركز المشاركة العالمية Global Engagement Center في فبراير 2024 إلى استخدام مجموعة "فاجنر" القتل العشوائي والاختطاف للسيطرة على منطقة تعدين رئيسية بالقرب من مدينة "بامباري" في أفريقيا الوسطى؛ حيث زعم التقرير قيام عناصر المجموعة بقتل عشرات من عمال المناجم السودانيين العاملين في مناجم الذهب الحرفية على طول الحدود بين السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى. كما رصدت بعض المنظمات والجمعيات الحقوقية، مثل جمعية "كل أكال" في مدينة&nbsp;"<a href="https://www.skynewsarabia.com/keyword-search?keyword=%D9%83%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D9%84&amp;contentId=1691850" rel="noopener noreferrer" target="_blank" style="color: black;">كيدال</a>" وجمعية "تابيتال بلاكو" في وسط&nbsp;<a href="https://www.skynewsarabia.com/keyword-search?keyword=%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A&amp;contentId=1691850" rel="noopener noreferrer" target="_blank" style="color: black;">مالي</a> وجمعية "كيسال" في "فلان ماسينا"، وقوع تجاوزات من قِبل مجموعة "فاجنر" ضد المدنيين في مالي. 3- تزايد الشكوك حول فاعلية الدور الأمني لمجموعة "فاجنر": يعزز ذلك ما أوردته لجنة خبراء تابعة للأمم المتحدة في تقريرها الصادر في أغسطس 2023، والذي كشف عن توسّع نفوذ تنظيم "داعش" في منطقة الساحل؛ حيث تمكن من مضاعفة رقعة سيطرته الإقليمية في مالي خلال أقل من عام، كما أكد التقرير أن عام 2022 يعد بمثابة العام الأكثر دموية للمدنيين منذ اندلاع الصراع في البلاد منذ عام 2012 وذلك رغم بدء انتشار قوات "فاجنر" في ديسمبر 2021، ويدعم هذه الشكوك أيضاً اعتراف المجموعة في يوليو 2024 بفقدان وحدة عسكرية كاملة ومقتل قائدها "سيرجي شيفتشينكو" خلال اشتباكات عنيفة مع متمردين من جماعة "الطوارق" في بلدة "تينزواتن" الواقعة في أقصى شمال شرق مالي قرب الحدود الجزائرية؛ حيث كانت قوات المجموعة تحاول التقدم للسيطرة على البلدة، التي تُعد من آخر المعاقل الواقعة تحت سيطرة المتمردين.4- تنامي حجم الخسائر العملياتية لمجموعة "فاجنر": فخلال الشهور الماضية تكبد عناصر مجموعة "فاجنر" والجيش المالي خسائر فادحة نتيجة هجمات جماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بتنظيم القاعدة. فعلى سبيل المثال، شنت الجماعة هجوماً على قاعدة "بولايكسي" العسكرية في وسط مالي في 3 يونيو 2025، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على 100 عنصر من الجيش المالي، بحسب بيانات الجماعة، كما أعلنت الحركة سيطرتها بشكل تام على القاعدة العسكرية. كما واصلت الجماعة عمليات استهدافها لقوات فاجنر والفيلق الأفريقي داخل مالي على مدار الشهور الماضية.تداعيات محتملةثمة جملة من التداعيات المحتملة والمرتبطة بإعلان مجموعة "فاجنر" الانسحاب من مالي، وتتمثل أبرز تلك التداعيات فيما يلي:1- تغير المنظور العملياتي للوجود العسكري الروسي في مالي: على الرغم من أن الانتقال من مجموعة "فاجنر" إلى "فيلق أفريقيا" يعكس استمرار الوجود الروسي في البلاد، إلا أن "موسكو" من المتوقع أن تُحكم قبضتها على الفيلق بشكل أكبر، وقد يتغير طابع الدور العسكري الروسي جزئياً؛ حيث يُتوقع أن يكون "الفيلق الأفريقي" أكثر تركيزاً حول العاصمة "باماكو" مع المشاركة في غارات جوية من حين إلى آخر ضد العناصر الإرهابية، وذلك بدلاً من الوجود العملياتي المتقدم والمتفرق نسبياً في القواعد والمواقع العسكرية المرتبطة بمجموعة "فاجنر"، مع وجود توقعات بأن يُركز "فيلق أفريقيا" على التدريب وتوفير المعدات العسكرية وخدمات الحماية وأشكال أخرى من المساعدة الأمنية، بدلاً من التركيز على أدوار القتال المباشر على الأرض.2- تبلور مخاوف لدى النظام الحاكم في مالي حيال "الفيلق الأفريقي": يعزز من ذلك مقاومة السلطات العسكرية الحاكمة في مالي تحمل "الفيلق الأفريقي" المسؤولية في البلاد منذ نشأته بدلاً من مجموعة "فاجنر"، ويُعزى ذلك جزئياً إلى العلاقات طويلة الأمد للنظام الحاكم في مالي بقيادة "عاصمي غويتا" مع قوات مجموعة "فاجنر"، والشعور العام لدى هذا النظام بأنه يتمتع بسيطرة أكبر على أنشطة المجموعة، وذلك على الرغم مما رصدته بعض التقارير الدولية من أن العديد من قادة مجموعة "فاجنر" السابقين قاموا بتغيير انتمائهم إلى "فيلق أفريقيا".3- تنامي احتمالات استهداف عناصر "الفيلق الأفريقي": يعزز من ذلك إصدار جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي يقودها "إياد أغ غالي" بياناً في يونيو 2025 دعت خلاله إلى إقامة حكومة شرعية في البلاد، وطالبت جميع الجماعات والقبائل بالوقوف ضد من وصفتهم بالغزاة والمحتلين. وقد أكدت خلال البيان اعتبار انسحاب مجموعة "فاجنر" بمثابة انتصار كبير، مع الإشارة إلى استمرار معركتها ضد الوجود العسكري الروسي، متهمة إياه بارتكاب مجازر ضد المدنيين. كما أشار بيان الجماعة إلى استمرار مقاومة كافة أشكال الاحتلال الأجنبي بمختلف صوره وتسمياته بغية تحقيق الاستقلال التام وتطبيق الشريعة الإسلامية.4- سعي روسيا إلى الحفاظ على استمرارية مصالحها الاقتصادية في مالي: من غير المتوقع أن يؤثر التحول المؤسسي حيال "الفيلق الأفريقي" على مصالح روسيا الاقتصادية في مالي، وخاصة فيما يخص قطاع التعدين، ويعزز من ذلك توقيع روسيا على اتفاق مع مالي لإنشاء مصفاة ذهب في العاصمة "باماكو" في عام 2023، كما أبرمت شركة "روساتوم" الروسية للطاقة النووية ثلاث مذكرات تفاهم في مجال الطاقة النووية في يوليو 2024، وقد سبق ذلك توقيع الشركة ذاتها اتفاقاً مع الحكومة المالية للتعاون في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية وذلك خلال فعاليات "أسبوع الطاقة الروسي" الذي انعقد في العاصمة الروسية "موسكو" في أكتوبر 2023، والذي تمحور موضوعه حول "الواقع الجديد للطاقة العالمية"، وقد حدد الاتفاق بين الجانبين مجالات التعاون ذات الأولوية، والتي شملت تطوير البنية التحتية للطاقة النووية، ونشر الوعي العام حول تقنيات الطاقة النووية، وإجراء البحوث الأساسية والتطبيقية، وضمان أمان الطاقة النووية، والسلامة الإشعاعية والفيزيائية، وتدريب الكوادر المتخصصة، بالإضافة إلى إنشاء مفاعلات بحثية ومحطات لتوليد الطاقة النووية.5- تصاعد وتيرة الخلافات بين مالي والقوى الغربية: يدعم ذلك استمرار الوجود الروسي المستقبلي في مالي من خلال "الفيلق الأفريقي"، وهو ما يشكل ضغطاً وتحدياً مؤثراً على وجود ومصالح القوى الغربية، ولعل أحد أبرز مظاهر ذلك قيام الحكومة المالية بإغلاق مكاتب شركة التعدين الكندية "باريك جولد" في العاصمة "باماكو" في أبريل 2025، ويرتبط ذلك بمزاعم تهربها من سداد الضرائب، كما هددت الحكومة بوضع منجم "لولو-غونكوتو" التابع للشركة تحت إدارتها المؤقتة، علماً أن الخلاف بين الجانبين يعود إلى عام 2024، وذلك عندما سعت السلطات الحاكمة إلى فرض أحكام قانون التعدين الصادر في عام 2023 على العقد القائم مع الشركة في إطار حملة أوسع تستهدف شركات تعدين الذهب الغربية العاملة في البلاد.ويُضاف إلى ما سبق اتخاذ مالي قراراً بطرد السفير السويدي في أغسطس 2024، وذلك رداً على تصريح وزير الخارجية السويدي "يوهان فورسيل" العدائي ضد مالي، والذي وجه من خلاله اتهامات للأخيرة بدعم "حرب روسيا العدوانية غير القانونية ضد أوكرانيا" ولاتخاذها قراراً بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا في الشهر ذاته، كما اتخذت مالي قراراً بطرد السفير الفرنسي لديها في يناير 2022 وذلك بعدما قام الأخير بوصف المجلس العسكري الانتقالي الحاكم بأنه "غير شرعي"، وأعقب ذلك قيام فرنسا بإنهاء عملية "برخان" في أغسطس 2022، والتي كانت قد بدأت مهامها في عام 2014.6- توسع أنشطة "الفيلق الأفريقي" في منطقة الساحل الأفريقي: يُعزز من ذلك محاولة روسيا تقديم وجودها العسكري في هذه المنطقة بصورة مغايرة عبر "الفيلق الأفريقي" الذي أُعلن عن تأسيسه في مطلع عام 2024 ليحل محل مجموعة "فاجنر" بعد مقتل زعيمها السابق "يفجيني بريجوجين" في أغسطس 2023، وذلك انطلاقاً من طبيعة الهيكل المؤسسي الرسمي والمعلن لـه الذي يتبع مباشرة للإدارة العسكرية الروسية تحت إشراف نائب وزير الدفاع الروسي "يونس بك يفكوروف"، وهو ما يمنحه -من وجهة النظر الروسية- طابعاً رسمياً وشرعياً في أداء المهام الأمنية داخل الدول الأفريقية، ويتراوح عدد عناصره بين (40 – 45) ألف مقاتل، وتشكّل العناصر السابقة في مجموعة "فاجنر" نواته الأساسية، إذ تمثل قرابة نصف قوامه الإجمالي، وذلك إلى جانب العناصر العسكرية الروسية والأفريقية ذات الكفاءة القتالية العالية. 7- احتمالية اتجاه العلاقات بين مالي والجزائر نحو التهدئة: قد يُسهم انتهاء دور مجموعة "فاجنر" في مالي إبّان يونيو 2025 في تخفيف حدة التوتر في العلاقات الثنائية بين الجانبين، والتي شهدت حالة من التدهور خلال السنوات الأخيرة؛ حيث وجّهت الجزائر تحذيراً إلى مالي بشأن دور مجموعة "فاجنر" في الهجمات التي نفّذها الجيش المالي على معاقل المتمردين في شمال البلاد في نوفمبر 2023، وقد أعقب ذلك توتر دبلوماسي تمثّل في استدعاء مالي سفير الجزائر في ديسمبر 2023 احتجاجاً على ما وصفته بتدخل جزائري في شؤونها الداخلية، وذلك بعد أن استضافت الجزائر بعض قادة جماعة "الطوارق" دون تنسيق مسبق مع "باماكو"، كما ردّت الجزائر باستدعاء السفير المالي لديها للرد على هذه الاتهامات. وتصاعدت حدة التوتر بين البلدين مع إعلان المجلس العسكري في مالي في يناير 2024 إنهاء العمل باتفاق السلام الموقّع مع المتمردين في الجزائر عام 2015، متهماً الجزائر بالقيام بأعمال عدائية والتدخل في الشأن الداخلي لمالي. وكانت آخر محطات التوتر بين الدولتين في أبريل 2025، عندما أسقط الجيش الجزائري طائرة مُسيّرة مالية اخترقت مجاله الجوي لفترة وجيزة.وختاماً، يمكن القول إن إعلان مجموعة "فاجنر" انسحابها من مالي في يونيو 2025 لا يعني نهاية التدخل العسكري الروسي الممتد في البلاد منذ عام 2021؛ حيث تسعى روسيا إلى الحافظ على استمرار وجودها العسكري عبر "الفيلق الأفريقي" بغية ترميم صورتها ومراجعة أدائها الأمني، ليس فقط على مستوى مالي بل منطقة الساحل الأفريقي ككل، وذلك من خلال توجه "موسكو" نحو تأطير تدخلاتها العسكرية ضمن قنوات رسمية ومنظمة وأكثر انضباطاً تحت مظلة "الفيلق الأفريقي"، وذلك سعياً لإعادة بناء جسور الثقة المتبادلة مع النظام العسكري الحاكم في مالي والحكومات الأفريقية بالمنطقة ككل.

ما تداعيات انسحاب "فاجنر" من مالي؟