إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

عُقد بعاصمة قرغيزستان "بيشكيك" الاجتماع الــ11 لمجلس منظمة الدول التركية في 6 نوفمبر 2024، بمشاركة الرئيس "رجب طيب أردوغان"، وقادة دول المنظمة المشاركين بها. وجاءت القمة تحت شعار "تعزيز العالم التركي: التكامل الاقتصادي والتنمية المستدامة والمستقبل الرقمي والأمن للجميع". وبختام القمة، أصدرت المنظمة "إعلان قيرغيزيا" الذي دعا إلى تعزيز التعاون بشتى المجالات بين دول العالم التركي، حيث تم توقيع 16 اتفاقية وقراراً وبروتوكول تعاون، إضافةً إلى دعوة المنظمة لضرورة وقف الإبادة في غزة، والتوصل إلى وقف عاجل ودائم لإطلاق النار في لبنان. وشهدت هذه القمة أهمية خاصة، كونها تزامنت مع تصاعد الصراعات الإقليمية، وفوز "ترامب" بالرئاسة الأمريكية، فضلاً عن المتغيرات الجيوسياسية الإقليمية في آسيا الوسطى.نتائج مهمةكشفت قمة قيرغيزيا عن تصاعد مستويات التعاون بين منظمة الدول التركية، والتي انتهت إلى جملة من النتائج المهمة، والتي يمكن بيانها على النحو التالي:1- دعم فرص التعاون الاقتصادي البيني: أبدت قمة قيرغيزيا اهتماماً لافتاً بدعم وتعزيز فرص التعاون الاقتصادي بين دول المنظمة التركية، حيث كشف أمين عام المنظمة "قوبانيتش بيك عمر"، عن توقيع عدد من بروتوكولات التعاون الاقتصادي بين دول المنظمة. كما تم التوقيع خلال قمة قيرغيزيا على عدد واسع من الاتفاقيات وبروتوكولات التعاون بهدف تعزيز التعاون التركي، فضلاً عن توقيع مجلس رؤساء الدول الأعضاء على "إعلان بيشكيك"، والذي تضمن إنشاء مجلس التمويل الاقتصادي الأخضر، وتأسيس مجلس البنوك المركزية للدول الأعضاء، بالإضافة إلى إقرار التعاون في مجال الاقتصاد الرقمي.جدير بالذكر أن دول المنظمة تمتلك قدرات اقتصادية كبيرة، أهمها الموقع الجغرافي والاستراتيجي لدول المنظمة في قلب القارة الآسيوية. وبحسب التقديرات، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لدول المنظمة 1.5 تريليون دولار، فيما يبلغ حجم تجارة الدول الأعضاء في الاقتصاد العالمي 536 مليار دولار. كما وصل حجم المبادلات التجارية بين دول المنظمة التركية إلى نحو 42 مليار دولار بنهاية 2023.2- تعزيز سياسة توسيع المنظمة: أبدت قمة قيرغيزيا حرصاً على توسيع وترسيخ دور أطراف خارجية في منظمة الدول التركية، وتجلى ذلك في مشاركة رئيس جمهورية قبرص الشمالية ورئيس وزراء المجر كعضوين مراقبين. كما تضمن "إعلان بيشكيك" الموافقة على استضافة المجر للقمة غير الرسمية للمنظمة عام 2025. وقد رحبت دول المنظمة بهذا القرار، ولا سيما أن المجر تُعد من أكثر الدول الداعمة لسياسات وتوجهات تركيا ومنظمة الدول التركية، والأكثر دفاعاً عن مصالح تركيا داخل منظومة الاتحاد الأوروبي. كما سبق هذه الخطوة، توقيع "خطة العمل المشترك" في مايو 2024 بين منظمة الدول التركية ووزارة الخارجية والتجارة الدولية المجرية، والتي تهدف إلى دعم تطوير العلاقات بين المنظمة والمجر.3- إقرار وحدة الأبجدية اللغوية: أكدت مخرجات قمة قيرغيزيا على أهمية تطوير نموذج لغوي واسع لمنظمة الدول التركية، من خلال الالتزام بإقامة نظام أبجدية مشتركة. وفي ضوء ذلك، أقرت قمة قيرغيزيا تفعيل "لجنة الأبجدية المشتركة" التي تأسست خلال "ورشة العمل التركية العالمية المشتركة للأبجدية"، التي عُقدت في مدينة بورصة في أكتوبر 2024، في ذكرى يوم اللغة. وتعي المنظمة أن بناء وحدة لغوية مشتركة، يمكن أن يعزز من الدور المحوري للمنظمة عالمياً وإقليمياً، فضلاً عن تسهيل برامج الشراكة بين الدول الأعضاء في المنظمة.4- إدانة الممارسات الإسرائيلية في غزة: أقر "إعلان بيشكيك" اتفاقاً مشتركاً لجهة التحرك لوقف ممارسات الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، واعتماد استراتيجية دعم إقامة الدولة الفلسطينية. كما أدانت قمة قيرغيزيا الاستهداف العشوائي للمدنيين الفلسطينيين، وشددت على ضرورة التوصل إلى وقف عاجل ودائم لإطلاق النار وفقاً للقانون الدولي، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، بالإضافة إلى الدعوة لضرورة وقف فوري لإطلاق النار في لبنان. بالتوازي، عبرت قمة قيرغيزيا عن قلق عميق إزاء الهجمات الإسرائيلية المتعمدة ضد قوات حفظ السلام الأممية جنوب لبنان. وقد دعت القمة إلى التركيز على إقرار الأمن في منطقة الشرق الأوسط باعتباره أولوية في عمل المنظمة، وباعتبار حالة عدم الاستقرار الإقليمي تنعكس على الأمن القومي بآسيا الوسطى.5- التأكيد التركي على محاربة الإرهاب: أكد "أردوغان" أن التعاون بين أنقرة وبشكيك في مجال مكافحة التنظيمات الإرهابية وخاصة حركة "جولن" أو (الخدمة) سيستمر دون انقطاع (هذا نظراً لوفاة ملهم الحركة المفكر الإسلامي التركي فتح الله جولن في أكتوبر 2024 في منفاه بولاية بنسلفانيا الأمريكية)، وكانت بشكيك قد استجابت لطلبات أنقرة بغلق المؤسسات التعليمية التابعة للحركة واعتقال عدد من المدرسين العاملين بها. وبعد وفاة "جولن" تعهد "أردوغان" باستمرار ملاحقة الحركة التي يستخدمها "كعدو وهمي" له لحشد المواطنين ورفع شعبيته، كما أن أنقرة تدعو دول المنطقة لتصنيف حزب "العمال الكردستاني" الكردي كتنظيم إرهابي بيد أنها ترفض حتى الآن.دلالات متنوعة كشفت نتائج ولقاءات قمة قيرغيزيا لمنظمة الدول التركية عن عدة دلالات مهمة، يتمثل أبرزها فيما يلي:1- تعزيز الوجود في الحزام الإقليمي للمنظمة: مثَّل حضور رؤساء الدول المشاركة في القمة، بالإضافة إلى رئيس الوزراء المجري، ورئيس جمهورية قبرص الشمالية، إضافةً جديدة لدورها الإقليمي، لا سيما في ظل حرص دول المنظمة على تعزيز نفوذها الجيوسياسي في آسيا الوسطى تحسباً لأية تطورات محتملة بعد وصول المرشح الجمهوري "دونالد ترامب" إلى رئاسة البيت الأبيض، وفي ظل مساعي روسيا والصين لتمديد نفوذهما في المنطقة على حساب الدور التركي.2- توطيد العلاقات البينية بين دول المنظمة التركية: سعى "إعلان بيشكيك" الصادر عن قمة قيرغيزيا الــ11 إلى تعزيز دور منظمة الدول التركية، وتطوير حضورها الاقتصادي، لتصبح المنصة الرائدة في آسيا الوسطى، وذلك من خلال تعزيز علاقاتها البينية. وهنا، يمكن تفسير مذكرات التعاون الموقعة على هامش قمة قيرغيزيا بين دول المنظمة. فعلى سبيل المثال، وقعت تركيا وقيرغيزيا 19 اتفاقية في مجالات الأمن والدفاع والتجارة والطاقة والهجرة.3- تحييد ضغوط المنافسين في آسيا الوسطى: يمكن تفسير اعتماد "إعلان بيشكيك" خطوات جديدة تتعلق بتأسيس آلية الحماية المدنية، ودعم شبكة بين جمعيات الهلال الأحمر في الدول الأعضاء، وتعزيز التفاهمات السياسية المشتركة، بأنها تستهدف مواجهة ضغوط المنافسين للمنظمة في آسيا الوسطى، وخاصة موسكو وبكين اللتين تسعيان بشكل غير مباشر إلى لجم تحركات أنشطة منظمة الدول التركية في آسيا الوسطى، باعتبار ذلك يتعارض مع مصالحهما ونفوذهما في الإقليم، سيما روسيا التي تعتبر آسيا الوسطى حديقتها الخلفية.4- توافق دول المنظمة على دعم تسوية الأزمات الإقليمية: يمكن تفسير اهتمام "إعلان بيشكيك" بتطورات الأوضاع في غزة ولبنان، بأنه رد مباشر على رفض الممارسات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا، باعتبارها دولاً مسلمة، وبعضها حليف لدول المنظمة أو تربطها علاقات استراتيجية مع دولها. وفي هذا السياق، يمكن فهم دعوة قمة قيرغيزيا لضرورة وقف الحرب في منطقة الشرق الأوسط، ودعم جهود إقامة دولة فلسطينية.كما أعلن الرئيس "رجب طيب أردوغان" في كلمته أمام قمة قيرغيزيا رفض بلاده "الوحشية والمجازر التي تحدث في قطاع غزة"، وأضاف: "نعتقد أن على العالم التركي اتخاذ موقف صارم تجاهها". وتشير مواقف منظمة الدول التركية تجاه تطورات الشرق الأوسط إلى احتمالات تصاعد مواقفها المناهضة لإسرائيل، وذلك في ضوء الروابط الدينية والتجارية التي تجمعها بالدول المسلمة في منطقة الشرق الأوسط.5- التعويل على دور المجر بالمنظمة: دعا "جاباروف" لضرورة التواصل والتنسيق بين منظمة الدول التركية وبين الاتحاد الأوروبي على كافة المستويات، لتحقيق تعاون مثمر ودعم علاقات الشراكة ضمن الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية الأخرى. وأكد أن المجر أصبحت جسراً لتعزيز الحوار السياسي بين الدول التركية والأوروبية. وفي ختام القمة منح "جاباروف" رئيس الوزراء المجري "فيكتور أوربان" "أعلى وسام للعالم التركي"، وأكد أن التكريم جاء تقديراً لإسهاماته الكبيرة في تطوير العلاقات بين الدول الأعضاء والمراقبين في منظمة الدول التركية، وكذلك لرفع مكانة المنظمة على الساحة الدولية، وأشاد "أوربان" بجهود قيرغيزستان الرامية إلى تعزيز الأمن العالمي من خلال جهودها لمحاربة المنظمات الإرهابية وموقفها المؤيد للسلام، وكشف عن إنشاء صندوق استثماري مجري قرغيزي لتمويل بناء محطة للطاقة الكهرومائية ومبادرات زراعية، كما أعلن عن منح الطلاب القيرغيز 200 منحة دراسية، وكشف عن سعيه لمضاعفة هذا العدد، حيث تعول دول المنظمة على دور المجر للتقريب بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي بصفتها عضواً فيه.6- الدعوة لدمج حكومة "طالبان" إقليمياً: دعا رئيس أوزبكستان شوكت ميرضيائيف لضرورة تقديم المساعدة للحكومة الأفغانية الحالية وجذبها إلى العمليات الاقتصادية الإقليمية، وهذه الدعوة تهدف لتعزيز حكم حكومة "طالبان" المسيطرة على الحكم بأفغانستان منذ أغسطس 2021، كي تسيطر على كافة التنظيمات الإرهابية والمسلحة بالدولة لمنع تسللهم لدول الجوار ومنها دول آسيا الوسطى، كما أن انتشار الفوضى الأمنية بأفغانستان سيؤثر سلباً على دول الجوار لها، ولذا ربما تسعى المنظمة لدمج أفغانستان في مؤسساتها مستقبلاً بصفة "مراقب" ولا سيما في ظل التواصل بين حكوماتها وحكومة "طالبان".7- تصاعد التنافس الروسي التركي بالمنطقة: غداة ختام القمة التركية شاركت دول آسيا الوسطى في الاجتماع الثاني عشر لأمناء مجالس أمن بلدان الدول المستقلة في موسكو برئاسة الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" وتضم 12 دولة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، ودعا "بوتين" لتعديل مواثيقها الاستراتيجية وتوظيف إمكاناتها لمواجهة التهديدات الداخلية والخارجية لها، مما يؤكد تصاعد التنافس بين النفوذ الروسي والتركي بالمنطقة، لا سيما وأنهما أكثر دولتين تسيطران اقتصادياً وثقافياً وسياسياً على دول المنطقة، ومن المتوقع أن يتصاعد ذلك التنافس خلال المرحلة المقبلة مع تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة، ورغبة "ترامب" في إنهاء الحرب الأوكرانية الذي سيعد انتصاراً لروسيا وسيمنحها المزيد من النفوذ بالمنطقة.8- استمرار مساعي تطوير ممرات النقل الإقليمي: دعا الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت&nbsp;توكاييف لضرورة الاستفادة من إمكانات الممر الأوسط الذي له أهمية استراتيجية لمزيد من التنمية الاقتصادية للعالم التركي، وطالب بإبرام اتفاقية لضمان التنمية المستدامة لنقل البضائع على طول هذا الطريق، وتنمية رأس المال البشري، حيث ما زالت دول آسيا الوسطى الحبيسة تعمل على إنشاء ممرات نقل إقليمية توصل منتجاتها ولا سيما من النفط والغاز الوفير لديها للدول الأوروبية، وتعرض تركيا نفسها كوسيط لإنشاء تلك الممرات التي يعد أبرزها "الممر الأوسط"، وهو شبكة عبور تربط الأسواق الأوروبية بآسيا عبر دول إقليم آسيا الوسطى وبحر قزوين والقوقاز، ويهدف إلى زيادة تجارة البضائع بنسبة 40% بحلول عام 2030، لتصل إلى 11 مليون طن حال تم الانتهاء منه.تحديات قائمة ختاماً، يمكن القول إن منظمة الدول التركية نجحت في تطوير التعاون فيما بين أعضائها على مدى عقد ونصف العقد، وتجلى ذلك في دعم التنسيق السياسي، وتوسيع مجالات التعاون الاقتصادي، ومحاولة جذب أعضاء جدد، وكذلك تعزيز وجودها في آسيا الوسطى. بيد أن ثمة تحديات لا تزال تواجه المنظمة، منها التحركات الروسية الصينية المضادة، بالإضافة إلى انعكاس تراجع مؤشرات الاقتصاد خلال السنوات الخمس الماضية على نشاط وفعاليات تركيا مع دول المنظمة.

ما فرص نجاح منظمة الدول التركية في تعزيز التعاون بين أعضائها؟