إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

تشهد العلاقات بين جيبوتي وأرض الصومال "صوماليلاند" الواقعتَين في إطار إقليم شرق أفريقيا، حالة من تصاعد وتيرة الخلافات البينية منذ مطلع عام 2024، ولعل آخر مظاهر ذلك اتهام رئيس أرض الصومال "موسى بيهي عبدي" جيبوتي بإيواء جبهة مناوئة لإدارته تُهدِّد بالسيطرة على إقليم "أودل" الواقع في أرض الصومال. وقد جاء ذلك في إطار لقاءٍ عقده رئيس أرض الصومال مع مسؤولين وشيوخ عشائر هذا الإقليم؛ وذلك في مطلع يوليو 2024. وقد نفت جيبوتي من جانبها هذه الاتهامات الموجهة إليها في هذا الشأن عبر وزير المالية "إلياس موسى"، الذي أكد دعم بلاده العمل الجماعي والتكامل الإقليمي وتعزيز السلام والاستقرار الإقليميَّين. ويمكن فهم وقراءة مشهد التوتر السائد في التفاعلات بين جيبوتي وأرض الصومال في ضوء عدد من الملامح الرئيسية والتداعيات المحتملة.ملامح رئيسيةثمَّة جملة من الملامح الرئيسية الدالة على تصاعد وتيرة التوترات بين جيبوتي وأرض الصومال خلال الآونة الأخيرة، وهي الملامح المتمثلة فيما يلي: 1– اتهام "صوماليلاند" جيبوتي بالتدخل في شؤونها الداخلية: تبلور ذلك من خلال توجيه رئيس أرض الصومال "موسى بيهي عبدي" اتهاماً لجيبوتي بإيواء جبهة مناوئة لإدارته، تُهدِّد بالسيطرة على إقليم "أودل" الواقع في أرض الصومال. وقد تمت الإشارة إلى ذلك في إطار لقاءٍ عقده رئيس أرض الصومال مع مسؤولين وشيوخ عشائر هذا الإقليم؛ وذلك في مطلع يوليو 2024، وهو اللقاء الذي أكد خلاله استنكاره ورفضه التام لاحتضان جيبوتي جبهةً مناوئةً ضد أرض الصومال، مع تأكيده كذلك رفض مختلف السياسيين في أرض الصومال لمثل هذا التحرك، وتمسُّكهم بحماية وطنهم؛ حيث وجه زعيم حزب العدالة والتنمية "فيصل علي ورابي" – وهو حزب ذو توجهات معارضة في أرض الصومال – اتهامات لكل من جيبوتي والصومال بالتآمر على أرض الصومال لتدمير السلام الذي تتمتع به.2– نفي جيبوتي مزاعم تشكيل جبهة مناوئة ضد "صوماليلاند": قام وزير مالية جيبوتي "إلياس موسى" باستنكار ورفض الاتهامات الموجهة من قِبل رئيس أرض الصومال "موسى عبدي" لبلاده باستضافة جبهة مناوئة لأرض الصومال؛ حيث أكد عدم صحة ومصداقية هذه الاتهامات على الإطلاق، وأشار إلى أن جيبوتي من الدول الإقليمية الداعمة للعمل الجماعي والتكامل الإقليمي والسلام والاستقرار الإقليميَّين، كما حث المسؤولين في أرض الصومال على عدم إشراك جيبوتي في سياساتهم الداخلية أو أجندة حملاتهم الانتخابية، وأكد أن جيبوتي كانت تُوجَّه إليها اتهامات بشأن تقديم الدعم لحكومة أرض الصومال في صراعها المسلح الدائر ضد إدارة "خاتمة" في مدينة "لاسعانود" التي تُعَد بمنزلة مركز لإقليم "سول"؛ وذلك خلال عام 2023.3– رفض جيبوتي اتفاق إثيوبيا و"صوماليلاند" للوصول إلى البحر الأحمر: حرصت جيبوتي، منذ الوهلة الأولى، على تسجيل رفضها التام لمذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وأرض الصومال في يناير 2024، التي تقضي باستئجار إثيوبيا نحو (20) كم حول ميناء "بربرة" على خليج عدن، والتي تتيح لها إمكانية الوصول إلى البحر الأحمر لمدة (50) عاماً؛ لأغراضها البحرية والتجارية؛ وذلك في مقابل الاعتراف بأرض الصومال دولةً مستقلةً ذات سيادة. وقد تبلور الموقف الرسمي لجيبوتي الرافض لهذا الأمر في إصدار وزارة خارجيتها بياناً رسمياً في يناير 2024، وهو البيان الذي أكدت من خلاله قلقها البالغ بشأن التوتر بين الصومال وإثيوبيا، وأشارت إلى دعمها بقوة لحماية سيادة ووحدة واستقلال أراضي جميع الدول الأعضاء في تجمع "إيجاد" الذي تتولى رئاسته، انطلاقاً من اتساق ذلك مع نصوص وبنود القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي الصادر في "لومي" في عام 2000، كما دعا البيان إلى أهمية تبني سلوك الحوار من أجل حل الأزمة القائمة بين الطرفين.4– انتقاد "صوماليلاند" استراتيجيات الدفاع الإقليمية لجيبوتي: يأتي ذلك في ضوء اتهام "صوماليلاند" لجيبوتي بشأن استخدام أراضيها وأراضي الصومال كأدوات ضد إريتريا التي لديها نزاع حدودي مستمر معها منذ عام 1996، وكذلك استخدام أراضيهما لقمع الانتفاضات المحتملة لجماعة "العفر" المهمشين في جيبوتي. وعلاوةً على ذلك تتهم جيبوتي بدفع وتيرة استمرار العداء بين الصوماليين والإثيوبيين لإجبار إثيوبيا على الاعتماد على موانئ جيبوتي فقط؛ ما يعزز مصالحها الاقتصادية والأمنية.تداعيات محتملةثمة مجموعة من التداعيات المحتملة المؤثرة على تصاعد وتيرة الخلافات بين جيبوتي وأرض الصومال خلال الآونة المقبلة، وهي التداعيات المتمثلة فيما يلي: 1– تعثر مهمة جيبوتي كوسيط بين الحكومة الصومالية و"صوماليلاند": من المرجح أن تتأثر مهمة الوساطة التي تقوم بها جيبوتي بقيادة الرئيس "إسماعيل عمر جيله" لتحقيق نوع من المصالحة الوطنية بين الحكومة المركزية الصومالية وأرض الصومال التي أعلنت انفصالها من جانب واحد في عام 1991؛ حيث بدأت سلسلة من المفاوضات بين الطرفين منذ عام 2012، واستضافت جيبوتي بعض جولاتها من قبيل تلك التي جرت في ديسمبر 2014، ويونيو 2020، ولعل آخر هذه الجولات تلك التي كانت في ديسمبر 2023، والتي تم في إطارها الاتفاق بين الرئيس الصومالي "حسن شيخ محمود" ورئيس أرض الصومال "موسى بيهي عبدي" على استئناف المفاوضات السياسية مع التركيز على القضايا المصيرية للوصول إلى حل دائم، وكذلك وضع عملية خارطة طريق للنقاش حول القضايا المصيرية، وتعيين لجان فنية لتسهيل التعامل مع هذه القضايا في المفاوضات القادمة، وتنفيذ الاتفاقات التي تم التوصل إليها في المفاوضات السابقة منذ عام 2012 حتى تاريخه، وتأكيد التعاون الكامل في المجالات الأمنية ومكافحة الجريمة المنظمة من خلال التواصل الكامل مع الجهات المسؤولة، والإسهام في إحلال السلام والاستقرار في الأماكن والمناطق التي توجد بها صراعات، وإيجاد طرق أمثل لحلها، والابتعاد عن كل ما يشكل ضرراً بأجواء المفاوضات.2– فرض ضغوط اقتصادية متفاقمة على جيبوتي: يرتبط ذلك بتراجع الإيرادات المالية المتحققة من ميناء "جيبوتي"؛ وذلك بفعل تحويل إثيوبيا اهتمامها في صلاتها التجارية الخارجية بعيداً عن جيبوتي، التي كانت تعتمد عليها اعتماداً رئيسياً منذ انفصال إريتريا عنها؛ حيث كانت تعتمد في إطارها على ميناءَي "عصب" و"مصوع"، وهو ما جعل ميناء "جيبوتي" بمنزلة المنفذ البحري الوحيد الذي يوصل إثيوبيا إلى البحر الأحمر؛ إذ يمر من خلاله نحو (95%) من تجارتها مع العالم الخارجي. ونتيجةً لمذكرة التفاهم التي عُقِدت بين إثيوبيا وأرض الصومال للحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر في مطلع عام 2024، فإن ذلك قد يؤدي إلى خسارة جيبوتي الرسوم التي تدفعها الحكومة الإثيوبية، والتي تُقدَّر بنحو مليارَي دولار سنوياً، والتي تمثل نحو (13.6%) من ميزانية إثيوبيا لعام 2024 التي تبلغ نحو (14.7) مليار دولار.3– تصاعد المنافسة على الموانئ بين جيبوتي و"صوماليلاند": تبلور ذلك من خلال تقدُّم تصنيف ميناء "بربرة" الواقع في أرض الصومال في مؤشر أداء موانئ الحاويات لعام 2023؛ حيث احتل الترتيب الـ(106) من أصل (405) على المستوى العالمي، وهو ما شكَّل تقدماً بنحو (38) مركزاً بالمقارنة بالعام السابق، وهو ما جعله يتصدَّر جميع موانئ إقليم أفريقيا جنوب الصحراء ليحل محل ميناء "جيبوتي" الذي احتل المركز الأول على مدى ثلاث سنوات متتالية، والذي جاء في الترتيب الـ(379) وفقاً للمؤشر ذاته، وهو ما شكَّل انخفاضاً ملحوظاً بمقدار (353) مركزاً في غضون عام واحد فحسب.4– تعزيز التقارب بين جيبوتي والصومال: يعزز من ذلك تعاظم التنسيق الأمني المشترك بشأن مكافحة التهديدات والمخاطر الأمنية المصاحبة لحركة الشباب المجاهدين في الصومال، ولعل هذا ما حملته مضامين الزيارات المتبادلة بين الطرفَين، التي كان آخرها في ديسمبر 2023. ويضاف إلى ما سبق التطابق في المواقف بين الجانبَين بشأن الموقف الرافض للتحركات الإثيوبية تجاه التوقيع على مذكرة تفاهم مع أرض الصومال بشأن الوصول إلى البحر الأحمر، التي جرت في مطلع عام 2024؛ حيث أكد وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي بالإنابة بجمهورية الصومال "علي محمد عمر" أن الاتفاق الذي أُبرِم بين الطرفَين غير قانوني بشكل تام، ويقع خارج نطاق القواعد الدولية، ويُعَد تعدياً على سيادة الصومال وتهديداً لوحدته واستقلاله. وقد أعقب ذلك قيام الحكومة الصومالية بالإعلان عن عودة السفير الإثيوبي لديها إلى بلاده للتشاور وإغلاق قنصليتَي إثيوبيا في أرض الصومال و"بونتلاند"؛ وذلك في أبريل 2024.5– دعم جيبوتي تحالفاتها الخارجية للضغط على "صوماليلاند": تبلور ذلك من خلال توقيع وزير الدفاع التركي "يشار جولر" ثلاث اتفاقيات تعاون مع جيبوتي، وهي الاتفاقيات التي شملت التعاون في مجال التدريب العسكري، والتعاون المالي العسكري، وبروتوكول تنفيذ المساعدات النقدية؛ وذلك في فبراير 2024. ومن المرجح أن تؤسس هذه الاتفاقيات لقيام الجيش التركي بتدريب وتأهيل القوات الجيبوتية، وتمهد لافتتاح قاعدة عسكرية لوجستية لتركيا في جيبوتي. وقد سبق ذلك توقيع تركيا والصومال اتفاقية إطارية للتعاون الدفاعي والاقتصادي لمدة عشر سنوات؛ وذلك خلال اجتماع جمع وزير الدفاع التركي "يشار جولر" ونظيره الصومالي "عبد القادر محمد نور" في العاصمة التركية "أنقرة" في فبراير 2024.وقد وافق البرلمان الاتحادي الصومـالي على الاتفاقية بأغلبية (213) صوتاً. وبموجب هذه الاتفاقية ستوفر تركيا بناء وتدريب وتجهيز القوات البحرية الصومـالية وتطوير قدراتها، كما تمنح الاتفاقية تركيا سلطة شاملة لحماية البحر الصومـالي وحدوده المائية من أي تهديد خارجي، وفي المقابل ستحصل تركيا على نحو (30%) من عائدات المنطقة الاقتصادية الخالصة للصومال، كما يرجح أن تساهم الاتفاقية في فتح الطريق أمام شركات البترول التركية للحصول على امتياز التنقيب واستخراج البترول والغاز في سواحل الصومـال.6– تباعد الصلات بين جيبوتي وإثيوبيا: فعلى الرغم من العلاقات الوثيقة التي ربطت الجانبَين على الصعيد الاقتصادي، ولا سيما منذ انفصال إريتريا عن إثيوبيا في عام 1993 – وذلك عبر خط السكة الحديدية العابر للحدود الذي يربط بين العاصمة الإثيوبية "أديس أبابا" وميناء "جيبوتي"، ويبلغ طوله نحو (750) كم، وبدأ تشغيله في يناير 2018 – فإن اتفاق إثيوبيا مع أرض الصومال بشأن الحصول على منفذ بحري في مطلع عام 2024 سيُلقي بظلاله السلبية؛ ليس على كثافة ومضامين التفاعلات المشتركة فحسب، بل على مجمل الترتيبات المتعددة الأطراف في إطار منطقة القرن الأفريقي، ولا سيما المتصلة بمكافحة الإرهاب وتحقيق التنمية الإقليمية.وختاماً، يمكن القول إن التفاعلات القائمة بين جيبوتي وأرض الصومال تشهد قدراً كبيراً من التوتر خلال الآونة الأخيرة، ولعل هذا يرتبط في الأساس بالتقارب الإثيوبي المتصاعد مع أرض الصومال بشأن الحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر؛ وذلك على نحو يُشكِّل تأثيراً سلبياً ذا مردود اقتصادي مباشر على جيبوتي، وهو الأمر الذي سينتج عنه تحرك الأخيرة تجاه تعزيز الصلات مع بعض الأطراف الإقليمية، وعلى رأسها الصومال وكينيا؛ لتعزيز المصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة من جانب، والابتعاد عن التنسيق مع إثيوبيا فيما يخص الترتيبات والسياسات الإقليمية في إطار منطقة القرن الأفريقي من جانب آخر.

تصاعد التوترات بين جيبوتي وأرض الصومال